
يونس جنوحي
الهامش لم يكن كذلك إلا عندما تعلق الأمر بالجغرافيا.
لدينا اليوم قرى ومناطق لا تزال تُعتبر نائية، صنعت الأحداث وساهمت في الذاكرة الجماعية، ولا تزال تعيش على إيقاع العُزلة.
نواحي گرسيف، في اتجاه الشمال الشرقي للبلاد، توجد قرى شاركت في أحداث تاريخية ودارت فوق أرضها معارك ضد الاستعمار الفرنسي، تستحق أن تُنجز حولها الأفلام..
في نواحي فگيگ توجد واحات قاومت الاستعمار وخرج أهاليها في مظاهرات رغم التهديدات لكي يعبروا عن موقفهم من سياسة فرنسا في المغرب، جنبا إلى جنب مع سكان الرباط والدار البيضاء..
في نواحي تاونات، كانت معاقل جيش التحرير المغربي، وفي منازلها القديمة جرت اجتماعات سرية للترتيب لما عُرف بأحداث الثاني من أكتوبر 1955، وأهاليها ساهموا في قيادة أكبر انتفاضة مسلحة في وجه فرنسا منذ 1912. ما مصير هذه القرى اليوم؟ لا تزال على حالها، بعيدة مقصية ويعاني سكانها العزلة. ولا تُذكر في نشرات الأخبار إلا عندما يتعلق الأمر بالنشرات الإنذارية لارتفاع درجات الحرارة أو فيضان الوديان.
الشبان هاجروا نحو المُدن بحثا عن عمل، والشيوخ تقاعدوا مبكرا وينتظرون حرفيا عودة الأبناء في الأعياد لكي يتدبروا مصاريف أسرهم السنوية. بينما القلة فقط ممن هاجروا إلى الخارج، يأخذون على عاتقهم همّ تحسين ظروف عيش السكان.
الجيل الذي عاش أحداث الانتفاضة التي سبقت نهاية الحماية الفرنسية، في طور الانقراض. والجيل الجديد بالكاد يعرفون معلومات عن منطقتهم. البنايات المهجورة، تُنسج حولها الحكايات. وجلها غير صحيحة ومُختلقة، وتشوه الذاكرة الجماعية.
في نواحي قرية با امحمد، واحدة من معاقل جيش التحرير المغربي هي الأخرى، لا يزال السكان يكابدون بسبب البُعد عن المستشفى الإقليمي، ويهاجر أبناؤهم وبناتهم الصغار إلى المدارس. أما “با امحمد” نفسها، فلا يوجد في فضاءاتها دليل على مشاركة سكانها في صناعة الذاكرة الجماعية للمغاربة. منطقة منسية، حتى الجيل الجديد من سكانها لا يعرفون ماذا قدم أجدادهم من تضحيات في سبيل استقلال هذا البلد.
مناطق أخرى مثل أكنول، وقرى مجاورة لها على طول الشريط الساحلي، لا تزال تعيش وطأة العُزلة، ويعيش أهاليها على عائدات الفلاحة المعيشية والموسمية. يُخرجون سلال “الكرموص” إلى حافة الطريق الوطنية، ويُشغلون أطفالهم القاصرين لبيع “الباكور” للمسافرين.. وحتى عندما يتوقف زبون مفترض لمعاينة الفواكه المحلية، نادرا ما تنتهي الصفقة بعملية بيع ناجحة.
أكنول التي كانت معقلا من معاقل جيش التحرير، وبُني بجوارها مقر فرعي لجيش التحرير تابع لإدارة الناظور التي كانت تُدار منها بعض عمليات جيش التحرير المغربي، لا تساهم حاليا في المشهد العام، ولا يزال سكانها يُهاجرون منها كلما سمحت لهم الفرصة والظروف، لكي يعودوا إليها في العطل، ويجدونها على حالها.. لا طير يطير، وحدها الحكايات عن “الوحوش” التي تسكن الغابة تُفزع السكان.. وتجعلهم ينصحون أبناءهم بالابتعاد عن الغابة حتى لا تفترسهم الحيوانات.
في المناطق المذكورة أعلاه، توجد بعض أرامل قدماء جيش التحرير والمقاومة المغربية عموما. نساء منسيات، يتوصلن بأجور شهرية لا تتجاوز سبعين درهما شهريا، يُفترض أنها تقاعد عن الزوج المتوفى. وحتى هذا المبلغ الهزيل، لم تتمكن من الحصول عليه إلا بعد إعداد ملفات بثقل الهمّ، لتُقبل أخيرا في “الرباط”، ويصرف لهن هذا المعاش المُخزي.





