
يونس جنوحي
من العجائب أن «يتواضع» المُترجمون الفرنسيون لكي ينزلوا إلى الشارع، احتجاجا ضد اعتماد دور النشر الفرنسية على خاصية الترجمة بالذكاء الاصطناعي. لكن هذا ما وقع فعلا في باريس هذا الأسبوع.
جمعية المترجمين الأدبيين في فرنسا ضربت الطاولة بعنف، في وجه واحدة من كبريات دور النشر الفرنسية، واعتبرت أن تسريح المترجمين والاستغناء عن خدماتهم يضرب مهنة الترجمة الأدبية في الصميم. والاعتماد على الذكاء الاصطناعي لترجمة الإصدارات الجديدة من لغات أخرى إلى الفرنسية، خيانة لمُترجمين «من لحم ودم».
دور النشر الفرنسية كانت دائما تضع أوراقها فوق السحاب. لكي تنشر لك دار فرنسية، يجب أن تتوفر فيك شروط أدبية صارمة. ولكي تُترجم لك الدور الفرنسية أعمالك إلى الفرنسية، فيجب فعلا أن يكون الكتاب باللغة الأم قد حقق نجاحا كبيرا، أو أن تُعتبر «مسخوطا» في بلدك، بسبب الكتاب. وهذا ما وقع لكتاب كثيرين، خصوصا من العالم العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. يجب أن يخلق الكتاب ضجة كبيرة في البلد الأصلي، لكي توافق دور النشر الفرنسية على تبنيه.
ولولا نخبة المترجمين الفرنسيين، لما تعرف أبناء الثورة الفرنسية على ربع ما يُنشر عالميا باللغات الحية، خصوصا وأن أغلب الفرنسيين لم يكونوا يتحدثون سوى الفرنسية، ولم يكونوا من هواة تعلم اللغات.
«الأنا» الفرنسية كانت دائما تلقي بظلها الثقيل على الساحة الأدبية. وقد عرف قدماء الفرنسيين هذه «العلة» على أنها مرض أدبي عضال يجعل أبناء الشعب، الذين يعتقدون أنهم في غنى عن العالم، مكتفين بأنفسهم.
لكن مع ثورة الاتصال انفتح الفرنسيون في العقود الأخيرة على الأدب العالمي. وأصبحوا مُدمنين على انتظار ترجمات الكتب العالمية، خصوصا الصادرة في آسيا الشرقية وأمريكا اللاتينية ومستعمرات فرنسا السابقة، إلى الفرنسية.
تذوق الفرنسيون الأدب العالمي بفضل مترجميهم.. أغلبهم صارمون أكثر من أطباء جراحة الأعصاب، ولا يخرجون الكتاب من العناية المركزة، إلا بعد أن يمر من مداولات عصيبة لاستبدال العبارات والسياق و«فرنسة» ما تجب «فرنسته».
واعتماد الدور الكبرى حاليا في فرنسا على الذكاء الاصطناعي، يعني أفول حقبة ذهبية كانت الترجمة الأدبية عنوانها الأبرز.
المعروف أن الدور الفرنسية من أكثر الدور العالمية تطلبا ووضعا للشروط، أثناء التعاقد مع الكتاب. وفي سنة 2018، فرضت دار نشر فرنسية تعويضا «خياليا» فعلا مقابل الموافقة على نقل كتاب بالفرنسية، كتبه ابن واحد من الأطر المغربية القدامى، إلى العربية لكي يتسنى توزيعه في المغرب. ولما سمع الكاتب المغربي بقيمة المبلغ، الذي تطالب به الدار الناشرة لكتابه الأصلي بالفرنسية، أصيب فعلا بالذهول. ولم يكن بمقدوره التصرف حيال هذا «الجشع الأدبي»، لأن العقد الذي وقعه مع الناشر لا يمنح له حق التفاوض مقابل ترجمة كتابه إلى العربية، رغم أن أحداث الكتاب وشخصياته جميعها مغربية! ولا توجد دار مغربية ولا عربية مستعدة لأداء مبلغ مماثل، مقابل حقوق الترجمة من الفرنسية إلى العربية.
الدور الفرنسية، التي تشتغل بهذه الطريقة، وتعتبر الأدب مثل الاستثمار العقاري، يصعب فعلا أن تؤمن بالدور التاريخي للمُترجم.. وهكذا فإن تمكنت برمجة الذكاء الاصطناعي من التحكم في قواعد ومعاني اللغة الفرنسية، يعني أن مهنة: «المترجم الأدبي»، سوف تنقرض في فرنسا بكل تأكيد خلال السنوات المقبلة.
ووقتها لا يمكن للمُترجمين سوى أن ينزلوا من عليائهم ويشتغلوا مترجمين فوريين في المحافل الدولية، أو لفائدة المحاكم، قبل أن تعتمد هي الأخرى الذكاء الاصطناعي.
الحمد لله على تعقيدات العربية، إذ إن اعتماد الذكاء الاصطناعي لترجمة النصوص إلى العربية، سيجعل منها «نكتة» مضحكة. إلى الآن، لم ينجح أي مطور أو مُبرمج في جعل الذكاء الاصطناعي ينتج ترجمة تليق بهيبة «التعريب».. إذا كان اللبنانيون الأوائل قد تحكموا في سوق الترجمة العربية، في أوروبا وأمريكا، واكتسحوا سوق الكتاب لعقود، فقد انتهت هيمنتهم عندما أصبح بعض مترجميهم يقترفون الكوارث وتُنشر في عشرات آلاف النسخ.. مثل الذي ترجم كُنية «أبي هريرة»، إلى: «صاحب القطة الصغيرة».. لكن لم يتظاهر ضده أحد، رغم أن ما اقترفه لا يليق إلا بذكاء «مصطنع» فعلا.





