شوف تشوف

الرأي

تجربتي مع المتشددين

بقلم: خالص جلبي

في عام 1990م كنت في القصيم (السعودية) في مواجهة عسيرة مع كائنات عجيبة، حين خرجت كالعادة أتمشى مع زوجتي. وقفت سيارة «لاند روفر» بعنف وهبط منها عملاقان بسحنتين مكشرتين، ولحيتين غير مشذبتين، وملابس قصيرة تخرج منهما ساقان غليظان. كنا نحن الكفرة في أعينهما، وأن زوجتي التي كشفت عن وجهها قد خالفت تعاليم الله. مرت المواجهة بسلام، حين اعتبرونا من الأجانب الفسقة، الذين يحتاجون إلى ضرب من التهذيب. لم تكن تلك المواجهة إلا رأس جبل الجليد، في قائمة مطالب تطوق المرأة في ظلمات سوداء، وفي رسالة واضحة، أن ليس ثمة خرجة من بيتها إلا للقبر. في المسجد أشار إلي أحدهم بأصبعه أن تعال! لم أفهم عليه. كانت الغترة واللحية الكثة، وسحنة مكفهرة، وتقاطيع غاضبة، تحوم حول المشهد. مرة أخرى بإشارة من أصبعه أن أجلس، ليس ثمة أي كلمة. كان في الأغلب يعتبرني من الجهلة الفسقة المفسدين لنظام المسجد، ويجب تعليمي بصرامة، كيف أضع أنفي على الأرض، أو أن أبرك مثل البعير في السجود، أو مقدار زاوية الميل في وضع يد على أخرى، أو سرعة حركة السبابة في التشهد. تابعت طريقي وأشرت له بيدي أن اتبعني. لم نتبادل أي كلمة، طبقنا فقط لغة الخرسان وتتابعت المشاهد.
باعتباري طبيبا وجراحا كنا في أزمة في الكشف عن ساق مريضة تشكو من دوالي الساقين، أو فتاة وصلت إلى حد الأزمة، في انفجار الزائدة الدودية، كيف نفحص بطن المريضة؟ وليس من مؤشر لمعرفة حدة الحالة، واتخاذ قرار العمل الجراحي قبل انفجارها، إلا فحص البطن، وتبدأ المساومات في مربع الكشف عن المكان.
صديقي أبو عبد الرحمان من المنطقة سألته يوما كم سيطول الوضع؟ أجاب بذكاء: تدخل يمكن أن تتغير الحالة في عشر حجج. اترك الأمر كما هو يمتد قرونا بين ذلك كثيرا.
أذكر من كتاب «المملكة من الداخل» لكاتبه (روبرت ليسي)، أن برامج التكثيف الديني في السعودية زادت على نحو أسطوري، بعد حادثة اقتحام الحرم المسلح في مطلع الألفية عام 1400 هجرية، من مجموعات تدعي خروج المهدي، تطلب الأمر دخول قوات التدخل السريع لإنهاء الأزمة، والاستعانة بكومندا فرنسي على ما بلغني لقتل هؤلاء! ولكن ما نتج عنها كان أمرا مفزعا من تدريس مواد التدين بكثافة خرافية لطلبة وطالبات كل المدارس، فخدمهم بعد قتلهم بأكثر مما عملوا طيلة حياتهم، أصبحت الكثافة السمية تذكر بأكلة واحدة في خمس واجبات. نحن نعرف أن الحلاوة طيب مذاقها، ولكن أن تأكلها وليس غيرها، تنتهي بالقرف والقيء، بل فساد البدن، لحاجة البدن إلى تنوع الغذاء من أملاح وفيتامينات ودسم وبروتينات.
وحين وضعت طالبان يدها على تماثيل بوذا نسفتها بالديناميت، والديناميت من اختراع ألفريد نوبل، ولكنها لم تفكر بحداثة الديناميت، بقدر استخدامها النص القرآني المغلوط عن إبراهيم الذي هدم الأصنام، ولم يتفطنوا إلى أن إبراهيم حطمها إلا كبيرا لها لعلهم إليه يرجعون، وكان بإمكانهم تحويل المكان إلى مقصد سياحي، يعود بالمال الوفير على دولة خاوية الوفاض إلا من تجارة القنب والحشيش، ولكن بينهم وبين الفهم مسيرة أربعين خريفا!
ومن أعاجيب ما كتب (ابن خلدون) في مقدمته، أن هارون الرشيد والمأمون حاولا هدم إيوان كسرى والأهرام فعجزا، وكلها من عقلية البداوة. وهو حسب المؤرخ (توينبي)، فإن احتكاك الحضارة بالبداوة يميل لصالح التوحش البدوي، وحسب (البزاز) العراقي و(الوردي) عالم الاجتماع، فإن كارثة الديكتاتورية في العالم العربي خاصة مع البعث العبثي في العراق وسوريا، هي من خلف (تريف) المدينة، ونقل عقلية الريف من الثأر والدم والتعصب والفحولة ودونية المرأة إلى ما هنالك، فتدمرت المدن العريقة مثل بغداد ودمشق والقاهرة. وتسربت عفونات الفكر البدوي المتدين، حتى مونتريال وأندونيسيا، بطيران على أجنحة دولارات فيها رائحة الغازوال والبنزين.
ما أريد أن أنتهى إليه من كلامي الموجز أن أمورا خطيرة تحدث في المنطقة، وأنه لابد لها من دخول معراج الحداثة، ولكن علينا أن نقول قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا ولا يحرض مخبرا سريا على كتابة تقرير سمي. وقد نفاجأ بحركات إصلاحية جريئة، كما حصل يوما في روسيا على يد كاترين العظيمة، فانتقلت إلى الحداثة الأوربية من الإقطاع الروسي المقيت.
لقد كتبت مع اندلاع الأمور في سوريا رسالة إلى الأسد بعنوان (اقرع باب التاريخ)، متتبعا مسيرة (آشوكا) الهندي في القرن الثالث قبل الميلاد، الذي انقلب من الحالة الدموية إلى الإنسانية، ولكن بدون فائدة، كما حصل مع فرعون وهو في غرغرة الموت فيقول آمنت! وهي قادمة للأسد، في سُنة مكررة عبر التاريخ.
وحسب القانون الخلدوني لعمر الدولة، أنها 120 عاما. ونحن الآن عام 2020 فليس من وقت طويل لخطة الإنقاذ، وإلا فأمم كثيرة انقرضت، وحضارات غيبت، ودول تفككت، وأسر حاكمة لا يذكرها أحد. ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه. نافذة:
حين وضعت طالبان يدها على تماثيل بوذا نسفتها بالديناميت، والديناميت من اختراع ألفريد نوبل، ولكنها لم تفكر بحداثة الديناميت، بقدر استخدامها النص القرآني المغلوط عن إبراهيم الذي هدم الأصنام، ولم يتفطنوا إلى أن إبراهيم حطمها إلا كبيرا لها لعلهم إليه يرجعون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى