شوف تشوف

الرئيسية

ثريا اليعقوبي.. أرملة المفكر محمد أركون التي أصرت على دفنه في المغرب رغم الاعتراض الجزائري

من المصادفات الغريبة في حياة المفكر العربي محمد أركون، أنه ولد في بلدة تاوريرت في منطقة تيزي أوزو الجزائرية، وظل عاشقا لمدينة مغربية تحمل الاسم نفسه «تاوريرت»، قبل أن يوصي بدفنه في المغرب.
في سنة 1928 رأى محمد النور في العمق الأمازيغي الجزائري، هناك أكمل دراسته الابتدائية ليقرر الوالد الرحيل إلى وهران رفقة أفراد أسرته، ولأن الفتى لم يكن يجيد وقتها سوى اللهجة الأمازيغية، فقد عانى الأمرّين في دراسته الإعدادية. وكاد والده لونيس بن محمد أن ينهي مبكرا مساره التعليمي ليساعده على إعالة أفراد الأسرة، إلا أن إصرار محمد على إكمال دراسته وتدخل خاله حالا دون ذلك.
وبعد إكمال دراسته الجامعية في شعبة الفلسفة بالجزائر، ذهب محمد أركون لإكمال دراساته العليا في «السوربون»، التي تحول إلى أحد أعمدة هيئتها التدريسية في شعبة الدراسات الإسلامية.
في فرنسا تعرف المدرس الجزائري على فتاة فرنسية، سرعان ما تزوجها، إلا أن الزواج الذي أثمر بنتا سرعان ما انتهى إلى الطلاق، ليتعرف أركون على فتاة مغربية تدعى (ثريا اليعقوبي) التي أصبحت رفيقة وبوصلة حياته.
ظل محمد يتردد على الدار البيضاء، مسقط رأس زوجته ثريا، بل إنه كان يقضي الجزء الكبر من إجازته في المغرب. ومباشرة بعد حصوله على التقاعد الوظيفي كمدرس سنة 1995، اختار أركون الاستقرار في العاصمة الاقتصادية للمملكة، دون أن يقطع الاتصال مع باريس التي تعتبر مدينته الثانية، حيث أصبح أركون في العقود الأخيرة من حياته نشيطا في مناظرات الحوار بين الأديان وصوتا متميزا فيها، إذ كان يدعو إلى قبول مبدأ المساواة بين الأديان.
عاش أركون وضعا صحيا مقلقا وظلت ثريا رفيقته في محنه، حريصة على قضاء ليال في مصحات باريس، بل إنها لعبت دور سكرتيرته ومستشارته في آخر أيامه، كما رافقته في كثير من الملتقيات حيث ظهرت إلى جانبه في سنة 1996 حين منحته فرنسا وسام جوقة الشرف الفرنسية، وخلال محاضراته التي كان يلقيها في أوربا.. لكن اليعقوبي وأركون ظلا يشعران بحيف من السلطات الجزائرية التي كانت تصرف النظر عنه ولا توليه الاهتمام الذي حظي به في فرنسا والمغرب. وكانت السلطات الجزائرية تخشى دعوة المفكر نظرا للاحتقان الذي ميز علاقته بإسلاميي البلد الجار، سيما وأن مواقفه كانت تدعو إلى التعايش بين جميع الأديان. لكن أرملته ثريا أكدت، في أكثر من ملتقى، أن المفكر الراحل كان يتحدث دائما عن منطقة القبائل مسقط رأسه، بل إن كثيرا من المفكرين الجزائريين كانوا يتمنون دفنه في أرضهم، لكنه دفن في المغرب وبالدار البيضاء تحديدا، تنفيذا لوصيته، لأنه كان يعتبر المغرب بلده الأول.
في مثل هذا الشهر من سنة 2010، توفي محمد أركون في إحدى مصحات العاصمة الفرنسية باريس، بعد معاناة كبيرة مع المرض، عن عمر يناهز 82 سنة. وبقرار من زوجته وتنفيذا لوصيته، نقل جثمانه من باريس على متن الخطوط الجوية الملكية المغربية لدفنه في مقبرة «الشهداء» بالدار البيضاء، بعد أداء صلاة الجنازة عليه في مسجد الحسن الثاني، بمشاركة عدد من الشخصيات الثقافة والسياسية، يتقدمهم بنسالم حميش، وزير الثقافة المغربي آنذاك.
وجرى تشييع جثمان الفقيد بحضور حشد غفير، تتقدمه زوجته السيدة ثريا اليعقوبي وكريمته سيلفي أركون، والعديد من الشخصيات من عالم الفكر والثقافة والسياسة والإعلام، وجمع من أصدقاء الراحل ومعارفه، فيما سجل غياب سفير الجزائر في المغرب. بينما توصلت أرملته في اليوم الموالي للدفن برسالة عزاء من ملك البلاد محمد السادس الذي وصفه بـ«الشخصية الفذة التي أسدت خدمات للفكر».
ودار جدل كبير حول جنازة المفكر الجزائري الراحل، حيث شكل اختيار أركون الدار البيضاء لتكون مثواه الأخير مفاجأة بالنسبة للأوساط الفكرية والثقافية في الجزائر، بينما اعتبر أمرا عاديا في الوسط الجامعي بأكبر المدن المغربية، رغم أن هذا الاختيار يكتسي أبعادا رمزية نظرا للأصل الجزائري لمحمد أركون والمأزق الذي يتخبط فيه الاتحاد المغاربي بسبب الخلافات السياسية بين المغرب والجزائر، لاسيما وأن الفقيد كان معارضا لقرار فرض التأشيرة على تنقل الأشخاص بين الدول المغاربية، واصفا إياه بـ«الكارثة الإيديولوجية».
إلا أنه بفضل استقراره في الدار البيضاء على مدى 15 سنة، أي منذ تقاعده من الجامعة الفرنسية، «أصبح أركون منذ مدة ليست بالقصيرة جزءا من النخبة المفكرة في الدار البيضاء، أصبحنا خلالها نلتقي كثيرا ونشتغل معا، ونتشارك اهتماماتنا وأبحاثنا الفكرية والثقافية، وندعوه لندواتنا ونطلب منه مقالات»، يقول مشيعوه.
بعد وفاة محمد أركون قامت أرملته ثريا اليعقوبي بجمع الحوارات التي أجراها قيد حياته حول الدراسات الإسلامية وقضاياها، في كتاب تحت عنوان «البناء الإنساني للإسلام»، كما أنشأت جمعية باسم الفقيد تعنى بموروثه الفكري، خاصة «أنثروبولوجيا الإسلام» التي كان الفقيد أحد مؤسسيها. كما قامت أرملته بإطلاق موقع إلكتروني خصص لأعمال وفكر أركون، ووعدت بإنشاء مركز ثقافي بمدينه الدار البيضاء يضم معظم مؤلفاته.
ويتيح موقع «فونداسيون- أركون. أورغ»، للمتصفح، الاطلاع على أكثر من 130 شريطا تحتوي على 230 ساعة من الحوارات والمحاضرات، وأكثر من 10 ساعات لتسجيلات الفيديو، فضلا عن وثائق مكتوبة وصور ونصوص غير منشورة من قبل. ناهيك عن السيرة الذاتية للفقيد وخصوصا مساره العلمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى