شوف تشوف

الرئيسية

حقك في الفشل

شامة

 

في العاشر من دجنبر من كل سنة، يحتفل العالم والمغرب باليوم العالمي لحقوق الإنسان. يكثر الكلام، وتكثر التقارير، والدراسات وتصنيفات الدول الأكثر احتراما لحقوق الإنسان، وتلك التي لا يعرف فيها لا الإنسان ولا الحيوان أي حق. لكن هذا اليوم يظل ناقصا طالما أن الميثاق، والحديث عنه لا يتضمن واحدا من أهم الحقوق على الأقل في الزمن الذي نعيشه وهو «حقنا في الفشل».

نتداول دوما إعجابا بدول مثل السويد وسويسرا، وكيف أنها دول يعيش فيها الإنسان، وكل من يتنفس على أرضها بحرية وكرامة، لكننا لا ننتبه كثيرا إلى تفاصيل صغيرة نهملها لأننا منبهرون بالصورة الكبيرة.

التفاصيل الصغيرة تقول إن الشباب في هذين البلدين، والمجتمعات المشابهة لهما، أكثر عرضة للسقوط في دوامة الاكتئاب المؤدي للانتحار، وليس السبب كما يشاع أنها بلدان حذفت الدين من حياتها اليومية، ولا أنها مجتمعات ألغت العائلة من أجل الفرد، ولا السبب أنها بلدان حرمت من نعيم الشمس، بل السبب الرئيسي في هذا الانهيار الذي يحصل للفئة الشابة في هذه المجتمعات، أن هذه المجتمعات لا ترحمهم، ولا تعترف بـ«حقهم في الفشل»، بل تؤاخذهم وتعاتبهم بشدة أنها وفرت لهم كل ما يلزم من تعليم وتربية، ومنح وصحة، وحقوق وحريات، وظروف يحلم آخرون من بلدان أخرى في الحصول عليها. هذه المجتمعات تساوم شبابها، أعطيناكم كل شيء يلزمكم، وننتظر منكم في المقابل نجاحا وتفوقا، لا غير، لا يسمح لكم بالفشل.

في استوكهولم، أذكر أني كنت أهم بدخول الفصل حين كنت هناك أدرس وتوقفت، وقلت للأستاذ المحاضر الذي كان يقف أمام باب الفصل يستقبلنا بابتسامة خفيفة «مارك، لدي سؤال يشغل بالي، لماذا ينتحر الشباب في السويد بهذه الكثرة؟». رد مارك وقال: «لأنهم يعرفون أنهم لا يستطيعون اللجوء إلى أحد لمواساتهم على فشلهم».

كان أحد زملائي يقف بجواري حين سألت مارك، كان شابا سويديا، وسمعته يقول: «هنا الأصدقاء يأتون قبل العائلة، العائلة تأتي في مرتبة متدنية، إن كنت تملكين أصدقاء جيدين فأنت محظوظة، سوف يدعمونك، أما إن لم تملكي هذا الحظ، فلا يمكنك الاعتماد على العائلة، العائلة ستلومك لأنك فشلت وأنت تملكين كل ما ينتظره شاب».

تمر السنوات، وألتقي بـ«رشيد»، محام جزائري فر من بلده إلى سويسرا هربا من سجنه لأنه كان محامي الإسلاميين الذين كانوا يتابعون في تهم إرهابية خلال العشرية السوداء في البلد الجار. هناك بالعاصمة جنيف، كان رشيد يتجول بي في المدينة العتيقة، كان يعرف أني أحب الأماكن التي تتحدث تاريخا، أذكر أنه، في خضم حديثه عن تاريخ المدينة، توقف، وقال لي: «أتعرفين أنه رغم كل ما توفره سويسرا لأبنائنا هنا تظل نسبة تعرضهم للاكتئاب المؤدي للانتحار مرتفعة؟».

أعاد سؤاله إلى ذهني السؤال الذي طرحته يوما على «مارك»، وكان لـ«رشيد»، جواب عن سؤاله من تجربته مع أبنائه وباقي أبناء العائلة، قال لي: «نحن الذين نشأنا في بلداننا عشنا في ظروف وفرت لنا اختيارات محدودة جدا، وتعرضنا لانكسارات عدة، الاختيارات المحدودة رفعت في داخلنا من منسوب التحدي، وفرضت علينا القتال من أجل أن نكون في الوضع الذي نحلم به، في الوقت الذي شكلت الانكسارات والآلام مناعة جعلتنا أكثر صلابة، أما هنا، أبناؤنا حمتهم الدولة السويسرية، ووفرت لهم كل ما يبتغون، فكبروا أطفالا في نعيم، لكنهم حين باتوا راشدين وجدوا أنفسهم أضعف، وأقل مناعة وتحديا، من أن يواجهوا اختبارات الحياة، ولم يسامحوا أنفسهم ولا المجتمع سامحهم باسم الحق في الفشل، لذلك تكون النتيجة غالبا قرارهم الرحيل بالانتحار».

هنا في المغرب، وفي المجتمعات المشابهة، الأمر لا يختلف كثيرا، رغم أننا في بلد لا يكاد يوفر لك سوى تكسير أجنحتك وأحلامك، وحتى حين تحاول النجاح، وتسقط في أول تجربة، سيواجهونك بعبارات من قبيل «مالك باغي طير؟ عاجبك راسك؟، معرفت فين باغي توصل؟ سخونية الراس ومادير. سير تكمش بحال خوتك، مالك باغي تصنع صوارخ…»، وغيرها من العبارات القاتلة لمحاولتك تجربة الفشل، بل حتى محاربته، دون أن نعي، سواء في المجتمعات التي تحسب نفسها متقدمة، أو مجتمعاتنا التي تريد أن تصبح متقدمة دون أن تبذل مجهودا، أن الحق في الفشل هو أساس طريقك إلى النجاح، في حين أن الفشل لا يكون سوى حين تفشل في الفشل، بمعنى ترفض حتى أن تجرب «حقك في الفشل»، وقتها فقط يمكن أن نطلق عليك لقب «فاشل بإرادته»، ولا يحق لك أن تحتفل مع المحتفلين باليوم العالمي لحقوق الإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى