شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

 الوراق.. أو كيف كلم يوسف زيدان ابن النفيس..

خالد فتحي

مقالات ذات صلة

 

 

بعد الفردقان التي أوقفها يوسف زيدان على الرئيس أبي علي ابن سينا، ها هو يترحل بنا بروايته الجديدة «الوراق» نحو علم آخر من أعلام الطب طاول الرئيس أو كاد يطاوله في عبقريته وعطائه اللامحدود. فيثبث مرة أخرى وفاءه لخط ارتضاه لنهجه الفكري، دأب أن يخلع فيه رداء البطولة على الرواد والفلتات من العلماء والنوابغ المسلمين في شتى العلوم والمعارف، عازفا بحساسيته المعهودة فيه عن أولئك الذين يعتبرهم محض قتلة وسفاحين من الحكام والعسكريين الذين يلهثون وراء السلطة والكرسي والسؤدد والخلود المتوهم. هكذا سيأتينا هذا الروائي ملهم الصنعة المتقن للحبكة بجورجاني جديد نحته نحتا لابن النفيس.

 

ورغم أنه لازمهما لشهر واحد، فإنه قسم روايته «أمالي العلاء»، بشكل يكاد يكون متساويا بين سيرتيهما. فعل ذلك رغم اختلافهما في الطبقة، ودرجة الرفعة، وعلو الشأن وسموق المكانة.

رواية مزدوجة ببطلين اثنين عاش كل منهما ثمانين سنة: ابن النفيس، رئيس الأطباء، وطبيب الظاهر بيبرس… الطبيب الحاذق المبتكر الذي تقلب بين الشام والقاهرة، وعاصر الأحداث الجسام والأهوال العظام في مرحلة عصيبة كانت تحتز فيها الأمة العربية من شرقها بالهمج من المغول التتار، ومن غربها بالأصوليين من صليبيي الفرنجة، والوراق سفير الذي دون ما أملاه عليه العلاء في الرمق الأخير من حياته، تلك المرحلة الخاصة من العمر التي نستشعر فيها دنو النهاية فنرجع عادة للبدايات، لنبوح ونفرج عن الخلاصات.

إنه الوراق الذي اختلقه خيال يوسف زيدان اختلاقا لضرورة السرد، ولغاية في نفسه تروم تكليم عوام الجمهور عوضا عن من استحوذوا على التاريخ والسير وأحالوه سردية للقوة والبطش والفتك… جعله من الناس العاديين، ممن نقابلهم يوميا، فلا نلتفت أو نلقي لهم بالا، وحتى قد نزور عنهم ازورارا… رجلا بسيطا تهاوت وتضافرت عليه الصدمات، فقرر أن لا يبحث عن المعنى في ما يسوده من أوراق وكتب الآخرين، قيلوبيا بئيسا نكبته الثورات ومطامع الطامحين بغير إرادة منه… قاهريا متخفيا غير ذي خطر يعلم بحقيقته كل الناس. ولكنه، وعلى ضعته، وقلة قيمته مقارنة بالعلاء، وهوانه كذلك على نفسه، واستصغاره عليها أن تشتغل بأحوال الناس وأحوال البلاد بلازمته المعبرة «مالنا صالح» التي ما زال يرفعها العديد من جمهور اليوم، سينتبه، بمجرد أن تقوده الظروف للقاء الحكيم ابن النفيس، إلى تقلباته الشخصية في الدنيا، فضائله، خطاياه، خياناته، استيهاماته، محنه المتتالية وفضيحته بين الناس، وعرك الحياة له عركا ظالما، لتثور تساؤلاته الكامنة في أعماق نفسه كالبركان عن المعنى والغاية من الوجود… وجوده هو. كان يكفيه أن يلتقي بالقادح العلاء الذي غير نظرته إلى نفسه، عالج جراحه النفسية، ثم بدل حياته تبديلا حين ألحقه سكنا وعملا بالبيامرستان.

تشعر بيوسف زيدان، وقد عثر في ابن النفيس على ضالته وعلى القدوة التي يجدر تقديمها للمشرئبين للتأسي بالآخرين، فهو مثال الطبيب، والعالم، والفقيه، الذي يطلب العلم من المهد إلى اللحد، والذي لا يقف بأبواب السلطان، فحتى البقبنداري كان هو من يأتيه متنكرا، ومن يرسل ويلح في طلبه… الطبيب الذي نذر فنه وعلمه للفقراء قبل الأغنياء، بل وجعل من له مالا يؤدي عن من يشكو الفاقة والفقر. الطبيب الذي لا يسارع للدواء، إلا بعد أن تعجز الحمية والغذاء، وحين يصفه، فإنه يفعل ذلك بتدرج، فما أغنى فيه المفرد من الدواء، استغنى فيه عن المركب منه.

دائما تتلاطم مفردات اللغة العربية الرصينة الجزلة في كتابات زيدان الروائية، إلا أن أمالي العلاء استدعتها استدعاء، واحتفت بها احتفاء، لكأنك في سمفونية موسيقية يصفو بها مزاجك، ويطرب لها وجدانك، ويثرى بها قاموسك، أو لعله استحواذ بطل الرواية على الروائي، واتحادهما واندماجهما في سمت واحد وعبقرية متماثلة كل في مجاله.

فلقد أبدع يوسف زيدان مثلا في تقييد المقطع الذي يؤاخي فيه العلاء بين الموسيقى وأحوال القلب العضوية حين تحدث عن ما يجمع بينها من إيقاع، وتواتر، وسرعة، وانتظام، واتفاق النغمة ونشازها، فهذا ما يسمعه الأطباء اليوم بمجساتهم وآلاتهم الإشعاعية، وتفوق حين تحدث على لسان العلاء كذلك عن دور الوراثة في رسالة العلاء في مواليد الثلاثة، وهو ما يتفق فعلا مع ما يقرره العلم الحديث لدى بعض العائلات.

لا يتطرق يوسف زيدان للطب جزافا، بل بروية وإحكام، فهو يستطيع أن يبرز كيف كان يحضر العلم الطبي المعاصر في مؤلفات النجباء والنابغين من أمثال ابن النفيس وابن سينا، فمن غيره يملك أن يخوض روائيا لجاج العلم الطبي هذا دونما انحراف أو تناقض، وقد بحث وحقق في ما أذكر له: رسالة الأعضاء، إعادة اكتشاف ابن النفيس، المختار من الأغذية.. الخ

رسم زيدان للعلاء صورة العالم الذي لا يعجزه الحضور في مدار السلطة، إذ لا مشقة لطبيب طار صيته في الآفاق في أن يحتل موقع الصدارة بجانب الأمير، ولكن العلاء، كما في المذكرات التي استلهمها زيدان من سيرته، لم يكن يسعى لذلك، فالسلطة كانت هي من تطرق بابه. عالج الظاهر بيبرس من عتمة العين، وكون له دفعات الأطباء التي كانت تعضده ضد الصليبين، ولكنه ظل دائما محتفظا بوقاره وإيهابه كطبيب، حارصا على مسافة من الحكم حتى لا يضيع فيه الفقراء، هو الذي رفض أن يتزوج ثانية بعدما خبر مآسي الحياة، وفقد زوجته وأطفاله الأربعة بسبب الأمراض والأوبئة، لكأنه أصبح في هذا الجانب أبا العلاء المعري، لكنه علاء سبق لزيدان أن أثبت أنه لم يعش أعزب بل تزوج في بداية حياته، علاء كان يجد العزاء في التكفل بالمحتاجين وفي الجهاد بالتخطيط صحيا لمصر أثناء الحملات، وفي حرفة الكحال الذي يشيع وينشر الضياء والنور.

لم تنته علاقة بيبرس بالعلاء بتدجين هذا الأخير، بل ظلت من نوع خاص وواضح تنبني أساسا على اعتراف الأمير المملوكي بشرف وعلم واقتدار العلاء. العلاء الذي لم يهده، لا هو ولاقالوون، كتابا واحدا، بل أهدى فقط كتابه «رسالة الأعضاء» للأمير طرنطاي للصداقة العميقة التي كانت تجمع بينهما كإنسانين لا غير.

كان العلاء يعي أن العلم الطبي لا يعترف بلون أو عرق أو طبقة أو دين، ولذلك كان يحضر مجلسه النخبة من النجباء كما قال يوسف زيدان على لسان سفير الوراق، طلاب يتوزعون بين مختلف الأوطان والنحل، منهم التركي، والمصري، والمسلم، واليهودي، والمسيحي. كان معيار العلاء النباهة والاشتغال بالعلم فقط.

هكذا يوفي زيدان القاهرة حينها على اضطراب أحوالها السياسية والأمنية أيام العلاء كمركز للعالم وعاصمة له.

ألم يكتشف بها ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى متجاوزا جالينوس وسابقا الغرب بقرون؟

تجيش هذه الرواية بالضبط وتزدحم بالشخوص التاريخية، سواء من عالم العلم والمعرفة أو عالم السياسة ومن عامة الناس، لكن زيدان كان يعرف كيف يعلنها ويرتب دخولها زمنيا في الرواية، فلا تجد اختلافا ولا تناقضا في التتابع وتوقيت الظهور، ابن عربي، البيروني، ابن الفارض، ابن سبعين، شجرة الدر، الصالح أيوب، ابن سينا، توران شاه، بركة خان… قطز، أيبك، حصن الدين ثعلب، بيبرس… الخ.

لم يكتب زيدان سيرة لابن النفيس ولكن سيرة لمصر عبر ابن النفيس فكسر القاعدة التي تجعل كتابة التاريخ بكتابة تاريخ الأمير أو السلطان،

لقد ساعدته في إنجاح هذا الانقلاب قوة التركيز، وسعة الاطلاع، والتبحر في علوم شتى، والسرد من خلال رؤية شمولية لكل. هذا الإلمام الوافي والدقيق بالتاريخ والشخصيات ومجالات اشتغالها هو ما رمى إليه وباح به العلاء، حين اشتكى له سفير تفرق ذهنه وتشتته بين ما ينسخ من كتب متباينة المواضيع، من وجود صلة خفية أو جلية بين كل المعارف والعلوم.

أليس هذا ما نلمسه بين الفيزياء اليوم والفلسفة والطب رغم ما يبدو للعوام من تنافر وتباعد بين هذه الحقول؟

ملهم زيدان هذا في اصطناع الحوار بين سفير والعلاء، حتى لأنك تتمنى لو أنه جعل لقاءهما يدوم سنة أو عشر سنوات، ولم لا لو أنه نصب سفير هذا مريدا أو تلميذا لابن النفيس منذ قدومه من الشام إلى مصر، ولكن فرق السن ربما لم يكن يسمح بذلك، سفير الساذج الذي لم ينصحه أحد، والذي غدرت به خضراء الدمن التي تزوجها فلطخت سمعته تلطيخا، كان يطرح أسئلة عميقة، وكان العلاء يجيب زيدان عنها كطبيب وكحكيم وكمجرب.

ما أروع ما قاله له عن الفرق بين النظرة التي تتم بالعين، وبين الرؤية التي تتم في الدماغ.

لقد كان ابن النفيس رجلا من هذا العصر سافر في الماضي. أليس بهذا التمييز بينهما نضع الأصبع على لب التصوف الذي لا يجلي شيئا آخر غير البصيرة. ما أذكى اختيارك أيها المؤلف النابه لأسماء شخصياتك، فهي تكاد تعبر عن كل دورهم في الرواية، ابنة الفارض العفيفة التي اسمها محفوظة، وفهيمة الخادمة التي لم يلتفت سفير لنصحها فغرق في مر شهد. شهد هاته التي اكتشف حنظل أنها علقم وحنظل، ثم وعد اللعوب التي كانت تعد خدانها بالوصال… الخ.

سيرة سفير فيها أيضا الكثير من العبر، حياة ضحلة في ظاهرها، لكن بواطنها غنية وطافحة بالمعاني والدروس، طعم الحياة في النهاية واحد سواء كنت من العظام أو من الصغار. كل يلعب دورا في الحياة، وقد يوجد في الأنهار ما لا يوجد في البحار.

ثورة حصن الدين ثعلب تحتل المركز في الرواية، فهي من أسعفتها بالبطل الآخر سفير أو نصري المتنكر طول حياته، هي من ستجعل زيدان يلامس رؤوس أقلام كثيرة جدا، يناوشها دون أن يفيض فيها: الثورات غير المخططة التي تنتهي دائما بنكبة للضعفاء، الحكم بالغلب والغصب،: من الفاطميين إلى الأيوبيين إلى المماليك، لم تكن هناك سلاسة ولا التزام بالشرعية في انتقال القيادة السياسية… السلطة «العاهرة» التي لا تسلم قيادها غالبا إلا للوضعاء دون العظماء، وللعبيد دون الأحرار والشرفاء من الرجال، والمخصيين الذين يستعبدون الفحول الغضاريط… وهذه الحروب التي لا معنى لها، والتي قد ينكل فيها المسلم بالمسلم أكثر مما يفعله بالمعتدي الأجنبي.

كثيرة هي القضايا التي يمكن أن ندلف لها من خلال هذه الرواية التي برع فيها يوسف زيدان كعادته. رواية تستحق في رأيي أن تتحول إلى دراما تلفزيونية تحكي ما جرى في مرحلة انتقالية في كل شيء بمصر والعالم الإسلامي: ظهور دولة المماليك، انتقال الخلافة من بغداد للقاهرة، هزيمة المغول وتحولهم للإسلام، تواتر القتل بين السلاطين… الخ، وخصوصا وأنها تمجد طبيبا وحكيما استوعب أن العلم أجل من السياسة، فنظر للسلطة من عل… طبيب له أياد بيضاء على الحاكمين، لم يقف ببابهم، وإنما كان يجلس على باب عظيم للإيمان والإحسان معا فتحه للفقراء والميسورين على السواء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى