
يُحبّ اليسار أن يُقدّم نفسه للعالم في ثوب الطهر الثوري، نبيّا منزّها عن الأنانية، حاملا لرسالة التحرر والمساواة والعدالة الاجتماعية. يطلّ علينا بخطاباته الحالمة عن «الشعب» و«الكادحين»، و«العدالة» و«الكرامة»، لكنه ما إن يقترب من كرسي الحكم حتى يتحوّل هذا الخطاب إلى سكين تُقطع به ألسنة المعارضين وتُحفر به قبور الحريات.
اليسار، الذي يلعن الرأسمالية لأنها تحتكر الثروة، هو نفسه الذي يحتكر السلطة حين تبتسم له الظروف. يقول إنه ضد عبادة الفرد، ثم يصنع من زعيمه إلها لا يُمسّ، ويعلّق صوره في الشوارع والجامعات والمصانع، ويكتب في سيرته أنه «قائد المسيرة التاريخية للأمة».
المفارقة المضحكة أن اليساري لا يرى في نفسه طاغية حتى وهو يقمع الآخرين، لأنه، ببساطة، يفعل ذلك «باسم الشعب». كل اعتقال هو حماية للثورة، وكل قمع هو دفاع عن الجماهير، وكل صوت معارض هو «برجوازي خائن» أو «عميل للإمبريالية». وهكذا، باسم الحرية تُكمم الأفواه، وباسم العدالة يُصفَّى المخالف، وباسم الثورة تُدفن الديمقراطية حيّة.
في النظرية، اليسار ضد السلطة المطلقة، لكن في الواقع هو مهووس بها أكثر من أي أحد آخر. حين يحكم يرفض المغادرة، وحين يُعارض يرفض أن يحكم غيره. عاشق أبدي للمنصة، يخطب فيها حتى وهو وحيد. نراه في الأحزاب العربية، في أمريكا اللاتينية، في أوروبا الشرقية وفي كل مكان تقريبا، زعماء يساريون يشيخون في مقاعدهم، يحاضرون في الشباب عن التجديد والتداول، بينما يرفضون التنحي لأنهم «رموز تاريخية لا تُستبدل».
إنها الطوباوية اليسارية في أبهى تجلياتها، التناقض بين المبدأ والممارسة، بين شعارات الحرية ومخالب القمع، بين الحديث عن التغيير والتشبث الأبدي بالماضي. فكل يساري يرى نفسه المنقذ الأخير والآخرين مجرد أدوات في مشروعه الثوري المقدّس. وحين ينهار مشروعه لا يراجع نفسه، بل يلوم «المؤامرة الإمبريالية»، أو «الظروف الموضوعية» أو «خيانة الرفاق»، وكأن التاريخ تآمر عليه لأنه كان مخلصاً أكثر مما يجب.
انظر إلى التجارب اليسارية في القرن العشرين، وسترى كيف تحوّل حلم العدالة إلى كابوس جماعي. من ستالين إلى كاسترو إلى بول بوت، من «الاشتراكية الواقعية» إلى «الثورة المستمرة»، كلهم وعدوا بالجنة على الأرض، فبنوا سجونا أوسع من الأوطان. يرفعون شعار الحرية، لكن الحرية في قاموسهم تعني حرية التصفيق فقط. حتى المثقفون اليساريون، الذين يرفعون شعار النقد الذاتي، يمارسونه بحدود محسوبة، ينتقدون الجميع إلا أنفسهم، ويُحاسبون الأنظمة الأخرى بمعايير مثالية، بينما يبررون لأنظمتهم القمعية تحت غطاء «الظروف التاريخية» أو «الضرورة الثورية».
يطالب اليسار بالتداول السلمي للسلطة، لكنه حين يخسر الانتخابات يصف الناخبين بالجهلة، والإعلام بالرجعي والنتائج بالمؤامرة. يؤمن بالديمقراطية فقط حين تأتي به إلى الحكم، أما حين تُقصيه، فهي «ديمقراطية برجوازية». وهكذا يظل محشورا في معادلة مستحيلة، يريد أن يحكم باسم الشعب، لكنه لا يثق بالشعب.
وحتى داخل الأحزاب اليسارية نفسها، تُمارس الديكتاتورية الصغيرة باسم «الانضباط الحزبي». الأمين العام يصبح نصف إله والقيادات تتوارث المناصب كأنها أوقاف عائلية. تُعقد المؤتمرات لتجديد الولاء لا لتجديد الدماء، ويُقصى كل من تسوّل له نفسه المعارضة. أما «المناضلون الشباب»، الذين يرفعون شعار التغيير، فيُطحنون تحت آلة المركزية الصلبة حتى يتعلموا أن الطاعة أهم من الفكر وأن الشعار أهم من الحقيقة.
اليسار في العالم العربي مثال نموذجي على هذه الازدواجية. يتحدث عن الديمقراطية في المؤتمرات، لكنه لا يمارسها داخل مقراته. ينتقد الفساد، لكنه يغضّ الطرف حين يأتي من رفاقه. يهاجم التسلط باسم الحرية، لكنه يتحالف مع الشيطان باسم «التوازن السياسي». يهاجم الدين لأنه يوظف الإيمان، ثم يوظف هو الآخر «الإيديولوجيا» بالطريقة نفسها، ليخلق كهنوتا جديدا من نوع آخر، كهنوت الثورة والمبدأ والنقاء الطبقي.
والأدهى أن اليسار، في لحظات الهزيمة، لا يتعلم من أخطائه بل يضاعفها. كلما خسر معركة فكرية أو سياسية، ازداد تشددا. كلما خذله الناس، ازداد كراهية لهم، وكلما تراجع مشروعه، ازداد تمسكا به. فهو لا يرى في الواقع مرآة لفشله، بل خيانة للمثل العليا. وهكذا يعيش في زمنٍ خاص به، زمنٍ لا يعترف بالوقائع، ولا بالتطور ولا بأن الجماهير تغيّرت. يظل يردد الشعارات نفسها منذ نصف قرن، وكأن العالم توقف في الستينات.
إن المأساة الكبرى لليسار ليست فقط أنه خان مبادئه، بل أنه لا يعترف بخيانته. فكل ديكتاتور يساري يرى نفسه شهيداً للقضية، وكل حزب يساري يعتقد أنه الضحية الأخيرة في معركة «الحق ضد الشر».. لكن الحقيقة أن اليسار اليوم لم يعد يمثل «الحق» ولا «الشر»، بل يمثل النرجسية السياسية في أبهى صورها.
اليسار، الذي أراد أن يحرر الإنسان من عبودية السوق، جعله عبدا للسلطة. اليسار الذي حلم بمجتمع بلا طبقات، صنع مجتمعا بلا صوت. اليسار الذي رفع راية الحرية، كتب بنفسه شهادة وفاتها. وما تبقّى من هذا المشروع سوى أطلال أيديولوجية وأجيال تائهة بين الحنين والخيبة. ربما آن الأوان أن نعترف: إن اليسار مات ونحن من قتلناه.





