
محمد اليوبي
حصلت “الأخبار” على وثائق تخص عملية سطو ممنهجة على وعاء عقاري، كان مخصصا لبناء مؤسسة تعليمية بمدينة إنزكان، وتحويله إلى مركز تجاري ضخم، بعد تحويل ملكية العقار إلى شركة حديثة التأسيس مسجلة باسم زوجة منعش عقاري معروف بالمنطقة وزوجة مسؤول ترابي كبير بوزارة الداخلية.
وحسب الوثائق، فإن هذا العقار تبلغ مساحته 4671 مترا مربعا، كان مخصصا لبناء مؤسسة تعليمية عمومية، غير أن مسار هذا العقار أخذ منعطفا آخر في نهاية سنة 2017، حينما قامت شركة “العمران سوس ماسة” بتفويته لفائدة شركة عقارية بثمن لم يتجاوز 234 مليون سنتيم، وهو مبلغ يثير منذ الوهلة الأولى علامات الاستفهام، نظرا لموقع العقار الاستراتيجي وقيمته السوقية المفترضة في سوق عقار حضري مزدحم وحيوي مثل إنزكان.
وبعد مرور خمس سنوات على التفويت الأول للعقار، عرف تحولا مثيرا في مساره، ففي 24 مارس 2023، قامت الشركة العقارية بإعادة بيعه إلى شركة عقارية أخرى حديثة التأسيس، بمبلغ مليار و400 مليون سنتيم، أي ما يزيد عن ستة أضعاف المبلغ الذي اقتنت به الشركة البائعة هذا العقار من شركة العمران سنة 2017، وكان هذا العقار مملوكا للدولة قبل تفويته لشركة العمران بمبلغ 23 مليون سنتيم، لكن هذه القفزة الصاروخية في القيمة لم تكن ناتجة عن أي أشغال تجهيز أو استثمار عمراني يبررها، بل إن العقار ظل أرضا عارية لم يطرأ عليها أي تغيير يضيف إلى قيمتها، ما جعل الارتفاع بهذه النسبة وفي ظرف زمني وجيز يخرج عن المنطق الاقتصادي العادي، ويدفع إلى البحث عن عوامل أخرى خفية تفسر هذا التضاعف غير المسبوق.
وبعد البحث في وثائق التفويت وإعادة البيع، تبين أن السر في ذلك لا يكمن في دينامية السوق، وإنما في خصوصية العقار ذاته، وكذلك في هوية مالكي الشركة الجديدة التي اقتنت هذا العقار، والتي تأسست في سنة 2022، أي قبل سنة من عملية إعادة البيع، لتبدأ خيوط تضارب المصالح واستغلال النفوذ في الظهور، وليتحول وعاء كان مخصصا للتعليم إلى أداة لتحقيق أرباح استثنائية في زمن قياسي.
فإذا كان التفويت الأول قد أثار أسئلة حول الثمن الرمزي والتخصيص التعليمي للعقار في تصميم التهيئة، فإن إعادة البيع في سنة 2023، أزاحت الستار عن معطيات أكثر حساسية تتعلق بهوية الأطراف المستفيدة، فقد انتقل العقار إلى ملكية شركة حديثة التأسيس، وما يثير الانتباه أن المالكين الرئيسيين لهذه الشركة هما السيدتان (س. أ) و(م. أ)، الأولى هي زوجة (ر. ب) مالك الشركة العقارية التي استفادت من التفويت الأول سنة 2017، والثانية هي زوجة مسؤول نافذ بوزارة الداخلية. وتكشف هذه التركيبة عن روابط عائلية مباشرة بين البائع والمشتري، والذي خطط لعملية التفويت والترخيص في كواليس الإدارات والمصالح الخارجية التابعة للعمالة، وتضع الملف في قلب شبهة تضارب المصالح.
وجود هذه الصلة العائلية يجعل من الصفقة عملية تبدو أقرب إلى نقل ملكية بين أطراف من نفس الدائرة، أكثر من كونها معاملة تجارية طبيعية، فالأرباح الكبيرة التي تم تحقيقها في عملية “البيع والشراء” لم تذهب إلى فاعل جديد مستقل، بل عادت إلى نفس الشبكة العائلية التي كانت طرفا في عملية التفويت الأول.
وتزداد خطورة الوضع حين يتعلق الأمر بقرابة مع مسؤول إداري يمارس سلطة الرقابة على الجماعات الترابية ويتدخل في مراقبة وثائق التعمير والمصادقة على رخص البناء، فحين تستفيد زوجته من صفقة عقارية مربحة ترتبط بتغيير تخصيص مرفق عمومي، تصبح شبهة استغلال النفوذ قائمة بقوة، حتى وإن لم يثبت التدخل المباشر، لأن الأصل في تدبير الشأن العمومي يجب أن يكون محكوما بالشفافية والحياد، ووجود هذه الروابط العائلية كاف لإثارة الشكوك حول نزاهة القرار المتعلق بتغيير التخصيص ومنح الرخص.
وتشير المعطيات المتوفرة والتسلسل الزمني للأحداث، إلى أن تأسيس شركة جديدة سنة 2022، ثم دخولها مباشرة في صفقة مربحة بهذا الحجم، وبمشاركة زوجة المالك الأول وزوجة المسؤول النافذ، يظهر أن الأمر لم يكن مصادفة أو استثمارا تقليديا، بل جزءا من ترتيب محسوب بعناية للاستفادة من تغيير مرتقب في وضعية العقار.
ووفق تصميم التهيئة المصادق عليه في سنة 2021، كان العقار مصنفا بشكل واضح ضمن خانة التجهيزات العمومية (التعليم)، وهو ما يعكس توجها مؤكدا لبناء مؤسسة تعليمية تخدم حاجيات السكان المحلية، كما أن المجلس الجماعي في الولاية السابقة صادق على مقرر لاقتناء العقار من أجل بناء مؤسسة تعليمية للتكوين المهني، غير أن هذا التخصيص لم يصمد طويلا، إذ تزامن مع انتقال ملكية العقار إلى شركة “الزوجتين”، مع تغيير في وضعيته، حيث فقد صفة “مؤسسة تعليمية” وحصل على تصنيف جديد يسمح باستغلاله لأغراض تجارية كبرى، دون احترام المسطرة القانونية لتغيير تصميم التهيئة واضحة، إذ تقتضي فتح بحث علني لمدة شهر كامل مع نشر إعلانين في صحيفتين على الأقل، وإشهار القرار بمقر الجماعة، ثم مناقشة الملاحظات المسجلة داخل المجلس الجماعي، قبل أن يحال الملف على المصادقة الإدارية النهائية، غير أن الوثائق المتوفرة لا تكشف عن أي أثر لهذه الإجراءات.
والمثير أن هذا التغيير جاء متزامنا تقريبا مع إتمام عملية البيع الثانية، وهو ما يعزز فرضية الترتيب المسبق بين الأطراف للاستفادة من وضعية جديدة ترفع قيمة العقار وتسمح باستغلاله في مشروع تجاري مربح، لأنه بعد تغيير تخصيص العقار، لم يطل الانتظار طويلا حتى ظهرت أولى ثمار هذا التحويل، ففي ظرف قياسي لا يتعدى شهرين على إبرام عقد البيع الثاني، حصلت شركة “الزوجتين” على رخصة بناء، ولم تكن هذه الرخصة عادية، بل خصصت لمشروع ضخم يضم مركزا تجاريا وتجزئة طبية ومركز أعمال من خمسة طوابق.
السرعة التي منحت بها الرخصة تطرح أكثر من علامة استفهام، إذ من المعروف أن مسطرة الحصول على رخص البناء لمشاريع كبرى تستغرق عادة أشهرا، نظرا لارتباطها بدراسة الملفات التقنية، وإجراء المداولات، والحصول على تأشيرات الوكالة الحضرية والمركز الجهوي للاستثمار ومختلف المصالح المتدخلة، غير أن هذا المشروع حصل على الضوء الأخضر في وقت وجيز، وهو ما يعزز فرضية وجود تسهيلات استثنائية.
وكانت هذه الرخصة بمثابة خطوة حاسمة في تكريس تغيير وظيفة العقار، الذي انتقل من وعاء مخصص لبناء مؤسسة تعليمية إلى مشروع تجاري ضخم تساوي قيمته الملايير، ويهدف إلى تحقيق أرباح كبيرة من استغلاله في أنشطة بعيدة كل البعد عن التعليم والمصلحة العامة، في الوقت الذي كان المواطنون ينتظرون بناء مؤسسة تعليمية تخفف الضغط على مدارس إنزكان.





