شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

حياة ما بعد الوزارة

يونس جنوحي

 

من يكون أكثر مُعمّر في الوزارة المغربية؟ إذا وضعنا لائحة بأسماء وزراء «زمان»، بالمعنى الحديث للوزير، سوف يظهر اسم محمد المقري، الجزائري الأصول، على رأس اللائحة.

فهذا الرجل الذي ترأس الوزراء المغاربة، عمّر في منصبه منذ سنة 1917 إلى حين استقلال المغرب، أي 1956. وقضى كل هذه السنوات بتقلباتها على رأس الوزارة الأولى، وحمل لقب الصدر الأعظم وراكم علاقات واسعة مع أثرياء فرنسا وسياسييها في المغرب، رغم أنه لم يكن يخلع جلبابه المغربي إلا ليلبسه من جديد.

ورغم أنه حافظ على اللباس، إلا أنه ارتمى فعلا في أحضان المال. وحتى أجرته الشهرية وامتيازاته في القصر الملكي لا يمكن أبدا أن تُبرر الممتلكات الكثيرة التي كان ينعم بها في المغرب وليس في الرباط فقط.

والده كان «سفناجا» يقضي يومه في الأسواق أمام مقلاة الزيت الضخمة بأحياء تلمسان، فيما اختار الابن أن يدرس ويأتي إلى المغرب، ويصبح «فاسيا» مؤقتا ثم وزيرا مع المولى يوسف ليمسك في المنصب بأسنانه. حتى أنه عندما خرج اسمه في لائحة الخونة الشهيرة سنة 1955، كان قد وصل إلى فرنسا لكن ممتلكاته صودرت كلها وأصبح غير مرغوب فيه، بعدما كانت إقامته الشهيرة في الرباط محجا لكل المتملقين والراغبين في التسلق السريع واختصار المراحل.

«المقري» عُرفت بدايته ونهايته، لكن أبناءه ظلوا بعيدين عن أضواء التاريخ وظلام الجغرافيا، رغم أنهم، بحسب موثقي ذاكرة الوزارات المغربية، مروا من مناصب سامية.

يبدو أن المقري لم ينجح في ممارسة السياسة وظل حبيس دار المخزن، لكنه عرف كيف يمارس سياسة تأمين مستقبل أبنائه، وعيّنهم، بدون ضجيج، في عدة مناصب وجنى من وراء صلاحيات أبنائه في الإدارات، رغم وجود الحماية الفرنسية، أموالا طائلة. حتى أن الذين يذكرون الرباط «أيام زمان» لا زالوا يتذكرون كيف أن قصر المقري الشهير في الرباط كان يتضمن بقالات تجارية يتردد عليها الفرنسيون، وكانت من أولى المحلات العصرية التي عرفها المغاربة بالمعايير الأوروبية.

وحتى عندما صودرت ممتلكاته بعدما دعم مشروع تعيين «بن عرفة» سلطانا على المغرب، أخذ معه ما يكفيه لبداية حياة جديدة في فرنسا هو وأبناؤه. لكن لا أحد يعرف مصيرهم رغم أنهم كانوا مسؤولين سامين في المغرب.

والقصص التي نُسجت عن رحيل الذين صدرت أسماؤهم في لوائح الخونة، تصلح لأكثر من فيلم سينمائي لو كان لدينا كُتاب سيناريو موهوبون. فقد حملوا أموالهم في الأكياس وقطعوا بها البحر في اتجاه شواطئ جنوب فرنسا، وأنفقوا منها يمينا وشمالا ودفعوا رشاوى للفرنسيين لكي يسمحوا لهم ببدء حياة جديدة بعيدا عن مغرب الاستقلال.

اكتشفوا متأخرين أن فرنسا، رغم أنها تصف نفسها بأنها دولة ديموقراطية، ليست إلا «حامية» لمصالحها الخاصة. وحتى عندما لجأ إليها الذين قدموا لها خدماتهم الجليلة، لقنتهم درسا في أصول الفساد، وفتحت لهم أبواب مدنها للاستقرار النهائي مقابل بضعة أكياس من الأموال التي جمعوها أثناء وجودهم في مناصب المسؤولية.

كان هناك، بطبيعة الحال، وزراء أكثر غنى من المقري، مثل الوزير الحاج عمر التازي، الذي اشتغل مع المقري أيضا، لكنه مباشرة بعد مغادرته الوزارة، بدون خسائر سياسية، اقتنع بأن التجارة أفضل من المكتب، وتفرغ لشراء الأراضي إلى أن صار، خلال الخمسينيات، يملك أكبر حصة في حي أكدال بالرباط. أما تجربته في عالم العقار فاكتسبها من منصبه القديم مُسيرا للأملاك المخزنية.

مر زمن وزراء «زمان» وجاء عهد الوزراء المتقاعدين الذين يراقبون اليوم ما يحدث ويخرجون لإلقاء اللوم على الآخرين، ويحولون موضوع تقاعدهم إلى قضية رأي عام، ويشتكون من «هزالة» تعويض الوزير. صدق من قال إننا فعلا نعود إلى الوراء، دون حتى أن نلتفت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى