
يونس جنوحي
رحل آخر الذين عاشوا تفاصيل مذبحة الرهبان في الجزائر، والتي راح ضحيتها سكان دير استقروا في البلاد منذ أيام الاستعمار الفرنسي.
الناجي الوحيد اختار الاستقرار في المغرب، حيث قضى سنوات نواحي ميدلت قبل أن يسلم الروح هذا الأسبوع عن عمر يناهز السابعة والتسعين، ويوقظ الذاكرة الجماعية حتى لا تنسى أبدا ما وقع للرهبان الذين اختاروا الخلوة وممارسة دينهم بين الجبال وتقديم خدمات إنسانية لسكان القرى والمارة. يتعلق الأمر بقصة الراهب بيير جون الذي اعتُبر في الصحافة الفرنسية الناجي الوحيد من مجزرة منطقة «تبحرين» الجزائرية سنة 1996، حيث قرر ألا يعود إلى فرنسا رغم المصير المؤسف الذي لقيه كل أصدقائه الذين كانوا يعيشون معه في ذلك الدير، وانتقل إلى العيش نواحي مدينة ميدلت، ويقضي ما تبقى من حياته بسلام ووداعة إلى جانب قرويين بسطاء.
وقبل أن يشيع التطرف في كل مكان، كان المغاربة دائما من بين أوائل الشعوب الذين انفتحوا على الثقافات والمعتقدات الأخرى. إذ أن المغاربة كانوا يترددون منذ أربعينيات القرن الماضي على المدارس الداخلية التابعة للكنائس، وتعرفوا على الرهبان، بل ومنهم من يدين اليوم بنجاح مساره الأكاديمي إلى المدارس الداخلية التي كان يشتغل فيها الرهبان و«الأخوات» اللواتي نذرن حياتهن لخدمة الإنسانية. والدليل أن تلك التجربة كانت استثنائية ولربما لن تتكرر في زمن الإيديولوجيا الحمقاء، هي أن تلك الكنائس والمدارس الداخلية التابعة لها، لم تمارس نهائيا أي نشاط ديني مسيحي في حضور الأطفال المغاربة خلال القرن الماضي، واهتمت بتدريسهم فقط ومنهم من أكمل مساره الأكاديمي في الخارج دون أن يتخلى عن الدين الإسلامي.
أهم مرجع يمكن الاعتماد عليه للتأريخ لهذه المرحلة من التاريخ، مذكرات «بينديكت» الذي قضى سنوات من حياته في المغرب نواحي أزرو، حيث كان صديقا لأول وزير أول في المغرب، ويتعلق الأمر بـ «امبارك البكاي»، حيث كان يزوره، بصفته باشا سابق لمدينة صفرو، رفقة المحجوبي أحرضان والمهدي بن بركة. وكان هؤلاء جميعا يجلسون إلى نفس المائدة، حيث يفضل الراهب «بينديكت» تناول لحم الخراف المذبوح على يد فلاحي المنطقة ويحترم رجال القرية، بل ويتبادل معهم تهاني عيد الأضحى ويشرب معهم الشاي.
وفي المذكرات التي صدرت خلال نهاية خمسينيات القرن الماضي، يروي أحد الرهبان وهو تلميذ «بينديكت» عن أجواء وطقوس زيارات الشخصيات المهمة من طينة المهدي بن بركة إلى الراهب، حيث كانت منطقة أزرو تعرف وقتها وجود «كوليج أزرو» الداخلي الذي تخرج منه أطر الجيش والوزراء، وكانوا يعرفون جيدا أن التكوين العصري الذي تلقوه هناك ساعدهم على التأقلم مع الحياة الجديدة المواكبة للطراز الأوربي. ومن جملة ما كان يدور بين بن بركة والراهب، مسألة السياسة الفرنسية في المغرب، حيث كان واضحا أن الراهب لم يكن يفتخر نهائيا بسياسة بلاده بقدر ما كان يفضل العزلة بين غابات أزرو والتفرغ للتعبد.
برحيل الراهب بيير جون، يسدل الستار نهائيا على واحدة من أندر التجارب الإنسانية. إذ أن هذا الراهب قدمت له إغراءات كثيرة من اليمين الفرنسي المتشدد في نهاية التسعينيات لكي ينخرط في الحروب الانتخابية ضد المهاجرين المغاربيين، حيث كانت أحزاب اليمين تخطط للانقضاض على الحادث واستغلاله سياسيا لاكتساح صناديق الأصوات وإبعاد اليسار والليبراليين. لكن الراهب رفض بالمطلق أن ينخرط في حرب إيديولوجية. وترك امتيازات فرنسا وإغراءات التطبيب المجاني والرعاية الصحية، وانتقل إلى نواحي ميدلت، حيث سكانها أنفسهم يهربون كل يوم صوب المدن الكبرى هربا من التهميش والبطالة، لينعم بالسلام الذي جاء ليبحث عنه قبل سنوات طويلة من عمر مديد قضاه بيننا في رحلة البحث عن الذات.




