حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسية

إعادة إنتاج السرديات

 

عبد الإله بلقزيز

 

قلما أمكن لمجتمع أو ثقافة أو أمة تحقيق قدر ما من التحرر من سطوة السرديات الموروثة والمركوزة في الوعي الجمْعي.

فالسرديات هذه ليست منحدرة من ماض تُضْفَى عليه أردية التبجيل فقط، بل هي مما يعاد إنتاجه باستمرار في الحاضر، ومما تتعهد أمر ترسيخه في النفوس والأذهان المؤسسات الاجتماعية المختلفة منذ مراحل التنشئة الأولى إلى لحظة اكتمال الوعي، وبالتالي لحظة بداية الانشداد إلى المتخيل الجمعي. قد يَسَع أفرادا بعينهم أن يحرزوا قسطا ما من ذلك التحرر، ولكن من حيث هم أفراد يصعب نسبة أي تمثيلية لهم تُنزل وعْيَهم منزلة الوعي الناطق باسم الثقافة الجمعية. وغني عن البيان أن ما يعنينا ليس هذا التحرر الجزئي لأفراد من النخبة يوجدون في كل مجتمع، وتتهيأ لهم – في الغالب – الأسباب التي تصنع لهم شروطا خاصة لوعي مستقل متميز، وإنما يعنينا مقدار ما يمكن أن يحظى به وعي جمعي لمجتمع ما من أسباب التخلص من سلطان السرديات الموروثة عن الأنا وعن العالم..

قلنا إنه قلما أمكن ذلك لمجتمع أو أمة لسبب معلوم هو أنه ينعدم – أو يكاد – تقليد النقد والسؤال النقدي حول المعارف واليقينيات المترسخة في الثقافة الجمعية في المعظم من مجتمعات العالم وثقافاته، خاصة تلك التي لم تلفحها بعد رياح العقلانية والروح العلمية التجريبية، فاستمرت سادرة في مألوفها المَدْروج عليه من اليقينيات، وفي طرائقها في استبداه ما تتلقاه من الأفكار والتمثلات. ولعل الثقافة العربية الإسلامية في عداد ثقافات عدة تعاني مثل هذا الانسداد فيها، لأسباب عدة منها أن ولوجها عصر الحداثة أتى متأخرا – إن قيسَت حالها بغيرها من الثقافات – ولم يتسن لها أن تتشرب الكثير من قيم هذه الحداثة، حتى حينما اصطدمت بها وتدفقت في شرايينها دماء منها.. لم يتغذ منها جسمها كله.

قد يستصعب المرء إمكان رؤية التحرر من سلطان السرديات أمرا واقعا ناجزا في بحر عقود معدودات، بالنظر إلى ما تفيدنا به خبرة الثقافات التي أنجزت في تاريخها هذه الحلقة من التحرر بعد عسير مخاض أخذ منها عشرات العقود من الزمن. لكن المسألة ليست في المدى الزمني الذي يقتضيه تحقق ذلك الإمكان، (إذ إن إيقاعات التطور التاريخي تتفاوت في المجتمعات والثقافات، وليس في ذلك التفاوت ما يبعث على الاستغراب إذن)، وإنما المسألة في أن صيرورة الإمكان واقعا متحققا في زمن ما، وإن طال، مشروطة بوجود استعدادات ذاتية أو قابلية: مجتمعية وثقافية، لذلك التحول. والقابلية هذه قد تتعصى على التعيين العلمي الدقيق؛ لأنها من الظواهر التي لا تقبل التكميم الرياضي (وقطعا ليست من موضوعات الاختبار)، لكنها قابلة لأن تُرْصد من خلل الشرط الثقافي والاجتماعي العام والسائد؛ إذ هو وحده يظهرنا على وجود تلك القابلية أو انعدامه.

من المؤسف، حقا، أن نقول إنه ليس في ثقافتنا العربية، ولا في مجتمعاتنا، مثل تلك القابلية؛ إذ الشرط الثقافي والاجتماعي نابذ لآليات المعرفة الحق وليس جاذبا. آيُ ذلك أن مساحة السؤال والنقد والحِذْر المنهجي في المُفَكر فيه، والمكتوب، والمَقُول شحيحة إلى أبعد حد، إن لم تكن معدومة أو – أقلا – محجوزة. وأمام مثل هذا الغياب لِعُدة اشتغال المعرفة والعقل، ما من جسم آخر يَشْغل المكان الثقافي سوى المسلمات والبداهات المنزهة، حُكْماً، عن أي تَسْآل! هذا الشرط الثقافي- الاجتماعي النابذ هو البيئة الخصبة للاجترار والتكرار، وبالتالي لامتناع وضع المألوف والسائد موضع مساءلة ومراجعة؛ أي ممارسة ذلك التمرين المعرفي والنقدي الذي يأخذنا – عند عتبة متقدمة منه – إلى نقد السرديات الموروثة ومراجعتها.

ما أغنانا عن القول إن هذا الشرط الاجتماعي- الثقافي لم يأتنا من خارج مأتى الأعاصير والغزاة والأوبئة…، وإنما في أحشاء اجتماعنا الأهلي والسياسي نما، ومن رحم إخفاقاتنا المنهومة وُلِد. هو الابن الشرعي لموروث ثقافي نصي ينيخ بكلكله على كل منافذ المعرفة: من الأسرة والتربية الأسرية، إلى المدرسة، إلى الحياة العامة، إلى الفضاء الثقافي، بل وإلى المجتمع الأكاديمي! مَن يعيد سيرة ذلك الموروث فينا ويمدد إقامته في الزمن الحاضر؛ من يعيد إنتاج سرديات- لا مكان فيها للعقل وللتاريخ وللمكن – في وعينا الجمعي غير تلك المؤسسات التي يفترض فيها أن تكون مؤسسات للإعمار الثقافي لا لتصنيع الخواء؛ أليست مؤسسات التعليم والمؤسسات الثقافية معامل معاصرة لإعادة إنتاج سرديات انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد؟

 

نافذة:

مَن يعيد إنتاج سرديات لا مكان فيها للعقل وللتاريخ وللمكن في وعينا الجمعي غير تلك المؤسسات التي يفترض فيها أن تكون مؤسسات للإعمار الثقافي لا لتصنيع الخواء

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى