الرأي

ثقافة القتل

في 26 يونيو 2015 وفي 9 رمضان 1436 هـ فجر انتحاري نفسه في مسجد جعفر الصادق في الكويت فقتل 27 خاشعا راكعا، وفي منتجع سوسة في تونس هجم ثان على المصطافين فقتلهم كما يقتل الحجل البري صيدا، وهم لا يستطيعون الطيران فحصد أرواح 37 سائحا أجنبيا، كما حاول إرهابي بنفس التاريخ تفجير مصنع للغاز في ليون في فرنسا. وفي مطلع رمضان قتلت داعش عشرين كرديا بسلخ جلودهم، ومن قبل حرقت الطيار الأردني الذي كان يمطرهم بشواظ من نار ونحاس؛ فأحرقوه مثل فروج مشوي وهم يصورون بكاميرا الديجتال ويوزعون الفيلم على العالم، تحت تطبيق الآية من سورة الأنفال ترهبون عدو الله وعدوكم. فما هذه الثقافة؟؟ ثقافة القتل؟
سألت الملائكة عن جدوى هذا الخلق فلم يؤرقها (الكفر)، بل (القتل):
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟
وكأن القتل هو الكفر مكثفا، لكن الجواب الإلهي رأى جانبا مختلفا لم يتحقق بعد: قال إني أعلم ما لا تعلمون؟
فهذه المقدمة تختصر ثلاثة أشياء: أن القتل أم المسائل الإنسانية، وأن أفظع القتل هو قتل الإنسان لأخيه الإنسان من أجل اختلاف وجهات النظر، وأن هناك برمجة في الكون سوف تتمخض عن استبدال ثقافة القرابين البشرية بثقافة السلام.
والإنسان اليوم يراوح بين (تهمة) الملائكة بالفساد والقتل و(علم الله) فيه، ولكن ما علم الله فيه؟ لنحاول سبر الكلمة باستخدام الأدوات المعرفية المساعدة من العلوم الإنسانية من تاريخ وفلسفة وأنثروبولوجيا.
فأما الإجرام فقد سجله التاريخ، لكن التوقعات الإلهية في الإنسان شيء مختلف، وبقدر تخلص الثقافة من مؤشر القتل بقدر ارتفاع الإنسان وتحقيق (علم الله) فيه، أما حب التدمير فهو يحيي ظنون الملائكة القديمة عن كائن لا ينسجم مع السلام في الكون.
وعندما يحدث شيء مزلزل يوظف كل فريق الدين في صفه، محاولا إخضاع الحدث الكوني لتفسيراته؟ لنطبق نموذجا على ذلك من زلزال لشبونة.
في الأول من نوفمبر عام 1755 زلزلت الأرض زلزالها في لشبونة، عند الساعة 9.40 دقيقة صباحا في عيد (كل القديسين)؛ فلم تبق كنيسة ولا قديس، وخرّت تحت السقوف ثلاثون كنيسة وألف بيت وثلاثون ألف قتيل وجريح من العامة والقسيسين والرهبان والراهبات المتبتلات؛ وفرح المسلمون في المغرب بالانتقام الإلهي من أعدائهم جماعة محاكم التفتيش، لكن الزلزال لم يوفر المسلمين وأكمل طريقه إلى الرباط، فخر الجامع الكبير على رؤوس المصلين، وقال الله لهم: بل أنتم بشر ممن خلق ولستم استثناء.
وهلل البروتستانت فقالوا صراخا (هللويا) إن الله أراهم عجائب خلقه في الكاثوليك، أعداء الإنسانية، واعتبر القس (وليم روبرتون) في بريطانيا أن مذبحة لشبونة أبرزت عظمة الله في أبهى صورها للمؤمنين بالانتقام من الكاثوليك، لكن الزلزال لم يرحمهم، فبعد 18 يوما قتل من البروتستانت في مدينة بوسطن في أميركا بزلزال مشابه أكثر مما قتل من الكاثوليك في برشلونة.
