حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

بلّارج سياسي

اتصلت قبل يومين بإحدى المصحات الخاصة متعددة التخصصات لتحديد موعد بداية الأسبوع. استفسرتني موظفة الاستقبال عن نوع المشكل الصحي الذي أعاني منه، فأخبرتها بذلك لتجيبني أنني بحاجة لمقابلة «الطبيبة الكبيرة».. حددنا الموعد وشكرتها وأنا في قلبي فرحة صغيرة من نوع آخر.. «الطبيبة الكبيرة» لا أدري لما ذكرني هذا الوصف بابن سينا الشيخ الرئيس، أو ابن النفيس كبير أطباء مصر الفاطمية. أسعدني جدا أن تكون كبيرة أطباء أشهر مصحات العاصمة امرأة.. استكنت لهذه الفكرة وشعرت بفخر شديد.. حتى مر علي أعرابي عكر مزاجي ببهلوانيات ظننت أننا في قطيعة تامة معها منذ 2017..

ففي بلادنا العزيزة، لا يكتمل موسم الانتخابات إلا بظهور ذلك النوع الغريب من السياسيين، الكائن المتدين جدا أيام الحملة، المتواضع جدا أمام الكاميرات، والمتسلق جدا إلى المقاعد الوثيرة فور انتهاء التصويت. سياسي يتقن فن اللعب على أوتار الدين، ويعزف بنشاز المواعظ كلما اقترب موعد صناديق الاقتراع.

تراه يصعد المنابر، لا ليتلو القرآن، بل ليتلو علينا خطط «الخلاص الروحي» التي تتضمن خفض سن الزواج، وتحريم الموسيقى وتشجيع القاصرات على «التقرقيب على العريس» بدل حمل الحقيبة المدرسية. ينظر إلى التعليم كبوابة للانحلال، ويعتبر الجامعة مسرحا للفساد الأخلاقي، إلا إذا كانت الجامعة في باريس أو لندن، وتخصّ إحدى بناته بالطبع.

فهذا السياسي، الذي يوصي بنات الشعب بـ«الستر» و«الزوج الصالح»، يرسل بناته إلى «هارفارد» و«أوكسفورد» ليعدن بشهادات الدكتوراه في القانون الدولي وحقوق الإنسان. إنه لا يثق بمناهج التعليم الوطنية، لكنه مستعد للدفاع عنها في البرلمان لتمرير مشروع قانون جديد يفرض التربية الدينية الإلزامية منذ سن الحضانة.

وعندما تسأله عن التناقض، يحكّ لحيته قليلة لحيا بعناية، وينظر إليك نظرة شفقة، ثم يهمس، «ابنتي مجتهدة، وأنا أخاف عليها من الفتن هنا… أما بنات الشعب، فمكانهن البيت، والمرأة حدها السادس». منتهى التواضع… ومنتهى الوقاحة أيضا!

السياسي المتاجر بالدين يرفض العلمانية، لكنه يضع أولاده في مدارس علمانية. يذم الغرب، لكنه يفتخر بجواز سفر بناته الأوروبي. يندد بالعري في شوارع بلاده، وتراه صيفا في شوارع باريس يعانق المولان غوج أو يمسك بيد عشيقته في جولة ليلية رومانسية.. أو مستلقيا في شواطئ العراة الإسبانية يرتدي نظارات شمسية ويتأمل «الفجور» بنظرة تحليلية عميقة. إنه رجل مبادئ، لكن مبادئه مرنة، قابلة للتمطيط حسب العملة المتداولة والمكان الجغرافي.

الأكثر إثارة للشفقة أن هذا السياسي لا يرى في الشعب سوى قطيع تسهل قيادته بشعار ديني أو دمعة مصطنعة في جنازة. يتحدث عن الجنة وكأن مفاتيحها في جيبه، ويوزع صكوك الغفران مع منشورات حملته الانتخابية. خطابه مليء بالآيات، لكن سلوكه مليء بالتناقضات. هو ضد الاختلاط، لكنه يختلط يوميا في أفخم فنادق العالم.

المثير في الأمر أن هذا السياسي غالبا ما يُقدم نفسه كـ«ولد الشعب» الحنون، لكنه لا يرسل أبناءه إلى مدارس «الشعب». يكتفي بالحديث عن ضرورة «الرضا بالقليل» بينما حساباته البنكية تتحدث عن ملايين كثيرة. يدعو الشعب إلى «القناعة»، بينما يلتهم الكافيار في مأدبة سفراء الغرب الكافر.

هذا السياسي لا يؤمن بالتمكين الحقيقي للمرأة، بل بالتمكين الانتخابي لصورة المرأة، كي يظهر التوازن في حملته. يضع امرأة محجبة في الصورة، ثم يمضي ليُحرّض الناخبين على عدم إرسال بناتهم للجامعات، لأنها «مرتع للفتن». أما ابنته، فقد نالت منحة في جامعة أجنبية فقط لأنها «تفوقت بفضل الله ثم بفضل والدها الذي يعرف وزير التعليم في تلك الدولة».

في خطبه، يدعو الفقراء إلى الصبر، لأن «الدنيا دار ابتلاء»، لكنه لا يصبر على خدمة الوطن دقيقة بعد الفوز. يركب سيارة الدولة الفارهة، ويطوف بها في الأحياء الفقيرة ليقدم الوعظ والإرشاد، تماما كما يطوف السائح بجولة استكشافية في متحف للغرائب.

إنه سياسي موسمي، يظهر في رمضان أكثر من المسلسلات التركية، ويتلاشى بعد الانتخابات كما تتلاشى الوعود. هو عدوّ للحداثة عندما تتعلق بالمجتمع، وعاشق للحداثة عندما تتعلق بجهازه الذكي وساعته السويسرية وأنظمة الاقتراع.

وهكذا، نُخدع مرارا وتكرارا، لأننا لم نعد نفرّق بين من يُصلّي لله، ومن يُصلّي لأجل الصورة الانتخابية. بين من يحرص على الدين، ومن يتاجر به. هذا السياسي لا يهمه إيمانك، بل تصويتك. لا تهمه بناتك، بل أصواتهن. هو لا يراك مواطناً، بل رقما في صندوق اقتراع.

يعود الكائن الانتخابي الملتحي كل خمس سنوات، بلحية أكثر سوادا، ووعود أكثر بهتانا، وبنات يحملن شهادات عليا ليؤسسن شركات خاصة تموّل الحملة المقبلة… حملة الدفاع عن الفقراء… الذين لا يعرف أسماءهم ولا أحياءهم، لكنه يعرف أن عقولهم أضعف من مقاومة دمعة مصطنعة وخطبة منزوعة الضمير.

فانتبهوا يا سادة، من يطالب بناتكم بالبيت، يريد لابنته الفيلا. ومن يدعو النساء للزواج خشية الوحدة، بقي وحيدا في صالونه مثل بلارج بعد أن انفض من حوله أصدقاء وحلفاء الأمس. ومن ينصحكم بالصبر، لا يعيش دقيقة في الألم. ومن يتحدث باسم الدين، ربما لا يخشاه أصلا.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى