
بقلم: خالص جلبي
الظاهرة هي الشيء الفريد في علم الفلك أو الجيولوجيا أو علم البحار، كما في السوبرنوفا أو التسونامي أو التصدعات التكتونية. وهي كذلك في علم الاجتماع والفكر، مثل (الظاهرة القرآنية) التي كتب عنها مالك بن نبي، وفي علم الاجتماع حينما يدخل المجتمع دورة الحضارة، وتولد الديموقراطيات وحقوق الإنسان ومساواة المرأة والانتخابات الحرة، بدون إكراه وتزوير وشراء للأصوات. وما حصل في تركيا في جولتين بين 15 ماي و28 ماي من عام 2023 م، يعني أن ثمة ظاهرة ولدت في الشرق المبتلى بالديكتاتوريات السرطانية.
ما حدث في تركيا يشبه ظاهرة السوبرنوفا في السماء، أو ظاهرة قوس قزح التي وصل إلى تركيبها «إسحاق نيوتن» يوما بموشور زجاجي، فعرف لماذا تتلون السماء بسبعة ألوان. أتذكر من مدينتي القامشلي التي ولدت فيها كيف كان الناس يحدقون بعجب في ظاهرة قوس قزح، وكان التعليل أن الشيطان يضرب زوجته بعصا غليظة في هذه اللحظة، زيادة في امتهان المرأة. وكذلك صفار العيون (اليرقان Icterus) كان سببه خوف شديد دخل على صاحبه، والحل الأمثل هو إدخال رعب أشد على قلبه، فيطيب بإذن الله. أو معالجة الإكزيما الجلدية، وكان جدي «شيخموس وصفي» رحمه الله، بارعا فيها، وكنت أنا المصاب بها في ساقي وذراعي، فكان يقرأ القرآن ويبصق بصقة عظيمة ما يتمكن بها من مسح كافة الجلد في ساقي وعضدي، وكان الاعتقاد أنها أفضل طريقة للشفاء. وطبعا فلم أشف إلا بمراهم الكورتيزون.
ظاهرة قوس قزح السماوية، واليرقان من مرض الكبد أو الدم، والإكزيما الجلدية كلها ظواهر وأمراض في علم الفضاء أو البيولوجيا، وكذلك الحال في المرض المزمن في الثقافة العربية، فتنتج وحوشا بشرية اسمها حكاما عتاة غلاظا يذيقون الناس أشد العذاب، ويحيلون الحياة إلى بؤس ونكد وفقر وكفر وإحباط من كل معنى الوجود. هل وجد الإنسان ليشقى والقرآن يقول ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى؟
ما حدث في تركيا في يوم 28 ماي من عام 2023م، يعتبر ظاهرة في الشرق تبشر بأمل عظيم أن الشرق يمكن أن ينهض من عثار.
أتذكر ابنتي مريم وهي تناقش سيدة كندية بحدة وانفعال، ولم أكن أستوعب ما يدور بين السيدتين. قالت لي ابنتي مريم لاحقا: بابا إنها تقول إنكم في الشرق لا تعرفون الديمقراطية، ولا يمكن أن تولد بين أظهركم. وكانت ابنتي مريم تقول لها إن الأمم تتعلم، ويمكن أن تدخل واحة الديموقراطية، إذا تعلمت وتدربت على طريقة الحياة التي تقوم على التمثيل وحضور الأمة في ثلاثي الديموقراطية المعروف: تمثيل رأي الأكثرية + آليات صحيحة في التمثيل، بدون تزوير وغش وإكراه وتخويف وشراء للأصوات+ ضمان حقوق الأقليات، التي كانت في جانب لم تنجح فيه. وهكذا فالديموقراطية والانتخابات الحرة ليست صناديق اقتراع، بل وعي الجماهير.
ما حدث في تركيا أشبه بالمعجزة في ظل الإحباط العربي من حكومات هزيلة لا تمثل المواطن، ولا يعرف المواطن أين يعيش في زمن التيه والخوف. مجتمع يضم المواطن الأعمى، والمثقف المدجن، والصحافة المرتزقة، وفقيه غائب عن العصر، ومسؤول غائب عن مكانه، وحاكم أطرش في سيمفونية كلها نشاز. صم بكم عمي فهم لا يرجعون، أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق.
الأهمية القصوى التي حدثت في الظاهرة التركية تتبدى من ثلاثة أوجه: تصويت بشرف فلا نزاع، وتنافس شريف فعرفنا أنه قريب من النصف ليس مع أردوغان وتوجهه الإسلامي، وأخيرا الاعتراف للخصم بالنصر بدون اقتتال وقتل، بل حتى تهنئة الطرف المنتصر. إنها ظاهرة فريدة في تاريخ الشرق ودرس عظيم للمنطقة، أنه يمكن أن تولد الديموقراطية في ربوعنا. ويضاف إلى ما ذكرنا موقف الغرب العجيب، وهم من يتمتع بالديموقراطية ولا يريدها لتركيا، إلى درجة أن «بايدن»، الرئيس الأمريكي، سمعته في أكثر من موقف يعلن أشياء يجب أن تسجل؛ أما عن تركيا فقال إننا فرحنا بضياع البلديات في إسطنبول من يد العدالة والتنمية إلى يد خصومه، وكذلك حين سئل عن إسرائيل قال: لو لم تكن موجودة لأوجدناها، فنحن نريد من يحرس لنا المنطقة. واعترف بايدن بمرارة عن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، فقال بحرقة: صدق من قال إن أفغانستان مقبرة الغزاة. وصدق في هذا العبارة، فحذاء جبال الهندوكوش دفنت ثلاث إمبراطوريات، بريطانيا العظمى والاتحاد السوفياتي الذي تفتت وتفكك، ولحقت بهما إمبراطورية أمريكا التي لا تغيب عنها الشمس.
المهم في الظاهرة التركية وأتفاءل أن يكون هذا واضحا لأردوغان في ثلاثة دروس:
1ـ أن لا يسكره النصر، بل يتابع رحلة بناء تركيا الحديثة بتقوى الله وإحسان.
2ـ وأن يهيئ من يأتي بعده بنفس الروح والاندفاع والفعالية والتوازن، خاصة في بناء المؤسسات، وأظنه واعيا بالأمور، ولكن الزمن هو الذي سيحكم.
3ـ وأخيرا الحفاظ على روح الديموقراطية والسماح للآخر بالحضور والوجود، فلا تتحول تركيا إلى بلد قميء؛ كما حصل في مملكة السنوريات الأسدية؛ يقتل فيها الإنسان والزمان والمكان والبيئة والعلم والعرف والدين والخلق وكل سامي من تقليد، بل وقتل الأمل والمعنى في الحياة. تحية عظيمة للشعب التركي أرض أجدادي.
نافذة:
ما حدث في تركيا أشبه بالمعجزة في ظل الإحباط العربي من حكومات هزيلة لا تمثل المواطن ولا يعرف المواطن أين يعيش في زمن التيه والخوف





