شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

خبايا الزلزال الأوكراني

 

غسان شربل

 

شعرتُ بالقلق حين أرسل موفد «الشرق الأوسط»، فداء عيتاني، مشاهد وحكايات من مدينة إربين الواقعة في محيط كييف. أقسى الصور كانت تلك التي تظهر دبابات روسية محترقة، أو عربات استولى الجيش الأوكراني عليها. تخيلت وقع المشاهد في مكتب وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، وهو يجلس محاطا بكبار جنرالاته. وتخيلت حجم الغضب الذي سيستولي على سيد الكرملين، حين يعرف أن دبابات روسية قُتلت بأسلحة أرسلتها دول حلف «الناتو». هل أطلق فلاديمير بوتين حربا يصعب وقفها أو التحكم في مسارها، ولا يستطيع العودة منها إلا منتصرا؟

وقعَ صديقي العربي باكرا في فخ الإعجاب ببوتين. رجل هادئ يعرف ماذا يريد. يستمع باهتمام ولا يستدرجه الحديث إلى مناطق لا يريد الذهاب إليها. يعطيك انطباعا بأنه قادر على الالتزام بالوعود إن أطلقها. رجل قرار لا ينشغل عن متابعة خصومه، ولا ينسى أصدقاءه. وتيسر للصديق أن يلتقيَ الرجل في السنوات الأولى من عهده.

يستطيع القوي تحديد ساعة إطلاق الحرب، لكن يصعب عليه تحديد موعد نهايتها. للعودة سريعا ومنتصرا يحتاج إلى استسلام الضعيف وتسليمه بتنازلات سياسية، تتيح لمطلق الحرب تبرير أثمانها. قال الصديق إنه على رغم الفوارق، تراوده أحيانا صور الغزو العراقي للكويت. لم يسلم صدام بحق الكويت، في أن تكون سيدة قرارها وراسمةَ سياساتها. اجتاحها وضمها وانفجرت به، ولم يعثر على واجهة كويتية تشرعن احتلاله. في المقابل لم يسلم بوتين بحق أوكرانيا في أن تلقيَ بنفسها في حضن الأطلسي. ذهب إلى حد إنكار وجودها، واعتبارها ابنة خطأ ارتكبه أسلافه. وبعد الاجتياح لم يعثر على واجهة أوكرانية تشرعن «العملية العسكرية الخاصة». ذهب الصديق بعيدا. قال إنه يستحيل ألا يكون سيرغي لافروف مدركا لمخاطر اجتياح أوكرانيا وأثمانه السياسية والعسكرية والاقتصادية. وأضاف أن وضع لافروف ربما يشبه وضع طارق عزيز في موضوع غزو الكويت. كان يشم رائحة الزلزال، لكنه لم يجرؤ على المطالبة بعدم إطلاقه.

لا مبالغة في القول إن الزلزال الأوكراني هو الأعنف والأخطر، منذ الحرب العالمية الثانية، على رغم الحروب بالواسطة التي شهدها عالم المعسكرين. أصعب ما فيه أن أضراره لا تقتصر على المسرح الأوروبي، بل تتعداه إلى سائر أحياء ما كنا نسميه «القرية الكونية». شعرتْ بالزلزال في بلد بعيد السيدة التي ذهبت لإحضار الخبز ومستلزمات الوجبات اليومية. شعر به من ذهب إلى محطة الوقود، ومن تلقى فاتورة التدفئة. شعرتْ به، خصوصا الحكومات القريبة والبعيدة التي تخشى أن يؤدي التهاب الأسعار إلى التهاب الشارع.

ما أصعب التعايش مع الزلزال الأوكراني، سيما إذا استمر طويلا. ليس بسيطا على الإطلاق أن تغتنم ألمانيا الفرصة، للتخلص من بعض القيود التي فرضت على حقها في التسلح. وليس بسيطا أن ينفض جنرالات حلف «الناتو» الغبار عن خطط المواجهة المحتملة مع روسيا، لتحديثها والإفادة من دروس الحرب الأوكرانية، ولعل الأخطر هو إمكان تصاعد الاستقطاب في العالم ومطالبة دوله بالاختيار بين الأبيض والأسود، ومغادرة المنطقة الرمادية.

خير دليل على صعوبة الإقامة في المناطق المحايدة أو شبه المحايدة، ما تتعرض له الصين من ضغوط أمريكية وأوروبية، لمغادرة سياسة الجمل القصيرة والعمومية والغامضة والمتحفظة في التعامل مع الزلزال. القمة الأوروبية – الصينية التي عقدت عن بعد، كشفت حجم الخيارات الصعبة والمكلفة التي تواجهها الدول. انحياز الصين الصريح لروسيا سيرتب عليها أضرارا اقتصادية هائلة، لأن حجم تبادلاتها التجارية مع أمريكا وأوروبا، أكبر بكثير من التبادلات مع روسيا. لكن روسيا في المقابل قارة مجاورة وحليف موثوق، خصوصا أن لقاءات بوتين مع «صديقه» شي جينبينغ، سجلت رقما قياسيا في لقاءات القادة. لا تستطيع بكين تجاهل حلم استعادة تايوان، لكنها أيضا لا تستطيع المغامرة بمصير مبادرة «الحزام والطريق».

ناريندرا مودي، رئيس وزراء الهند، ليس في وضع أقل صعوبة من وضع الرئيس الصيني. بلاده صديقة قديمة لروسيا، وأكثر من 60 في المائة من ترسانتها روسي. أنظارها يجب أن تبقى معلقة على تحركات عدوها الصيني، من دون أن تنسى الخصومة مع باكستان والجمر النائم بكشمير. في المقابل، تحتاج إلى ثقل الولايات المتحدة لتبديد ذعرها من الصعود الصيني، ولهذا انضوت في تحالف «كواد» الرباعي، الذي يجمعها مع العراب الأمريكي واليابان وأستراليا.

الإحراج لا يقتصر على العملاقين الآسيويين. إسرائيل هربت من صعوبة الاختيار إلى محاولة التوسط. ليست في وارد التفريط في تحالفها مع الولايات المتحدة، لكنها لا تستطيع تناسي هدايا بوتين، وأهمها إعطاء إسرائيل حرية استهداف المواقع الإيرانية بسوريا. الدول المنتجة للغاز والنفط تتعرض هي الأخرى لضغوط لمغادرة موقفها الحيادي، والانخراط في عملية خفض التأثير الذي تملكه موسكو على أسواق النفط والغاز.

لا خيار غير ربط الأحزمة في التعايش مع الزلزال الأوكراني، بأبعاده العسكرية والسياسية والاقتصادية. وربط الأحزمة يعني إجراء حسابات دقيقة وبعيدة المدى، تحفظ المصالح الوطنية وترسانة العلاقات الدولية، خصوصا إذا اندفعت الأزمة الأوكرانية في اتجاه ولادة معسكرين.

 

نافذة:

خير دليل على صعوبة الإقامة في المناطق المحايدة أو شبه المحايدة ما تتعرض له الصين من ضغوط أمريكية وأوروبية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى