حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيسياسية

بوتين والتوازن العالمي

 

توفيق رباحي

 

تابعتُ من لندن التسخين الغربي لاحتلال العراق في 2003، يوما بيوم ولحظة بلحظة. أتذكر سعار توني بلير وعتاة المحافظين آنذاك، كأنهم يقفون أمامي الآن. في ذاكرتي الكثير من تفاصيل الخطاب الإعلامي والسياسي الغربي، في لندن وواشنطن ومدريد وكانبيرا.. المصطلحات، المسوغات، التحليلات، حماس قوافل «الخبراء» و«المحللين» و«المختصين» (الذين يعجز بعضهم عن تسمية اثنتين من الدول المتاخمة للعراق). وأقرأ اليوم باهتمام الخطاب السياسي والإعلامي الغربي المتعلق بالأزمة في أوكرانيا، يوميا وفي كل لحظة تقريبا.

النتيجة: الرغبة في الخراب 2003 هي ذاتها في 2022، والهوس نفسه بالجحيم يتكرر. هنا أوكرانيا وهناك العراق. هنا خوف مزعوم من احتلال روسي، وهناك خوف مفتعل من أسلحة دمار شامل في يد رجل مجنون، عازم على الفتك بالبشرية في لحظات!

بعد عشر سنوات من اليوم أو أكثر، بعد أن يكون قد فات الأوان، سيكتشف العالم حجم الأكاذيب في كثير من الإعلام والسياسة في الغرب. تماما مثلما اكتشف أن إبادة بلاد بحجم العراق وتاريخه، تمت من وراء كذب وتضليل قل نظيرهما.

لحسن حظ العالم أن هناك فرقا أساسيا بين المشهدين: فلاديمير بوتين ليس صدام حسين. وبسبب هذا الفرق الحاسم، لا تستطيع الولايات المتحدة وأتباعها في أوروبا وحلف الناتو وبقية العالم تكرار مغامرة الحرب والخراب، التي تابعتها البشرية عاجزة في 2003.

إذا كانت هناك أزمة واحدة بوتين فيها على صواب، فهي الحالية في أوكرانيا. من غير المعقول أن يقرر حلف الناتو التمدد شرقا إلى أبواب موسكو، مع كل ما يعنيه ذلك من ترسانات حربية وتجسس، ثم ينتظر من الروس أن يبقوا مكتوفي الأيدي، على الرغم من أن هذا التمدد هدفه محاصرة روسيا والتضييق عليها في مربع «الستة أمتار»، عدا عن الحصار الاقتصادي المستمر. على عكس صدام حسين المعزول، بعد أن باعه حتى «إخوته» وأقرب جيرانه، أوراق الغلبة اليوم كلها، أو جلها، بين يدَي بوتين.

يخوض بوتين الصراع محاطا بكثير من الدعم الأجنبي، أو لنقُل يخوض الغرب هذا الصراع محروما من كثير من التضامن العالمي التقليدي. تقف إلى جانب روسيا في هذه الأزمة دول من أوروبا الشرقية والصين ودول آسيوية أخرى، ورأي عام عالمي فقد الثقة في الحكومات الغربية.

يمتلك بوتين اليوم ورقة انقسام العالم، وبالخصوص الدول الأوروبية، مما يجري حول أوكرانيا (هناك سباق بين الدول الأوروبية للتبرؤ من الحرب. بريطانيا لا تريد الحرب، ألمانيا كذلك).

ويمتلك بوتين ورقة غموض موقف إدارة الرئيس بايدن وارتباكها، بين حديث عن أنها لا تريد الحرب، وتصرفات تشي بعكس ذلك. إضافة إلى تنامي أصوات داخلية تنادي أن «كفانا خوض حروب ليست حروبنا». يمتلك بوتين ورقة الغاز وحاجة أوروبا الماسة إليه، ووثوقه في أن البدائل المتاحة لتعويض الغاز الروسي غير كافية وغير مضمونة. ويمتلك إيمانه بقدرة بلاده على خوض حرب سيبرانية شرسة والفوز بها، وقد أذاقت الاستخبارات الروسية الغرب قليلا من هذه القدرة، خلال الانتخابات الأمريكية في 2016.

يمتلك بوتين ورقة سوابق قريبة اختبر فيها خصومه، وأيقن أنهم «جعجعة بلا طحين».. تَدَخل بقوة في سوريا، رغم تهديدات الغرب وتحذيراته، ولم يحدث شيء بل أصبح سيد اللعبة. هدد بضم شبه جزيرة القرم، فأقام الغرب الدنيا. ضم القرم، فلم يكن رد الغرب في مستوى التهديد. طارد الهيمنة الأوروبية التقليدية في إفريقيا وأخذ من نفوذ ومصالح دول مثل فرنسا هناك، دون أن يرى منها ردا. لاحق معارضيه في عواصم غربية وقتلهم بالسم تحت شمس النهار، فهدد الغرب وتوعد، ثم بلع لسانه.

يمتلك بوتين حقيقة أن العقوبات الغربية يمكن الالتفاف عليها. سيكون لها بالتأكيد بعض التأثير الاقتصادي، لكنها تبقى سلاحا مرنا يسهل التحايل عليه، بدليل أن إيران عاشت الأربعين سنة الأخيرة تحت وطأة عقوبات صارمة، ورغم ذلك تمكنت من تطوير برنامج نووي. ويمتلك ورقة أن الأوكرانيين ذاتهم لا يريدون الحرب، لأنهم يعرفون ألا أحد سيدفع ثمنها غيرهم.

الحرب التي تقرع طبولها، منذ أسبوع، نفسية، ومن الصعب أن تحدث على الأرض. كل الأطراف تدرك خطورة حرب مباشرة، وواثقة من أنها لن تتحمل كلفتها الكبيرة. حتى مواجهة خاطفة تبدو مستبعدة.

الحرب نفسية قبل كل شيء.. التجييش الروسي هدفه نشر الرعب بين الأوكرانيين، والتحشيد الغربي هدفه ترهيب الروس. الحرب النفسية، مثل الحقيقية، ضرورية للصقور في المعسكرين. هي مفيدة على أكثر من صعيد وتحقق أهداف أصحابها. تلبي تعطش كارتلات الصناعات الحربية إلى صراع جديد، لكي «تستمر الحياة» من خلال الإبقاء على دوران العجلة الاقتصادية في الغرب. تضع الجيوش على أهبة الاستعداد. تشحذ همم مؤسسات الحكم. تستجيب لحاجة وسائل الإعلام الغربية الجامحة إلى صراع جديد غير تقليدي، يرفع نسب المقروئية والمشاهدة.

كل هذا لا يقلل من خطورة ما يجري الآن حول أوكرانيا. الأمر لا يتعلق بلعبة، وإنما بحلقة مفصلية في صراع يحدد مستقبل تموقع كل طرف، وتحكمه في مَن وماذا، لعقود أخرى مقبلة.

نافذة:

الحرب التي تقرع طبولها منذ أسبوع نفسية ومن الصعب أن تحدث على الأرض كل الأطراف تدرك خطورة حرب مباشرة وواثقة من أنها لن تتحمل كلفتها الكبيرة

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى