
محمد الشركي
في مجال التواصل بمفهومه الافتراضي المعولم، كانت اللعبة، منذ البدء، أكبر من اللاعبين الصغار المتمثلين في المجتمعات المستهلكة السكونية، قبل أن تصير لاحقاً، مع ظهور ذئاب “النت المظلم “Dark Web، أكبر حتى من اللاعبين الأساسيين. فما بدأ قبل زهاء ثلاثة عقود كثورة سيبرانية لتبادل المعلومات وتشبيك الأفراد والمجتمعات، تحول حالياً إلى أكوان شاسعة وعميقة ابتلعتْ نهائياً القارات الخمس القديمة، وأدخلتْ مفهوم السرعة بديلاً حاسماً لمفهوم البطء الذي كان هو سيد الزمان منذ العصور البدائية السحيقة. وقد كانت اللعبة منذ البدء أكبر من اللاعبين الصغار لأن مهندسيها في الإمبراطوريات الاقتصادية والتكنولوجية الحديثة أدركوا، منذ السقوط التراجيدي للدب الشيوعي الروسي في غابات سيبيريا (بينما كان التنين الصيني ما يزال يخطو أولى خطواته باتجاه قدره الكوني الراهن)، أن المفاهيم الثلاثة التي ستحرك وتحكم عالم الألفية الثالثة هي “السوق” و”المردودية” و”الاتصال” ، وأن هذا الأخير، بسرعاته المعلومياتية المتزايدة باستمرار، هو الذي سيحفر أسلك الطرق وأكثرها اختراقاً للبلْدان/ الأسواق وللمجتمعات الاستهلاكية.
هكذا تم تسليع كل شيء باختزال قيمته الحيوية أو الروحية في قيمته السوقية، وجرى تسريع الربط الأفقي والعمودي سواء بين الفاعلين الاقتصاديين والجيوسياسيين والمسارات التي تسلكها الرساميل والمعلومات، أو بين المجتمعات والأفراد باعتبارهم القاعدة الارتكازية المستهدفة بالتسليع والتسويق معاً، بما أن الزمن الشخصي والزمن العام هما أثمن ما يمكن تحويله إلى سندات استثمارية متاحة على الدوام.
وفي فترة وجيزة جداً، قياساً بما كان عليه الأمر في ستينيات القرن الماضي، شهدت الذهنيات الاجتماعية والفردية بمختلف البلدان التي التحقت بشبكات النت وبالمنصات والمواقع التابعة لها انقلاباً جذرياً ليس على مستوى بنياتها الفكرية التقليدية التي ظلت أو بالأحرى ازدادت تقليدانيةً في غالبيتها، بل على صعيد تعاطيها السطحي الحاشد مع مبتكرات تكنولوجيا الاتصال والتواصل، مما فتح أسواقاً افتراضية هائلة وتجارات رقمية محمومة وغابات كثيفة ولانهائية من القنوات ذات المحتويات الرصينة أو الهجينة أو الغوغائية، أو ذات الفانتازمات السريالية والتقليعات المخبولة التي يبدو معها مجانين القرون الوسطى عقلاء جداً.
لذلك، وبالنظر إلى “السرعة المتسارعة” التي يجري بها العالم السيبراني ساحباً معه بقوانين جاذبيته الهائلة مليارات البشر، وهي السرعة التي خصها بول فيريليو Paul Virilio، مفكر “سياسات السرعة” و”المجالات الترابية الخطرة”، بأعمق تحليل منذر وصارم، أقول: بالنظر إلى ذلك، لن يكون نزوعاً حنينياً إلى الماضي إذا أشرت إلى أن الزمن كان قبل بضعة عقود أكثر امتلاءً بالزمن. كان، كما أحسست به في طفولتي، معتقاً وبلورياً. ومع أن وسائل الترفيه والراحة والنقل والتواصل المتاحة حالياً كانت إما منعدمةً أو كان بعضها من الكماليات، إلا أن الروح كانت متجذرةً في التفاصيل الصغيرة، ومتواقتةً مع الإيقاع المكثف والحميم للبطء. فكانت كتابة رسالة إلى شخص غال بعيد وانتظار جوابه لعدة أيام أو أسابيع يعادلان تجربةً روحيةً ينخطف فيها الكيان بأكمله. وكم كانت الفنانة المغربية الرائعة بهيجة إدريس متماهيةً مع جذور تلك الفترة المشتعلة باللوعة حين غنت: “كنت فالصباح والعشية/ ديما نرجى البْرية(بتسكين الباء، وهي الرسالة)”. وحين تصل الرسالة المرتجاة، تحس بأنك تمسك من خلال المظروف يد مرسلتها، وحالما تفتحها يهب عليك أريج كيانها من بين السطور الواشية، من خلال ارتجاف الحروف، برجفة القلب ووقع الدم البعيد الغالي في عروق المرسلة الغالية. كلا، ليس نزوعاً حنينياً إلى الماضي، لأن نيتشه يعلمنا أن العود الأبدي مدارٌ جواني يتشابك فيه الماضي والحاضر والمستقبل كما تتشابك النباتات في شكل جذامير متعالقة ومتعانقة في أعماق الأرض.





