حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

حقيقة موت المجتمع العربي

بقلم: خالص جلبي

مع عيد الحب 14 فبراير 2024م في رفح لا فرح، وملياران من المسلمين يتفرجون على مذبحة غزة. فهل مات المجتمع العربي؟  

عندما يموت الفرد يتوقف القلب عن الخفقان، ويكف تخطيط الدماغ الكهربي عن تسجيل أي مخطط، ويقفل ملف الإنسان؛ فيحل ضيفا على البلى والنسيان. ظاهرة موت (الفرد) واضحة، والغامض هو موت (المجتمع).

ويعتبر البعض أن المجتمع العربي ميت، ولكن هل يوجد من أجهزة التشخيص والمؤشرات ما يفيدنا بموت مجتمع من حياته؟ وقبل هذا، ما هو المجتمع تحديدا؟

إحدى زوايا العبقرية عند سقراط جاءت من تحديد التعريفات، فلنحاول تعريف المجتمع والموت. فأما ابن خلدون فرأى أن (الدولة) كائن له عمر محدد بـ120 سنة في ثلاثة أجيال، فإذا انقضى الوقت ماتت الدولة، ولو بقي رسمها، وكل ما تحتاجه اليد التي تقطف الثمرة. وذهب «مالك بن نبي» في كتابه «ميلاد مجتمع»، إلى أن موت المجتمع موسوم بتمزق الشبكة الاجتماعية، مع بقاء الفرد المتورم على حساب الشبكة، حتى يتم تصنيعه في أمة حية. وذهب المؤرخ البريطاني «توينبي TOYNBEE» إلى اعتبار إخفاق تقرير المصير هو مقدمة تحلل وانهيار (الحضارة). ويعرف الطب أن موت الدماغ يعني موت الإنسان عمليا. وتعتبر السيكولوجيا أن حالات التصلب النفسي (PSYCHOSCLEROSIS) موت الروح، أو هي أقرب. واعتبر القرآن أن موت (الأمم) غير موت الأفراد «ولكل (أمة) أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون».

 الطب وعلم النفس والسوسيولوجيا ومخطط الدولة ومنحنى الحضارة كلها مستويات في موت كائنات (نوعية)، تتسم بتوقف (العضوية) عن الحياة، و(النفس) عن النشاط، و(الدولة) عن الوجود، و(الحضارة) عن النبض والإشعاع.

 «ابن خلدون» و«مالك بن نبي» و«توينبي» و«القرآن» كل أشار إلى نوع محدد من الموت. وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد، أفئن مت فهم الخالدون.

  جُعلت الأرض كفاتا تضم أحياء وأمواتا. ودلف إلى مستودع النسيان طابور لا ينتهي من الدول، وانقرض ما يزيد على 600 مجتمع إنساني بدائي. وماتت ما يقرب من ثلاثين حضارة. هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟

الموت قانون قاهر يحكم بقبضته على البيولوجيا في انهيار مستمر في عمر الخلايا في ساعة جينية تدق على موعد مع الموت، وقدر في مسلسل الدول والحضارات التي يبتلعها التاريخ.    

ولكن ما هو المجتمع تحديدا؟ إنه ليس كومة من البشر، بل هو شبكة علاقات إنسانية ترابطت بطريقة هندسية معينة. والذي يحكم التفوق من الانحطاط في الجماعة الإنسانية، هو طريقة التراكب والتراص للشبكة الداخلية. وهو ما يميز الفحم عن الألماس، فكله فحم، ولكن صلابة الألماس تعود إلى هندسة الذرات الداخلية. والقرآن اعتبر أن عشرين صابرين يغلبون مائتين بأنهم لا يفقهون. ونحن نعرف من الكيمياء العضوية أن تعطيل مفعول السم يتم بتبديل جذر الهيدروكسيل. ويعلمنا المجهر الإلكتروني أن الفيروس الخطير يتم تعطيل مفعوله بإنزيم يشطره عند تمفصل حمض نووي واحد. وتفيدنا تقنية الجينات بأن فقر الدم المنجلي سببه خلل في حمض أميني واحد من (سقالة) هيموغلوبين تضم 574 حمضا أمينيا.

يبدو (المجتمع) في الحياة على (شكل) و(وظيفة) مثل كل مخلوقات الله، سواء كان شيئا ماديا، أو تركيبا عضويا معقدا: الكرسي أو الكمبيوتر الخلية أو العقرب. الكرسي بقوائم والعقرب بإبرة لدغ والكمبيوتر بصندوق وشرائح (CHIPS). وتتدرج الوظيفة من الجلوس على كرسي إلى الدخول إلى عالم الكمبيوتر، أو استخراج أمصال تفيد في مقاومة الأشعة النووية من العقرب، فقد ثبت أنه يصمد أمام قصف الأشعة النووية 300 مرة أكثر من الإنسان.      

ويحدث الموت على دفعتين:(توقف الوظيفة)، ليعقب ذلك (تحلل الشكل). وعندما نفك قطع الكرسي يكفي أن يسمى كرسيا، ولو كانت كل قطعه موجودة، فالكائن يأخذ اسمه من ترابط قطعه الأساسية لتؤدي الوظيفة.

وعندما يموت الإنسان يتحلل إلى مواده الأولية ويرجع إلى دورة الطبيعة، فلا يضيع منه شيء. «قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ». وعندما يموت المجتمع تبقى ذراته الأولية من الأفراد كمواد خام من البيولوجيا لتستخدم (طوبا) في بناء مجتمع آخر حي بثقافة مختلفة. كما نفعل نحن مع الطعام الذي نأكله، فيحوله جسدنا إلى خلايا حية منا، ويقلبها إلى مواد تأخذ معالم شخصيتنا. هكذا ابتلعت روما قرطاجنة، بعد معركة زاما، بأشد من ابتلاع أفعى الأناكوندا لقرد كبير. وهو ما فعلته أيضا مع المجتمع الفرعوني والغالي. واليوم لا يوجد إنسان واحد ينطق الفرعونية. 

المجتمع الميت صحراوي، تربته رمل، ينقصه الترابط بين ذراته. والتربة الطينية تخرج الزرع وتسقي الضرع. وخلق الرب آدم من صلصال من حمأ مسنون؛ فلم يخلقه من ذرات رمل مشرذمة. والمجتمع العربي اليوم صحراوي في كومة مشرذمة من ذرات فوضوية، في مجتمعات تتسم بتورم الأفراد، والغرق في الديون الخارجية، والنمو الخرافي لأجهزة الأمن، والأرقام الفلكية لشراء السلاح، وتشقق المجتمع إلى طبقات، تتآكل فيها الطبقة الوسطى؛ بأسرع من التضخم النقدي. ولا تؤدي الخدمات العامة دورها، بعد أن تحول المجتمع منذ أيام الحجاج إلى قبيلة من الصيادين تصطاد الفرص، فلم تعد حقا دستوريا للمواطن، وبدن يتفسخ تجتاحه طوابير من الجراثيم الصهيونية، فلا يملك ضرا ولا نفعا، كما تتحلل الجثة في القبر.

إن هذا الكلام ليس لإثارة الحماس، بقدر التحليل البارد المخبري. 

وفي خريف عام 2002م عجز العرب عن تغيير أوضاعهم، فاحتاجوا أن يأتي من الخارج من يغيرهم بالقوة في عملية جراحية تاريخية.

 هل المجتمع العربي في مرحلة (توقف الوظيفة)، أم (تحلل الشكل)؟ هل مات، أم أنه يتفسخ؟ قصة جحا الثلاثية تنفعنا في حل هذه الأحجية. عندما سأل الناس: هل تعرفون ما سأقول؟ انقسم الناس في النهاية إلى حزبين، واحد تظاهر بأنه يعرف، والثاني أنه لا يعرف.  قال ببساطة: فليعلِّم من يعلم من لا يعلم. 

 

نافذة:

المجتمع العربي اليوم صحراوي في كومة مشرذمة من ذرات فوضوية في مجتمعات تتسم بتورم الأفراد والغرق في الديون الخارجية والنمو الخرافي لأجهزة الأمن

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى