
باتت الدول تخوض حربا من نوع آخر، السلاح فيها هو «البذور»، وذلك من خلال العمل على إفلاس الدول عبر ضرب رصيد بذورها المحلية، لبيعها كل عام البذور التي تحتاجها لغذائها. وبالتالي ستتمكن دول معينة محتكرة لهذا المجال من أن تمسك بقبضة يدها الدول الأخرى، في إطار «ضمان الأمن الغذائي مقابل الأمن أو النفط أو غيرهما».
سهيلة التاور
في منطقة نائية وجليدية، قررت الحكومة في النرويج إنشاء قبو سفالبارد العالمي، أو ما يعرف ببنك البذور العالمي. ففي الجزيرة النرويجية سبتسبرجن، وبالقرب من بلدة لونغياربيين في أرخبيل سفالبارد في القطب الشمالي النائي، على بعد حوالي 1313 كيلومترا من القطب الشمالي، تم بناء أكبر بنك للبذور عالميا.
يعتبر هذا القبو بمثابة سفينة نوح الإنقاذية، حيث إنه صمم خصيصا لمواجهة الكوارث الطبيعية، والحروب، والحفاظ على القطاع الزراعي العالمي، عبر تخزين العديد من البذور، بطريقة تسمح باستخدامها عند الحاجة إليها.
وصمم المنجم العملاق تحت الأرض لتخزين أكثر من 800 ألف نوع من بذور النباتات، وبحسب المنفذين، فقد تم بناؤه بشكل مؤهل لمقاومة هزات الزلازل والتغيرات المناخية الحادة والحروب النووية، وحتى احتمال اصطدام مذنب بالأرض، وذلك لإنقاذ البشرية من خطر المجاعة يوما ما.
ويقع قبو سفالبارد في جزيرة سبيتسبيرجين النرويجية، على بعد نحو 1300 كيلومتر من القطب الشمالي، وقد افتتح رسميا في 26 فبراير 2008، ويحتوي على 1.5 مليون عينة بذور منفصلة من المحاصيل الزراعية.
وتشير البيانات إلى أن القبو بدأ بالحفاظ على مجموعة واسعة من بذور النباتات، التي هي عينات مكررة من البذور المحفوظة في بنوك الجينات في جميع أنحاء العالم.
ويعتبر هذا القبو محاولة للتأمين ضد فقدان البذور في بنوك الجينات الأخرى، خلال الأزمات الإقليمية أو العالمية على نطاق واسع.
وتقوم جهات مختلفة بإدارة القبو، وفقا للشروط المنصوص عليها في اتفاق ثلاثي بين الحكومة النرويجية، وترست تنوع المحاصيل العالمية(GCDT) ، ومركز الموارد الوراثية لدول الشمال (NordGen).
وقد وصلت تكاليف إنشائه إلى نحو 9 ملايين دولار، قامت الحكومة النرويجية بتسديدها، وبحسب الحكومة، يصل عدد الدول المشاركة بحفظ تنوع الحبوب إلى أكثر من 100 دولة، ما يعني تقريبا جميع دول العالم.
ومنذ سنتين، وبسبب الحرب في سوريا، والخوف من انتشار المجاعة، وبعد قصف العديد من المناطق الزراعية وحرقها، طالبت السلطات بسحب بذور للمرة الأولى في تاريخها، وقد تم أخذ عينات من القمح والشعير، وغيرهما من المحاصيل، لإعادة زراعتها في الأراضي.
بنوك أخرى
بات اليوم عدد البنوك الوراثية المنتشرة حول العالم حوالي 1750 بنكا، وأصبحت البنوك الوراثية مهمة وطنية لمعظم البلدان، وحقا سياديا، حيث تحفظ بذور النباتات من أماكن مختلفة، خشية تعرض تلك الأنواع من النباتات للاندثار.
فهناك المركز الوطني للحفاظ على الموارد الوراثية في فورت كولينز بكولورادو بالولايات المتحدة، وبنك النبات الأسترالي وغيرهما من بنوك البذور الأخرى. ولكن أكبرها وأشهرها هو «خزانة البذور العالمية» في سفالبارد بالنرويج، والخاص بالنباتات الزراعية والتي تنتج محاصيل، وتضم الخزانة بذور ملايين من أنواع النباتات، وهي ملك لمن يودعها ويستطيع استرجاعها حين الحاجة.
وهناك «بنك بذور الألفية»، التابع لحدائق كيو الملكية البريطانية، لبذور النباتات البرية التي يخشى عليها من الاندثار أيضا. ويضم أكثر من ملياري بذرة لنحو 40 ألف نوع من النباتات البرية.
وتم وضع الخطط البحثية الخاصة بحفظ الأصول الوراثية، وتوفير المواد الوراثية والمعلومات اللازمة لبرامج التربية المختلفة، وتبادل المعلومات الخاصة بالمصادر الوراثية مع بنوك الجينات المحلية والأجنبية.
وتستفيد الدول المختلفة من تخزين بذور نباتاتها في خزانة البذور العالمية في النرويج لحين الحاجة، كما تستفيد منها مراكز دولية للحفاظ على أنواع النبات، مثل «المركز الدولي للأبحاث الزراعية في المناطق الجافة» (إيكاردا).
ولدى «إيكاردا» بنوك وراثة للنباتات في دول عدة، منها المغرب ولبنان، وكان المركز نشطا في سوريا قبل الحرب.
أهمية بنوك البذور
ازدادت الموارد الوراثية النباتية في العالم عما كان عليه الحال عندما لاحظ الإنسان البدائي أن بإمكانه أن يحفظ البذور من فصل إلى آخر ليزرعها ثانية، فقد تعلم المزارعون كيف يحفظون بذور المحاصيل، ونتيجة لذلك، يزيد عدد أنواع النباتات التي يزرعها الإنسان أو يجمعها غذاء له على السبعة آلاف نوع.
ونتيجة هذه العملية التطورية بات 30 محصولا غذائيا توفر للإنسان اليوم 95 في المائة من حاجاته، وأن أربعة منها فقط، هي الأرز والقمح والذرة والبطاطس توفر أكثر من 60 في المائة من هذه الحاجات، ونظرا إلى أهمية هذا العدد الصغير نسبيا من المحاصيل للأمن الغذائي العالمي، أصبح صون التنوع ضمن كل من المحاصيل الرئيسة ذا أهمية محورية عملية.
ولكن التنوع الحيوي النباتي مهدد بما يسمى «الاستنزاف الوراثي»، وهو مصطلح وضعه العلماء للتعبير عن فقدان الموروثات الفردية وكذلك مجموعات المورثات، ويكمن السبب الرئيس في الاستنزاف الوراثي، في الاستعاضة عن الأصناف القديمة في حقول المزارعين بأصناف جديدة، لأن المورثات الموجودة في الأصناف القديمة ليست موجودة جميعها في الأصناف الحديثة، إضافة إلى ذلك، كثيرا ما تحد الأصناف التجارية عندما تدخل في النظم الزراعية التقليدية من العدد الكبير للأصناف التي كانت شائعة الاستخدام. ومن الأسباب الأخرى للاستنزاف الوراثي، ظهور آفات أو أعشاب طفيلية أو أمراض جديدة، وتدهور البيئة، والتصحر، وإزالة الغابات.
معارك البذور
في عام 2014، أنتجت قناة «TV5 Monde» فيلما وثائقيا تحت عنوان «حرب البذور»، كشف أن خمس شركات عالمية موزعة على عدة دول في الغرب تسيطر على أكثر من 50 في المائة من البذور المخصصة للزراعة في العالم. وهذه الشركات التي تسيطر على البذور هي «مونسانتو
Monsanto وبيونيرPioneer في الولايات المتحدة الأمريكية – ليماغرانLimagrain في فرنسا- سانجانتان Syngenta في سويسرا- وبايرBayer في ألمانيا».
هذه الشركات التي لا شك أنها تمتلك نفوذا كبيرا، ونشاطا خفيا، تمكنت من إلزام الدول، وخاصة في آسيا وإفريقيا، من استصدار القوانين التي تكرس احتكار هذه الحبوب.
القضية عادت إلى الواجهة، بعد خروج تقارير «فرنسية – هندية» عام 2021 تتحدث عن امتلاك الشركات الخمس 75 في المائة من البذور الزراعية في العالم حاليا، وأن البذور التي تباع في أوروبا اليوم تكون مسجلة في «كاتالوغات» خاصة مع أسمائها وسماتها، كما مع أسماء مالكيها.
وكشفت هذه التقارير أن هذه الشركات الخمس باتت تملك 6 آلاف نوع من الحبوب، وبالتالي فإن المزارعين باتوا ملزمين بشراء هذه البذور المعدلة جينيا، والغير قابلة للزراعة إلا مرة واحدة، فإمكانية اقتطاع جزء من المحصول لإعادة زراعته باتت أمرا غير ممكن، لأن البذور المعدلة من قبل هذه الشركات «عقيمة» ولا تُزرع إلا لمرة واحدة، فالنتيجة هي جعل المزارعين مجبرين على شراء البذور المعدلة جينيا والتابعة لهذه الشركات.
الوثائق «الفرنسية – الهندية» والتي كشفتها جمعيات زراعية تنشط في مجال حماية المزارعين وتوزيع الحبوب، جددت الحديث عن مصرف الحبوب الذي أُنشأ في جزيرة في قلب القطب الشمالي «سفالبارد»، وهو الأمر المعروف للكثيرين على أنه بنك لحفظ الحبوب، في حال تعرضت الأرض لكارثة كبيرة، إلا أن الأمر ليس كذلك. تؤكد التقارير الجديدة أن هذا المصرف بات يضم أكثر من 75 في المائة من أنواع الحبوب الموجودة في العالم، والتي من المفترض أن تعيش بين 400 و500 سنة. وكشفت التقارير أن آخر دفعة من الحبوب وصلت إلى هذا المصرف، الذي لا تفتح أبوابه إلا 4 مرات في السنة، من سوريا في العام 2014، بينما كانت الحرب هناك في أوجها، وهو الأمر الذي يحمل الكثير من التساؤلات.
وأكدت هذه التقارير الشكوك، فالأمر لم يكن صدفة، فبعد أن كشف الوثائقي الفرنسي وجود 19 دولة تمول المستودع الجليدي في القطب، قالت التقارير إن الشركات الخمس المصنعة للبذور تأتي في مقدمة الجهات المانحة لمصرف البذور، وإنها لوحدها قادرة على الحصول على البذور وإعادة تأهيلها جينيا لتوزيعها في السوق.
هذه الدول والشركات الخمس نفسها، تؤكد الوثائق أنها تلعب دورا أساسيا في تدمير التنوع البيئي في العالم، وخاصة في المناطق الزراعية في إفريقيا وآسيا، بغية السيطرة عليها، وتحقيق مزيد من النفوذ والأرباح، وهذا الأمر يحصل بقوة اليوم في الشرق الأوسط وإفريقيا الوسطى وبعض مناطق شرق آسيا.
من الهند وفرنسا بشكل خاص تخرج الأصوات المناهضة لهذه الشركات الاحتكارية والتي تسعى إلى احتكار السوق الزراعية العالمية، وبالتالي حرب على الإنسانية من خلال الغذاء. جمعيات قليلة تتقدمها «كوكوبيلي» ترفع صوتها بوجه المحتكرين وتوزع البذور على المزارعين مجانا، إلا أنها تتعرض لضغوط كبيرة، سيما في الغرب.
حرب مستمرة بأشكال عدة تخوضها شركات عملاقة محمية من لوبيات كبيرة جدا في الغرب، تسعى إلى السيطرة على العالم بشتى السبل، من الحرب والنفط وصولا إلى الغذاء.
فحاليا تخوض روسيا التي تقع تحت وطأة العقوبات الغربية، هذه الحرب مع الغرب «حرب البذور». حيث هددت شركات البذور الغربية، على رأسها شركة «باير» الألمانية، بوقف تزويد روسيا بالبذور، ابتداء من العام المقبل. وعلى الرغم من أن روسيا تعد من أكبر منتجي الحبوب في العالم، إلا أنها ما زالت تواجه مشكلة التبعية إلى الغرب في مجال البذور.
وهذه الحرب تذكرنا بعناوين سابقة اتخذتها الأمم المتحدة بحق بعض الدول كالنفط مقابل الغذاء، أو الأمن مقابل الغذاء، وبالتالي فإن العالم خلال الفترة المقبلة سيكون أمنه الغذائي مهددا ومرتهنا لشركات احتكارية، لا شك أنها ستفرض شروطها، لأنها ستكون حينها ممسكة بورقة الغذاء الأقوى، وتحصل مقابلها على ما تريد.