وذهب البعض إلى أن الله عاقب البرتغاليين لفسوقهم، لكن أصحاب الحانات والمراقص في باريس استمروا في مجونهم دون أن يلمسهم الزلزال، مما جعل (فولتير) يومها يضحك على الجميع، ويكتب قصته (كانديد) المشهورة، ويتبرأ منها، ويقول هل من المعقول أن يكتب مثل هذه الهرطقة مثلي؟
واليوم يرى الجهاديون من كل فصيل شيعة وسنة، عربا وعجما، وهزارة من الأفغان، وصهاينة وأفريقان، من التوتسي والهوتو، والحوثيين ومن شايعهم، أن حل مشكلتهم هو بالقتل سواء بضرب الرصاص، أو بتفجير أنفسهم في حافلاتهم، في الحين الذي يرى الفريق المقابل أن الله معهم ويرسل لهم من ينجز عملهم نيابة عنهم دليلا على حسن أخلاقهم وطاعتهم لرب العزة، كما فعلت أميركا مع العراق عام 2003 م حتى خرج أوباما يجر أذيال الخيبة. ويقتتل الليبيون بألف فصيل وحزب، بعد أن نصبوا مخنقة وخازوقا للقذافي؛ وهذا يقول إن الخلاص من الطاغوت هو أسهل فصول مسرحية التخلف.
أما اليهود فيدعون أن (خريطة الطريق) في فلسطين يجب رسمها كما كانت قبل ثلاثة آلاف عام، وهي حجة تتطلب إرجاع الأميركيين إلى أوروبا، والأوروبيين إلى شرق أفريقيا، من حيث خرج أجدادهم قبل 200 ألف سنة مع الهوموسابينز، وبموجب هذه الحجة يجب تغيير خرائط العالم أجمعين، وحشد جماهير لا عد لها في «ترانسفير» من بقعة إلى أخرى في العالم، مما يتطلب حربا كونية ونهاية للجنس البشري.
وفي ظل هذا التأزم في العالم الذي كان فتيله الأصلي أرض فلسطين، كما تنبأ بذلك السوداني الحمد في ألفيته الثانية، حيث ـ وفي ظل اليأس ـ خرجت موضة الانتحاريين، وعندما يفجر الفلسطينيون أنفسهم يعتبرونه استشهادا في الوقت الذي يراه الصهاينة عملا إرهابيا، ومن قتل في الطرف المقابل من أهل النار. مما يؤكد نظرية ترابط الثلاثي من (العدل ـ الأمن ـ الحريات).
ومن هذه المساخر حينما دعا مفتي الجمهورية السورية بعد احتلال العراق إلى حملة استشهادية بتفجير الناس أنفسهم ضد الحملة الأميركية وأنها شهادة في سبيل الله، لا تقل عن استشهاد الصحابة في معركة مؤتة وأحد، ومات الكثيرون بموجب هذه الفتوى، ومن نجا منهم كملت عليه المخابرات السورية خنقا وشنقا وحرقا وبالغازات.
وعندما خرت الأبراج دكا في نيويورك ساجدة على الأرض اعتبرها بن لادن ذروة الجهاد، في الوقت الذي اعتبرها بوش حربا صليبية جديدة يجب أن يكيل فيها الصاع صاعين، فدمر كهوف «تورا بورا» بطائرات السلام النووي (B52) تدميرا، وأحال طالبان إلى التقاعد، فسجلاتهم اليوم في ملفات التاريخ، وصعقت سماء بغداد بنيران بشرر كالقصر كأنها جمالات صفر ويل يومئذ للمكذبين.
والذي دفع الثمن في حادثة نيويورك ثلاثة آلاف من الأبرياء، لا ناقة لهم ولا جمل في القصة؛ فهذه هي جدلية التاريخ والفكر والإنسان.
وكل حزب بما لديهم فرحون.
وللحكم على جدوى أسلوب من فشله فهي نتيجته، وفي يوم حذر المسيح عليه السلام من الأنبياء الكذبة الذين يأتون «من الخارج حملانا، ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة» فقال الحواريون: وكيف لنا معرفتهم؟ قال من ثمراتهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبا؟ أم هل تنبت شجرة الحسك تينا؟
وعندما يختلف الأطباء في حالة مريض، هل تنفعه الأدوية أم شق البطن فإن نتيجة العلاج هي التي تشهد على صحة التشخيص، مهما زعق صاحبها لطريقته وتحمس.
وعندما ماتت ريشل (راحيل) الأميركية وهي تدافع أمام بيت فلسطيني تنوي الجرافات الاسرائيلية هدمه فماتت هرسا، هزت الضمير العالمي أكثر من كل قتلى جنين.
وفي حرب لبنان قتل الكل الكل، لكن مذبحة صبرا وشاتيلا حركت المظاهرات في اسرائيل، ومقتل ألف أعزل لا يدافعون عن أنفسهم هز الضمير أكثر من كل قتلى الحرب الأهلية اللبنانية.
وكذلك الحال مع (غياث مطر) السوري جندي السلام في دمشق، في مظاهرات الحرية والكرامة ورش جنود الطاغية بالماء والورد، دفعت سفير اليابان لحضور مراسم جنازته، ودفعت حتى زبانية الحبوس في قلعة الطغيان الأسدي أن تحافظ على حياة الشربجي صنوه داعية السلام من داريا.
وفي إحدى الصحف استخدم كاتب ببراعة مصطلح (مؤسسة الثأر) ويقصد بها أن الحماس لقتل اليهود يجمع الناس مؤقتا، ولكنه ليس الحل.
وفي الحديث اعتبر القاتل والمقتول في النار بسبب انطلاق الاثنين من نفس الأرضية النفسية «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» وهو تفكيك سيكولوجي في غاية الأهمية.
ونحن لم نستوعب حتى اللحظة صورة الاستشهاد ليس بقتل الآخرين، بل الاستعداد للموت من أجل فكرة بدون مد اليد بالقتل. ولكن من يطرح فكرا من هذا النوع يهرطق، والسبب هي رفعة النفس والتوتر الروحي العالي، وقوة المقاومة، مقابل سهولة انجراف الإنسان إلى غرائزه مثل السنور والجرذ باستخدام مخالبه وأنيابه.
وفي سورة المائدة جاءت خمس آيات يقرؤها المسلمون بعيون الموتى وكأنها لا تنتسب لثقافتهم «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين».
وعندما حذر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة من انقلابهم إلى الكفر اعتبره قتلا «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».
إن مشكلة الدم أنه يحرض الدم، والقتل يأتي بالقتل، والعنف دورة تزداد اتساعا وضراوة، مثل الشرر في غابة جافة في صيف قائظ تضربه رياح مجنونة.
والعنف والحرب هما الصورة العملية للجنون، وعندما درس المؤرخ البريطاني (توينبي) دورة الحروب في التاريخ اكتشف أن كل دورة كانت أشد ترويعا من التي قبلها، ولم يوقف الحرب إلا العلم، ومن رحم العلم ولد السلم، وقنبلة هيروشيما لم تتكرر؛ فكان الحريق النووي بردا وسلاما على الجنس البشري. كما خرج إبراهيم من الأتون سليما.
ومشروع الأنترنت كان عسكريا للبنتاغون، فأصبح الناس بنعمته إخوانا. واليوم يستنشق الناس من خلاله الحرية بأنفاس إلكترونية.
والقرآن تنبأ بأن مصير الحرب إلى توقف «حتى تضع الحرب أوزارها»، واليوم كف البشر في شمال الأرض عن الاقتتال بعد أن جربوا كل الحروب القومية والدينية والعالمية، وعندما تغضب أميركا من فرنسا أو ألمانيا لا يستخدمون الهراوات والفؤوس؛ فقد ودعوا تلك المرحلة إلى غير رجعة، ولقد أصبحت أوروبا 27 دولة تضم 450 مليونا من الأنام، وهذا الاتحاد يتم ليس بمدفعية نابليون أو مدرعات هتلر ولا مخابرات ستالين ولا محاكم التفتيش، بل يتحدون بميثاق الإيمان؛ ليست ألمانيا فوق الجميع، بل ألمانيا مثل الجميع. تحت تجمع سياسي لا يتخذ الناس فيه بعضهم بعضا أربابا من دون الله، في الوقت الذي يهتف الناس في العالم العربي للحاكم كذبا وبهتانا بالدم بالروح نفديك يا أبا الجماجم.
إنها آيات نمر عليها ونحن عنها معرضون.
سئل جحا يوما عن فضيلة السير في الجنازة، وأيهما أفضل المشي أمام الجنازة أم خلفها؟
قال: المهم أن لا تكون في النعش وبعدها امش حيث شئت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى