
يحتفل المغاربة هذه السنة بالذكرى السادسة والعشرين لاعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة، وهي مناسبة وطنية تتجلى فيها مظاهر الفخر والاعتزاز بمسار المملكة، خصوصا في واحدة من أبرز القضايا الوطنية التي ظلت محور اهتمام الملك وأولوية لا تقبل المساومة، ألا وهي قضية الصحراء المغربية. فقد شكل هذا الملف، على مدار عقدين ونصف من الزمن، التحدي الأكبر الذي واجه المغرب، إذ يمثل قضية مصيرية مرتبطة بسيادة الوطن ووحدته الترابية، ومفتاح استقراره السياسي والاجتماعي. ومنذ تولي الملك الحكم، شهد تدبير ملف الصحراء تحولا جوهريا في الرؤية والاستراتيجية، جعلت من المملكة طرفًا فاعلا وحكيما في إدارة هذا النزاع الإقليمي، وحققت مكاسب دبلوماسية وتنموية لا يستهان بها.
لم يكن ملف الصحراء المغربية مجرد نزاع إقليمي أو خلاف حدودي، بل هو في جوهره قضية تاريخية وحقوقية تستند إلى روابط عميقة بين سكان المنطقة والهوية الوطنية المغربية التي تشكلت عبر قرون. فقد استعاد المغرب أراضيه الجنوبية بعد الاستعمار الإسباني، غير أن النزاع تفاقم مع بروز جبهة البوليساريو وانفصالها المزعوم، مما خلق حالة من عدم الاستقرار استمرت لسنوات طويلة، تخللتها فترات حرب، ثم محاولات لحل سياسي بقيادة الأمم المتحدة. لكن التعقيدات الإقليمية والدولية، وغياب الإرادة الحقيقية لبعض الأطراف أدت إلى إطالة أمد النزاع، مما فرض على المغرب تبني مقاربة جديدة تقوم على دمج التنمية مع السياسة، وعلى دبلوماسية نشطة تسعى إلى كسب الدعم الدولي وإثبات حق المغرب السيادي على صحرائه.
تحت القيادة الحكيمة للملك محمد السادس، تحولت قضية الصحراء إلى مشروع وطني متكامل يجمع بين القوة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، ويرتكز على منظور تنموي شامل، لا يقتصر على الحضور الأمني أو السياسي فقط، بل يمتد ليشمل البنية التحتية، وتحسين ظروف العيش للسكان، وتعزيز الإدماج الاجتماعي والثقافي في الأقاليم الجنوبية. فقد أدرك جلالة الملك منذ بدايات حكمه أن التنمية هي السبيل الأفضل لترسيخ الوحدة الوطنية، وأن تحسين حياة المواطن في الصحراء هو رسالة لا تقل أهمية عن الدفاع عن السيادة.
على هذا الأساس، انطلقت سلسلة مشاريع تنموية ضخمة تهدف إلى ردم الفجوات التنموية بين الأقاليم الجنوبية وباقي مناطق المملكة، حيث شهدت هذه الأقاليم استثمارات هائلة في مجالات الطرق، والطاقة المتجددة، والسكن، والتعليم، والصحة، إلى جانب دعم الصناعات التقليدية والسياحة البيئية، وهو ما جعل من هذه المناطق منطلقا حقيقيا للنمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. هذه المشاريع لم تكن مجرد إجراءات تقنية، بل كانت إعلانا واضحا على أن الصحراء جزء لا يتجزأ من النسيج المغربي، وأن سكانها يتمتعون بحقوقهم الكاملة كمواطنين مغاربة.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، عرف الملف تحولات كبيرة ساهمت في تعزيز مكانة المغرب على الساحة الدولية. فإلى جانب جهود المفاوضات التي تتم في إطار الأمم المتحدة، تبنت المملكة سياسة تحالفات ذكية مع عدد من الدول الإفريقية والعربية والأوروبية والأمريكية. ولعل أبرز هذه النجاحات كان الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، والذي جاء كنتيجة مباشرة لمجهودات دبلوماسية ملكية حثيثة، وقد أعقبه دعم من دول أخرى وتأييد متزايد من قبل المنتظم الدولي، مما عزز موقف المغرب وجعله أكثر قدرة على فرض الحلول السياسية القائمة على التوافق والواقعية.
في الوقت نفسه، ظل المغرب ملتزما بالمشاركة في الجهود الأممية الساعية لحل النزاع، مؤكدا على مبادرة الحكم الذاتي التي طرحها كحل سياسي متوازن، يضمن للشعب الصحراوي حقوقه السياسية والثقافية والاجتماعية في إطار سيادة المملكة. هذه المبادرة، التي استندت إلى المبادئ الدولية وقواعد القانون، تعتبر جسرا للتفاهم والسلام، وقد لقيت تجاوبا من العديد من الدول والمنظمات، مما يعكس مدى معقوليتها وواقعية توجهها.
ومن جانب آخر، لم تغفل الرؤية الملكية الجانب الإنساني والاجتماعي، فقد أولى الملك عناية خاصة لتحسين حياة السكان في الأقاليم الجنوبية، عبر دعم الجمعيات المحلية ومشاريع الإدماج الاجتماعي، بالإضافة إلى العمل على توفير الخدمات الأساسية التي تضمن كرامة المواطن، وتشكل قاعدة صلبة للتماسك الوطني. كما حث الملك على ضرورة دمج الفئات المهمشة، خاصة الشباب والنساء، في برامج التنمية وتمكينهم من المشاركة الفعالة في الحياة الاقتصادية والسياسية، بما يعزز الشعور بالانتماء ويرسخ الوحدة.
ورغم هذه المكاسب الكبيرة، لا يزال ملف الصحراء يواجه تحديات متعددة، تتمثل في محاولات بعض الأطراف التشويش على مسار التسوية السلمية، واستمرار بعض الحركات الانفصالية في تأجيج الخلافات، إضافة إلى الأوضاع الجيوسياسية المتغيرة في المنطقة، والتي تستوجب يقظة دائمة من قبل المغرب. وفي هذا الإطار، يبقى المشروع التنموي الذي يقوده الملك في الأقاليم الجنوبية هو الضامن الأنجع للحفاظ على السلم والاستقرار، عبر خلق فرص العمل وتحسين ظروف العيش، ما يجعل من صحرائنا نقطة جذب للاستثمار والعيش الكريم.
وبالنظر إلى الاستحقاقات المستقبلية، يظل المغرب ملتزما بإرادة صلبة في مواصلة العمل من أجل حل سياسي شامل وعادل، يرتكز على الحوار البناء والاحترام المتبادل، ويضمن حقوق جميع الأطراف، مع الحفاظ على السيادة الوطنية. كما أن المغرب يضع أمام أعين الجميع صورة لمغرب موحد متماسك، يرتقي بأقاليمه الجنوبية إلى مصاف التنمية والازدهار، مما يجعل من قضية الصحراء مثالا حيا على قدرة الدولة المغربية على مواجهة التحديات وتحقيق التقدم.
إن الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش ليست مجرد احتفال تاريخي، بل هي فرصة للتأكيد على مدى التزام جلالة الملك محمد السادس بخدمة الوطن والملك والمواطن، وتثبيت الوحدة الوطنية التي تعبر عنها قضية الصحراء. فقد وضعت الرؤية الملكية، عبر هذه السنوات، لبنة أساسية في بناء المغرب الحديث الذي يحافظ على حدوده ويتطلع إلى المستقبل بثقة وأمل، وهو المغرب الذي يحترم إرادة شعبه ويجعل من استقراره وأمنه قضايا مقدسة لا مساومة فيها.
في النهاية، يظل تدبير ملف الصحراء المغربية نموذجا وطنيا رائدا في التوازن بين السياسة والتنمية، بين القوة والحكمة، وبين الطموح والحصافة. فبفضل القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، حقق المغرب إنجازات متقدمة في قضية لطالما كانت مصدرا للتوتر، لتصبح اليوم مسيرة بناء وتقدم واستقرار، تحمل في طياتها رسالة سلام ووحدة وإرادة شعبية قوية، تستشرف آفاقا مشرقة لهذا الوطن العزيز.





