
ياسر عبد العزيز
ثلاثة أسباب رئيسية تؤدي إلى زيادة الإقبال على الاستثمار في صناعة الإعلام بالعالم العربي، في الآونة الراهنة. ومن الغريب أن تحقيق الجدوى المالية ليس من بين تلك الأسباب، وهو أمر نبدو مختلفين فيه عما يحدث في مناطق أخرى عديدة من العالم.
عندما تتزايد الضغوط السياسية على دولة عربية ما، أو ترتفع حدة التنافس السياسي الإقليمي، أو تزدهر الأوضاع الاقتصادية وتتراكم الفوائض المالية، يزيد الطلب على إنشاء وسائل إعلام جديدة ومؤثرة، إما لمقاومة الضغوط، أو لإحداث التوازن في مواجهة منافسين، أو لتعزيز الانطباع وخلق الصورة الذهنية البراقة.
لقد زاد عدد وسائل الإعلام العربية في الآونة الأخيرة زيادة كبيرة ومطردة، وهي زيادة تبدو حادة أحيانا عند النظر إليها على صعيد كل قطر من أقطار المنطقة، إذ إن بعض الدول العربية التي لم تكن تعرف سوى قناتين تلفزيونيتين وثلاث صحف، مثل العراق وليبيا، صار لديها عشرات القنوات والصحف ومئات المواقع الإلكترونية.
وبموازاة ذلك، راحت الدول العربية تتسابق على إطلاق الأقمار الاصطناعية القادرة على بث القنوات التلفزيونية، وبناء مدن إعلامية ضخمة، وتطوير منصات العرض والإنتاج الفني.
إن الواقع الإعلامي العربي أظهر استيعابا واضحا لثورة الاتصالات، وبرهن على امتلاكه المرونة الكافية لتوفيق أوضاعه، في محاولته لمجاراة العصر الرقمي، وتغيير أنماط أدائه، بما يتناسب مع أنماط التعرض الجديدة. ففي الوقت الذي تتزايد فيه نسبة الشباب بين جموع المواطنين العرب، وترتفع نسبة التعليم، وتقفز معدلات استخدام «الإنترنت»، وتنتشر الهواتف الذكية انتشارا كبيرا، نجد الإعلام العربي يظهر القدرة على ملاحقة تلك التطورات، وخدمتها، عبر تطويع التقنية والتحرير لمواكبتها، وفتح أسواق جديدة، وتلبية احتياجات جمهور واسع ومتطلب.
وارتفعت القدرات التقنية في عدد من وسائل الإعلام العربية، خصوصا الفضائيات الإخبارية، والمواقع الإلكترونية، التي يتم تحديثها على مدار الساعة، والتي بات بعضها قادرا على منافسة بعض وسائل الإعلام العريقة والنافذة في دول العالم المتقدم.
وفي ظل الإدراك المتصاعد لأهمية صناعة الإعلام، بات عدد كبير من الحكومات العربية حريصا على أن يفرض الهيمنة على القطاع، وهي هيمنة قد تحميه من الإفلاس المالي، وتقيه أعباء المنافسة الحرة، لكنها في الوقت ذاته تحرمه التعدد والتنوع اللازمين لإدامة الثقة وصيانة القدرة على التأثير.
مع توافر التمويل الحكومي للقنوات الإعلامية الجديدة، والثقة الكبيرة في تجنبها الإفلاس المالي، وتركيز خطها التحريري على خدمة الأغراض السياسية، تتزايد الضغوط على المنحى المهني لصالح الوظيفة الدعائية.
وكل خسارة تخسرها وسائل الإعلام التقليدية بالفضاء العربي، تتحول مكسبا خالصا يجنيه الوافد الجديد المتجسد في «السوشيال ميديا». ولأن «السوشيال ميديا» ظلت قطاعا غير قابل للخضوع إلى الهيمنة الكاملة، فقد استأثرت باهتمام ومتابعة كبيرة، وهذا الاهتمام بالوسائط الجديدة آخذ في الاطراد، وأخطر ما فيه أنه ينمو بمعزل عن قدرة هذه الوسائط على تكريس الدقة، أو احترام المعايير المهنية.
ثمة مكاسب حققتها بعض وسائل الإعلام العربية على مدى ثلاثة عقود، تحولت خلالها من أدوات حكومية تلعب أدوارا دعائية مباشرة إلى منظومات متكاملة تحافظ على حد أدنى من التنافسية والاحتراف، وهو أمر يجب تعزيزه لا التضحية به.
وأفضل ما يمكن فعله في هذا الصدد يتعلق بتأسيس المشروعات الإعلامية على قواعد مهنية بغرض الاستدامة ومقابلة اشتراطات الجدوى والقدرة على توليد العوائد، وليس لتحقيق أهداف طارئة تفرضها ظروف محددة.





