شوف تشوف

شوف تشوف

«ثقافة» السجون

الذين حكمت عليهم الأقدار بالمرور عبر قضبان سجون المملكة، وحدهم يعرفون أن الساعات الصفراء الملقبة بـ«الطابلو»، و«الكيطمات» الرياضية من نوع «أضيضاس» المزينة بإشهار طيران «الإمارات» و«نايك»، التي يتباهى بها «أبطال» ما يسمى «التشرميل» على صفحات «الفيسبوك»، هي «علامات تجارية» خارجة من زنازين السجون.
وحتى كلمة «التشرميل» التي وصلت إلى البرلمان، والتي تعني أن «بنادم خاسر الفلوس على راسو»، هي كلمة خارجة من قاموس السجون. بمعنى أن كل أولئك الشباب والمراهقين والمراهقات الذين يتباهون بصورهم فوق صهوات دراجات «تي ماكس»، وهم يعرضون  «غنائمهم» وأسلحتهم البيضاء الحادة، هم خريجو سجون المملكة وإصلاحياتها.
ولعل السبب في ظهور موضة للأزياء الخاصة بمن يسمون أنفسهم «الحباسة»، هو أن المندوبية العامة للسجون لا تفرض على السجناء، كما هو الحال في سجون كل بلدان العالم، زيا موحدا تمنحه لهم الإدارة.
وهكذا ظهرت «الموضة» الخاصة بالسجناء، وأصبح لهم زيهم المعروف، أي «سبرديلة نايك» و«كيطمة أضيضاس»، وساعة صفراء كبيرة، وقصة شعر تشبه رأس الديك الرومي، بسبب العرف الذي يربونه طيلة تواجدهم في المؤسسة السجنية.
وطيلة تواجدي بالمركب السجني عكاشة، كنت دائما أقول إن هناك قنبلة موقوتة توجد داخل السجن وستنفجر في يوم من الأيام في وجه الجميع. وها هي الآن قد انفجرت ووصلت شظاياها إلى قبة البرلمان.
هذه القنبلة اسمها «الإصلاحية»، أو ما يسمونه هناك «البيبي».. إنها ببساطة الأكاديمية الذي يتخرج منه مجرمو المستقبل.
ولعل أكبر جريمة تحدث اليوم في المغرب، هي تلك التي تحدث في هذا المكان بالضبط. لأن كثيرا من القاصرين الجانحين الذين يرتكبون جرائم وجنحا يدخلون الإصلاحية، فيجدون أنفسهم وسط فضاء يمنحهم فرصة تعلم كل الأشياء السيئة.
وفي الإصلاحية، فتوقيت النوم مقلوب رأسا على عقب، إذ ينامون في النهار ويستيقظون في الليل. ليست هناك أية برامج للتكوين والانضباط، وفي غياب شروط النظافة، فإن الحكة و»الجربة» منتشرة بكثرة بين صفوفهم، ولم يسلم من عدواها حتى بعض الحراس.
وكثيرا ما كنت أرى قناني محلول «السكابيول» الفارغة مرمية في حديقة الفسحة، وهو المحلول الذي يستعمل مع الماء عند الاستحمام للقضاء على الجرب والحكة والأمراض الجلدية التي انقرضت في البلدان الأخرى.
وكنت أقول في نفسي إن الجريمة إذا لم يتم القضاء عليها في المهد، فإنها تكبر وتنتشر. وهذا ما تعاني منه مدن المغرب قاطبة، خصوصا مع مراهقين يحملون سيوفا أكبر منهم، ولا يتورعون عن طعن ضحاياهم في أماكن مميتة، من أجل هاتف أو حقيبة يد.
لقد رأيت كثيرا من هؤلاء المراهقين في قاعة الزيارة. أغلبهم ليس في وجهه مكان خال من علامات «النايك» وضربات السكاكين وأمواس الحلاقة. بعضهم يتعمد فتح ندوب عميقة في وجهه، لكي يبدو شريرا وخطيرا تمهيدا لنقله من جناح «البيبي» إلى جناح «الكبار».
وهذا الانتقال عند أغلبهم يعتبر ترقيا «طبقيا» عظيما يتفاخرون به بينهم. فكثيرون ممن يقضون عقوبتهم في «البيبي»، ينتظرون فقط اليوم الذي يغادرون فيه نحو أجنحة الكبار.
هكذا يتحولون من مجرمين بالهواية إلى «حباسة» حقيقيين. وحتى عندما يقضي بعضهم عقوبته في «البيبي» ويغادر، فإنه يقترف جنحة أو جناية جديدة لمجرد العودة من جديد و»التشرف» بدخول سجن الراشدين.
الذين يخططون للسياسة الجنائية بالمغرب انطلاقا من مكاتبهم المكيفة، والذين يعدون دراسات عن بعد حول وضعيات السجون لكي يعززوا بأرقامهما المهولة تقاريرهم السنوية، يجهلون أن هناك في المغرب اليوم ما يمكن تسميته «ثقافة الإجرام». وهذه الثقافة تعرف إقبالا منقطع النظير من طرف مراهقي اليوم، الذين يتحلون بسرعة رهيبة إلى جانحين يقومون بسلوكيات عدوانية تتحول بسرعة إلى سلوكيات إجرامية تهدد أمن المواطنين وسلامتهم الذاتية في الأماكن العامة.
لذلك، فالحل ليس هو «الحملات» الأمنية التي تنتهي باعتقال بعض الجانحين والمبحوث عنهم، والذين ما يلبثون أن يعودوا إلى الشوارع لممارسة «هوايتهم»، بل الحل هو القضاء على أصل الداء، أي إصلاح «الإصلاحية» التي يتدربون داخلها على الإجرام.
وللأسف الشديد، فهذه السلوكيات الإجرامية لن تتوقف عند الحد الذي أصبحنا نشاهده يوميا في الشوارع، بل إنها مرشحة للارتفاع بسب وجود أكاديمية لتركيب قطع غيار هذه الفصيلة من المنحرفين. هذا المصنع هو «الإصلاحية» التي توزع بانتظام جيوشا من الخريجين من محترفي الإجرام على الشوارع.
في فرنسا وبعض الدول الديمقراطية، فطنوا إلى خطورة الجنوح المبكر لدى المراهقين، فأسسوا مراكز في السجون ترسل إليها العائلات أبناءها العاقين والمشاغبين ومنعدمي التربية. هناك يتم تعريضهم لبرنامج تعليمي ورياضي أشبه ببرامج العسكر. فلا تمضي ستة أشهر أو سنة حتى يصبح المراهق الجانح أكثر وداعة من حمل، وأقصى ما يتمناه هو أن يأتي اليوم الذي يغادر فيه المركز لكي يعود إلى غرفته ببيت العائلة ومقعده بالمدرسة وأصدقائه في الحي.
عندنا يكدسون الجانحين في زنازين مثل السردين، ويتركونهم لحالهم بمجرد ما يغلقون عليهم الأبواب بالمفاتيح. لقد رأيت بعض هؤلاء المراهقين كيف يتحدثون مع أمهاتهم في قاعة الزيارة، وكيف يهددونهن عندما لا يستطعن إحضار الأشياء التي طلبوها. أشياء من قبيل ساعة «سواتش» مذهبة، وبذلة رياضية وحذاء «نايك» وقميص «البارصا»، فهذه هي الموضة هناك، والجميع يسير محركا معصم يده المثقل بالساعة الصفراء الكبيرة بتفاخر.
وأغلب ما تحضره لهم عائلاتهم يبيعونه قبل الوصول إلى زنازينهم في الإصلاحية، أو يقايضونه مقابل علب التبغ أو لفافات الحشيش. حتى الأكل منهم من يقايضه بأي شيء يمكن أن يغيبه عن الوعي. حبة «كوميرة» أو «فرفارة» أو «نوزينان» التي يسمونها هناك»روزينا»، واحدة كفيلة بأن يقايض بها أحدهم أثمن شيء يملكه، بما في ذلك كرامته.
وهذه الحبوب يصفها الطبيب للسجناء الذين يعانون من مشاكل نفسية ويحتاجون إلى مهدئات لكي يناموا فترة أطول، فتنتهي في السوق السوداء بأسعار خيالية.
وبما أن هذه الأدوية تصلح للتخدير، فهي تباع وتشترى بين السجناء. والطريقة الوحيدة للحصول على هذه الأدوية، هي أن تنجح في التحول إلى «خبرة»، أي أن تتصنع الجنون والحمق. هكذا يتم تسجيلك في لائحة «المخيبرين» الذين يحصلون يوميا على هذه الحبوب «المهلوسة».
وبالموازاة مع هذا الانتشار السريع لمظاهر الانحراف والعنف في الشوارع، وحتى داخل المحلات التي تتعرض للنهب تحت التهديد بالسيوف، نلاحظ تراخيا أمنيا في مواجهة هذا الوضع بالصرامة المطلوبة.
فعندما يشعر المجرمون بأنهم أصبحوا يرهبون الأمن، وأنهم قادرون على تحدي رجاله ببتر أيديهم وبقر بطونهم بالسيوف، فإن المواطن العادي أصبح يشعر بأنه تحت رحمة الإجرام.
واليوم يكاد الكل يجمع على وجود انفلات أمني في مدن مغربية، إلى درجة أن المواطنين في الدار البيضاء أصبحوا يفكرون في تنظيم مسيرة احتجاجية ضد انعدام الأمن.
وليس خافيا على الدولة أن أحياء كثيرة في المدن سقطت في قبضة المجرمين وقطاع الطرق وتجار المخدرات وأصحاب السوابق، إلى الحد الذي أصبح معه هؤلاء المنحرفون يختطفون التلميذات القاصرات في وضح النهار من الشوارع ويغتصبون النساء المتزوجات تحت التهديد بالسيوف في المنعطفات.
السؤال الذي يطرحه المغاربة اليوم، أمام هذه الهجمة الشرسة للمجرمين والمنحرفين على ممتلكاتهم وأبنائهم ونسائهم، هو ماذا تصنع الإدارة العامة للأمن الوطني لكي تضع خطة أمنية مستعجلة لكبح سعار هؤلاء المجرمين الذين يؤرقون المواطنين ويهددون أمنهم؟
أين هي فرق التدخل السريع التي يدربون أفرادها في أكاديميات الشرطة، والتي يخرجونها فقط عندما يتطلب الأمر إخماد احتجاج شعبي؟
ألم يحن الوقت بعد لإخراج هذه الفرق المدربة وقوية البنية وتزويدها بالأسلحة الأوتوماتيكية الحديثة والكلاب البوليسية المدربة، لكي تقوم بجولات في الأحياء الساخنة للمدن التي تنام تحت رحمة السيوف والخناجر؟
إن المواطنين يتساءلون عن سبب غياب الدوريات الأمنية عن أحيائهم التي تسلط عليها المجرمون والمنحرفون من كل نوع، والاكتفاء بشرطي أو اثنين في مخافر قذرة ومظلمة تفتقر إلى أبسط شروط الأمن، ترفرف فوقها راية ممزقة.
أين هي «شرطة القرب» التي رغم تجاوزات بعض أفرادها، افتقد المواطنون حضورها في أحيائهم؟ فقد كانت سيارات ودراجات هذه الشرطة تصيب المجرمين بالذعر وتذكرهم بوجود شيء اسمه القانون في البلد. اليوم، نرى كيف يتعرض أفراد الشرطة أنفسهم للضرب وسرقة أغراضهم من طرف المجرمين والمنحرفين، دون أن تتدخل الإدارة العامة لصيانة هيبة الأمن.
إن الوضع الأمني المتردي في المملكة، أصبح يتطلب ما هو أقوى وأشد من مجرد تدخلات رجال أمن عاديين. إننا نتحدث عن تلك الفرق المدربة على مكافحة الشغب، فالبرازيل عندما واجهت نفس المشكلة مع بعض أحياء مدنها الساخنة، أنزلت إليها الجيش بمروحياته ودباباته وأسلحته الثقيلة، وحررت جميع الأحياء من قبضة المجرمين، إذ لا معنى للحديث عن سيادة الأمن في ظل وجود أماكن لا يستطيع رجال الأمن دخولها.
للأسف الشديد، ما نراه في شوارعنا من حضور أمني لا يدعو إلى شيء آخر غير السخرية والتندر. ولذلك، فلكي يسترد الأمن هيبته يجب، أولا، تغيير صورة رجل الأمن المنتشرة في الشارع العام. يجب أن يكون الحضور الأمني مرادفا لاستعراض القوة، بدون شطط. يعني أن يشعر المجرمون والمنحرفون بالخوف عندما يسمعون «حس» رجال الأمن وهم يقومون بجولاتهم التفقدية، لا أن يشعروا بالتفوق عليهم ويجرؤوا على رفع سكاكينهم في وجوههم.
وهذا ما يسمى في الديمقراطيات التي تحترم نفسها «هيبة الدولة». والهيبة تصان بقوة القانون، لأنه ليس هناك ما هو أخطر على دولة من ضياع هيبتها، إلى الحد الذي يجعل المجرمين والمنحرفين يتطاولون على من يمثلها.
وطالما بقينا نسمع من يوم لآخر عن يد دركي يقطعها منحرف بسيف، وبطن شرطي يبقرها بائع مخدرات بخنجر، فإن هذه الهيبة ستأخذ في التآكل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى