سيرة «قراصنة» سلا المنسيين…. «رياس» حكموا البحر وأربكوا ملوك فرنسا وإسبانيا والبرتغال

يونس جنوحي
مجاهدون وقراصنة.. أسدوا خدمات كبرى للدولة المغربية، في أيام «تجبر» أسطول إسبانيا والبرتغال، وتعرض المغرب للقصف العنيف في شواطئ المدن الساحلية، خصوصا سلا والجديدة والصويرة.
هم بحارة مغاربة جاؤوا من الأندلس.. يحملون جروح طرد المسلمين من جنوب إسبانيا. «موريسكيون» مع وقف التنفيذ، اختاروا أن ينتقموا من أوروبا بطريقتهم. بدؤوا أولى عمليات القرصنة سنة 1610، وتوارثوا «الحرفة» لأكثر من قرنين.. كُتب عنهم الكثير، لكنه لا يشكل سوى صفحات قليلة، تطفو فوق بحر تقبع في قاعه حقائق وأمجاد أجدادنا القراصنة.
هل كانوا مجرد قراصنة؟
في البداية كانت «القرصنة».. ثم سرعان ما راكم ممتهنو «الجهاد البحري» أرباحا خيالية، وأصبحوا أكثر ثراء من خزينة الدولة المغربية، خصوصا في عهد السعديين، بداية القرن السابع عشر. إذ استفاد قراصنة سلا من التفكك الذي عرفه المغرب عند نهاية حكم السعديين سنة 1659، وكثفوا من عمليات القرصنة، واستهدفوا سفنا إسبانية وبرتغالية محملة بالذهب في طريقها من العمق الإفريقي نحو سواحل إيبيريا.
لكن مع مجيء الدولة العلوية، أجبر قراصنة سلا على الانصياع لسلطة الدولة، وأصبحت أنشطتهم لا تدر سوى ما يبقي عملياتهم مستمرة.
لكن ما وقع أن هؤلاء القراصنة، استطاعوا أن يفرضوا نشاطهم، واستغلوا عداوة كل من إسبانيا والبرتغال مع المغرب، لمهاجمة أساطيل هاتين الدولتين، بالإضافة إلى أساطيل فرنسا وبريطانيا.
وسرعان ما أصبح الأمر، منذ سنة 1700، مسألة حرب بين «قراصنة سلا»، وأساطيل أجنبية إما تابعة للحكومات الأوروبية، أو الشركات الأجنبية.
عندما أصبح الأمر يتعلق بـ«جهاد بحري» ضد النصارى، حظي بمباركة سلاطين الدولة العلوية، خصوصا في فترة محاولات الإسبان احتلال السواحل المطلة على المحيط الأطلسي. ولم يكتف هؤلاء القراصنة، في إطار الجهاد البحري دائما، بمصادرة محتويات وحمولات السفن والبواخر الأجنبية، بل عملوا على اتخاذ الأسرى رهائن، ومنهم من قضى 30 سنة في الأسر..
وحتى عندما أبرم السلطان مولاي إسماعيل أشهر معاهدات الهدنة مع فرنسا، فإن قراصنة سلا ظلوا يلقون القبض على المزيد من الرهائن، ووصل عددهم في فترة من الفترات إلى عشرات الآلاف، استعملوا في بناء مدينة مكناس، وترميم أسوار الرباط.. وفاوض بهم المغرب لإطلاق سراح رهائن مغاربة لدى الأوروبيين. ولولا أنشطة الجهاد البحري، والقرصنة، لما كان هذا الأمر ممكنا.
كان نظام الغنائم عند قراصنة سلا يخضع لتقليد عريق. 10 بالمئة من مداخيل الغنائم توجه إلى خزينة المدينة، والتي كانت تخضع لتسيير مجلس خاص، أيام «جمهورية سلا».. ثم للسلطة المركزية في عهد العلويين. بينما نصف ما تبقى من قيمة الغنائم يُخصص للإنفاق على العمليات البحرية المقبلة وتجهيز السفينة وشراء المؤن، خصوصا خلال العمليات البحرية طويلة المدى في قلب المحيط، والنصف الباقي كان يذهب على شكل أجور إلى الربان والبحارة المرافقين له.
هذا التنظيم الاقتصادي جعل من قراصنة سلا، أو ممارسي «الجهاد البحري»، يستمرون لأكثر من قرنين من الزمن، شغلوا خلالها حكومات أعتى الدول الأوروبية.. حتى أن بعض هؤلاء البحارة و«الرياس» كانوا يقضون مضجع ملوك أوروبا، ويتم تداول أسمائهم وأوصافهم، في قلب مراكز السلطة. علما أن الدول الأوروبية وقتها كانت تملك أساطيل بحرية متقدمة، ومدافع وتجهيزات متطورة، في حين أن قراصنة سلا كانوا يبحرون بالسفن الشراعية، ويستعملون الحبال لتسلق السفن، أثناء الغارات. وأغلب المدافع التي حصلوا عليها لاحقا، خصوصا خلال القرن 18، كانت غنائم صادروها أثناء غارات سابقة على سفن أوروبية.
«فنيش» واجه البرتغال ومراد أرعب فرنسا وحكم لقب بـ«أميرال البحر»
يبقى «مراد الرايس» أحد أقدم الرياس المغاربة، الذين مارسوا الجهاد البحري. وقد كتب الفرنسيون أنه ينحدر من ناحية الشرق، وجاء عبر البحر المتوسط ليستقر في سلا، لأنه كان يدرك أهمية المحيط الأطلسي. وفي سنة 1585، لم يكن هذا الرايس يملك سوى 3 سفن شراعية صغيرة، لكنه استطاع بها أن يهاجم أضخم السفن الإسبانية العابرة من المحيط الأطلسي. لكن «الرايس مراد» اكتسب شهرة واسعة، عندما وصل إلى «جزر الكناري»، وخاض حربا في عرض البحر ضد باخرة برتغالية، وانتصر عليها، رغم أنها كانت مدججة بالمدافع. حتى أن «مراد» استولى على مدينة في جزر الكناري واحتلها شخصيا لسنوات، واستمر بقاؤه فيها لسنوات، بعد أن نجح في أسر حاكمها الذي كان تابعا للحكومة الإسبانية، ولم يطلق سراحه رفقة وزرائه، إلا بعد أن دفع ملك إسبانيا فدية مهمة لصالح البحار المغربي وطاقمه.
ذاقت هولندا بدورها من ويلات هذا الربان المغربي، سنة 1622، عندما استولى على سفينة هولندية كانت قريبة من أرخبيل من الجزر الغربية في المحيط الأطلسي. كانت السفينة الهولندية تحمل 200 طن، لكن حجمها لم يثن الرايس مراد عن الاستيلاء عليها.
ومن أهم الرياس الذين خلفوا الرايس مراد، وواصلوا مسيرته، نجد الرايس «علي حكم»، وهو أحد أهم القراصنة المغاربة، إذ كان يحمل لقب «أميرال» البحارة في سلا، وبدأ أنشطته سنة 1671، في مرحلة دقيقة جدا من تاريخ المغرب.. أي عند مجيء المولى إسماعيل إلى السلطة لتوحيد المغرب، وتعزيز سلطة الدولة العلوية، خلفا للدولة السعدية المفككة.
كان هذا «القرصان» الذي كرهه الإسبان وسعوا خلفه، يحظى بمباركة السلطان مولاي إسماعيل شخصيا، وانطلق سنة 1715 في مهمة رسمية للدفاع عن المياه المغربية في شاطئ أكادير، وحمى الحدود البحرية من عمليات البرتغال والإسبان، ونجح في الاستيلاء على سفن صغيرة كانت تعبر نحو إسبانيا..
ومن جيل الرايس حكم، يوجد أيضا الرايس «فنيش».. وهو تلميذ لقرصان مغربي شهير اسمه ابن عائشة. وهذا الأخير أذاق الإسبان الويلات في زمن الدولة السعدية. ويعتبر فنيش من جيل أبناء القراصنة المؤسسين. وشهد انطلاق القرصنة البحرية في شاطئ سلا. ورغم أن فنيش كان ينتمي إلى عائلة سلاوية عريقة، إلا أنه اتجه نحو عالم البحر، وحقق أبرز انتصار شخصي عندما استولى على مدافع – حوالي 18 مدفعا- زود بها سفينته الخاصة، سنة 1693، واستولى بنفسه على باخرة فرنسية كانت تحمل أزيد من 100 طن من السلع. وتسببت عمليته في انقطاع الحركة الاقتصادية بين فرنسا وجزر الغرب الإفريقي.
لكن أبرز ما اشتهر به الرايس فنيش، أنه تحدى لوحده دولة بأكملها، ودخل إلى مرسى سلا، رغم أنف البرتغاليين الذين كانوا يطوقون المدينة سنة 1694، وكان معه في سفينته 150 بحارا مغربيا، لم يقو البرتغاليون على قصفهم.. وهكذا شاهد سكان سلا سفينة الرايس فنيش وهي تتقدم إلى أن رست، رغم طوق الحصار الذي ضربه الأسطول البرتغالي.. فقد كان البرتغاليون يعرفون جيدا من يكون «فنيش»، ولذلك لم يواجهوه عسكريا. وكانت نهاية فنيش مأساوية، إذ قضى غرقا على متن سفينته، عاما واحدا فقط بعد «معجزته» ضد البرتغاليين، والتي اعترف بها البرتغاليون أنفسهم في تاريخهم، وكتبوا عن مغامراته بكثير من الإعجاب، رغم أنه أسر البرتغاليين في عدد من المناسبات.
«قراصنة سلا».. بحارة مورسكيون أسسوا أسطولهم سنة 1617
من أين جاء قراصنة سلا الذين اكتسبوا شهرة واسعة في أوروبا، والعالم؟
من سخرية التاريخ أن هؤلاء القراصنة نزح أغلبهم من الأندلس، بعد طرد المسلمين منها، واستقروا في سلا التي تأسست بها ما عرف تاريخيا بـ«جمهورية سلا».
قطنت أسر أندلسية عريقة المدينة، وأسست مجلس شورى، ووقعت اتفاقيات اقتصادية مع دول أجنبية. لكن عينة أخرى من النازحين لم يكونوا بالقوة نفسها، وكان يتعين عليهم البحث عن موارد مالية.
حسب وثائق الأرشيف، فإن قراصنة سلا عند بداية تكوينهم لم يكونوا يملكون سوى أربع بواخر شراعية صغيرة. حدث هذا سنة 1617، لكن في غضون سنوات قليلة، وبالضبط سنة 1626، صار أسطول قراصنة سلا يتكون من 60 باخرة كاملة!
حتى أن هؤلاء البحارة المغاربة أطلقت عليهم فرنسا في البداية لقب «القراصنة الموريسكيين».
والمثير أن هؤلاء القراصنة، قبل أن تدخل سلا في نطاق السلطة المركزية في فاس، كانوا قد ربطوا علاقات دبلوماسية مع كل من هولندا وفرنسا، ومع الإنجليز أيضا، خصوصا سنة 1630. وكان المغرب وقتها يعيش على إيقاع تفكك سلطة السعديين.. ولم ينضبط القراصنة في سلا للسلطان، إلا عندما تأسست الدولة العلوية سنة 1664، ومجيء المولى إسماعيل سنة 1672.
وبالعودة إلى العلاقات الدبلوماسية التي ربطها هؤلاء البحارة مع الدول الأوروبية، قبل عهد الدولة العلوية، نجد بحثا معمقا عنوانه «جمهورية أبي رقراق»، تطرق إلى انطلاق البحارة النازحين من الأندلس، وبداية نشاطهم في سلا، وصولا إلى توقيع الاتفاقيات مع حكومات هولندا وفرنسا وبريطانيا. وقد جاء فيه:
«وفي سنة 1626 قدم مبعوث عن البلاط الإنجليزي، واسمه جون هاريسن، بقصد الاتصال بقراصنة أبي رقراق حول القيام بهجوم مشترك ضد إسبانيا. وكان ملك إنجلترا في ذلك الوقت، هو جاك الأول. وكان ضمن شروط الاتفاقية، تحرير الأسرى الإنجليز، وتسليم أربعة عشر مدفعا مع ذخيرة إلى القراصنة، وقد عاد المبعوث في السنة الموالية، يقدم ستة مدافع مع كمية من الذخيرة، ولكن قضية الحلف ضد إسبانيا لم تقبلها الحكومة البريطانية، التي لم ترتح إذ ذاك لمساعدة القراصنة، الذين كانوا قد قطعوا علاقتهم مع السلطان زيدان، وحينئذ تم تحرير أسرى الإنجليز، بعد أن توصلت جمهورية أبي رقراق في مقابل ذلك بالأسلحة المتفق عليها.
وفي عاشر ماي 1627 تم الاتفاق بين الجمهورية وجون هاريس على أن تفتح كل من موانئ الطرفين، لترويج بضائع الطرف الآخر، مع عدم التعرض لسفن أي منهما، والتزام إنجلترا بتحرير جميع الأسرى الموريسكيين بمملكتها، وتعهد جمهورية أبي رقراق بمساعدة إنجلترا حربيا على أعدائها. وكان الذي أمضى الاتفاق عن الجمهورية «إبراهيم بركاش»، ومحمد باركو. غير أن شارل الأول رفض توقيع الاتفاق، ولم يمض قليل حتى استولت السفن الإنجليزية على باخرة للقرصنة، ورد الموريسكيون بالاستيلاء على عدد من البواخر الإنجليزيةـ وعلى الرغم من أن «جون هاريسن» عاد إلى المغرب يؤكد باسم ملكه، أنه يتبرأ من مسؤولية تصرفات السفن الإنجليزية التي استولت على الباخرة الجمهورية، فإن القراصنة قد اشتد غضبهم على المبعوث، حتى رفضوا أن يسمحوا له بالنزول من باخرته. وقد قضى «جون هاريسن» ست سنوات في التردد بين أبي رقراق وبلاده بين 1626-1631، حتى يعمل على تحسين العلاقات بين الجانبين، ولكنه لم يوفق إلى ذاك كثيرا».
«الويلات» التي تعرضت لها سلا بسبب عمليات «القراصنة»
الأكيد أن مجلة «Humanities» البريطانية، عندما تطرقت في أحد أبحاثها إلى القرصنة البحرية، في أكتوبر 1974، لم تسلط الضوء فقط على أهمية «الجهاد البحري» في تاريخ المغرب، وإنما جسدت أيضا اهتمام الباحثين والمؤرخين في الغرب، بظاهرة «القراصنة» المغاربة، وما تسببوا فيه من أزمات لكل من إسبانيا والبرتغال، بالدرجة الأولى، ثم بريطانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى، مثل السويد وهولندا وغيرهما.
إذ إن عددا من البحارة المغاربة، كانوا يمارسون الجهاد البحري، وهم في نظر الأوروبيين «قراصنة» وقطاع طرق، تفوقوا ببواخرهم المحلية على السفن العسكرية الإسبانية والبرتغالية، خلال القرنين 17 و18، وحققوا ما كان أشبه بـ«المعجزات».
في مقال دورية «Humanities» المتخصصة في الأبحاث ذات الصلة، أشارت إلى واحدة من أقدم الإشارات إلى دور قراصنة سلا في صناعة تاريخ «الجهاد البحري» المغربي.. والمقال وقعه الباحث البريطاني «برنارد. ن»، ونشرته مجلات ودوريات أخرى، ما بين سنتي 1955 و1960، مقتبسا من مذكراته وأبحاثه العلمية وجولته في شمال إفريقيا. وقد تطرق إلى تاريخ مدينة سلا، والدور الذي لعبه البحارة المغاربة. يقول:
«قراصنة سلا كانوا «بلاء» ضرب البحار. وبجرأتهم ووقاحتهم الهائلة، داهموا حتى القناة الإنجليزية. قُصفت المدينة أكثر من مرة. في إحدى المرات، نزل الإسبان من سفنهم واحتلوا المكان. لكن النصارى كانوا يكرهون بعضهم البعض أكثر مما كانوا يخافون من القراصنة. ولم يكن هناك أي تنسيق أو تعاون في ما بينهم، خلال عملياتهم الانتقامية.
في الواقع، لم يكن من غير المألوف أن يقبل البحارة الإنجليز الخدمة مع قراصنة سلا، بغرض توجيه ضربة إلى إسبانيا.
هناك مزاعم مفادها أن الإنذار الأول للأسطول الإسباني، قد أعطي من طرف سفينة للقراصنة من سلا، وحدث أن كان ربان السفينة إنجليزيا.
في تلك الحقبة، حققت القرصنة أرباحا ضخمة، ومن الواضح أنها كذلك أيضا في الوقت الحالي، على الرغم من أن أشكالها صارت أقل بدائية.
في سنة 1627، كانت سلا في الحقيقة متحدة مع الرباط، وصارت مملكة مستقلة. وكانت أنشطتها تُمارس من طرف آلاف النازحين من إسبانيا، والذين أحرقوها انتقاما.
الغنائم الكبيرة كانت تُحضر إلى المرفأ. وتقام أسواق مزايدات لبيع الأسرى النصارى عبيدا، فوق الأرصفة. أخذ مواطنو سلا مهنتهم على محمل الجد، حتى أنهم أسسوا مدرسة للقرصنة!
على الرغم من ذلك، وكما في أفلام هوليوود التي ينهزم فيها الشر، فإن غنائم الجريمة لا تدوم – على الأقل ليس للأبد-.
بدأ النصارى المنهزمون يُحارِبون بدورهم. وحلت مناسبات غير سعيدة لم يعد فيها قراصنة سلا هم الخاطفون، بل صاروا هم الأسرى والسجناء.
في أوقات عصيبة مثل هذه، لم يكن صعبا على الرباط أن تنفصل عن حُكم سلا، وأصبحت المدينتان كلاهما في منطقة نفوذ السلطان.
في سنة 1765، انزعج الفرنسيون جدا عندما حدثت مسلسلات جديدة من الاعتداءات، وكان قصفهم الانتقامي لمخبأ القراصنة محبطا. تبعهم الإنجليز، وكان هجومهم حاسما. مع نهاية القرن، أصبحت المهنة القديمة منقرضة تقريبا.
إن دفن المرفأ لوحده كان ليقضي على التجارة، والأمر نفسه تسببت فيه المقاولات التجارية، التي كان وضعها القانوني سليما».
تقول الدراسة أيضا إن عائدات القرصنة البحرية جعلت من سلا أغنى مدينة في المغرب بلا منازع، إذ إن البحارة، أو «الرياس» المغاربة الذين برعوا في الملاحة البحرية واعتراض السفن الأجنبية، راكموا أرباح هائلة، وصادروا حمولات سفن كانت في طريقها إلى أمريكا اللاتينية، أو عائدة منها إلى أوروبا.. ومن أهم ما صادره قراصنة سلا، أطنان من حمولات الذهب والحبوب، وهي «غنائم» جعلت سلا تعيش انتعاشا اقتصاديا غير مسبوق في تاريخها.
اعترافات أوروبية بخطورة قراصنة صنعوا سُمعة «بورقراق»
«حينما كنا في طريقنا إلى جزر الكناري، أو على الأصح بين الجزر الواقعة على الشاطئ الإفريقي، فوجئنا ذات صباح باكر بهجوم قرصان تركي علينا من سلا بشراعياته. ومن جهتنا قمنا بنشر قلاعنا، إلا أننا حينما رأيناه يقترب منا وأنه سيأسرنا خلال ثلاث ساعات استعددنا للمعركة، لقد كان لنا على سطح السفينة اثنا عشر مدفعا، بينما كان لخصمنا ثمانية عشر مدفعا.
وحوالي الساعة الثالثة بعد الزوال وعلى مقربة منا طفق القرصان في خوض المعركة باحتقار لنا وسخرية منا، لأنه بدلا من أن يرشقنا بمدافعه من الخلف كما كان مخططه أطلق علينا رشقة من الجانب، وما كان منا إلا أن رشقناه بمدافعنا الثمانية، ما جعل القرصان يتقهقر متراجعا إلى الوراء، دون أن يغفل استعمال مدفعيته وسلاح رجال البنادق الذين بلغ عددهم مائتي رجل. إلا أن بحارتنا كانوا مسيطرين على الموقف، فلم يصب أي واحد منهم بجراح أو سوء. وبعد برهة وجيزة أعاد القرصان الكرة، واستعددنا نحن كذلك لخوض المعركة من جديد. وفي أقل من لمحة بصر انطلق ستون قرصانا وصعدوا لتوهم إلى سطح سفينتنا، وأخذوا يلوحون بفؤوسهم ويمزقون الحبال ويكسرون الصواري. وقد واجهناهم بكل صرامة وشراسة باستعمال طلقات البنادق ورشات المتفجرات وغيرهما من الأسلحة. ولمرتين طردناهم من ظهر السفينة، ولمرتين عادوا إلينا، وأخيرا ودون التأكيد على هذه الفترة من تاريخنا، اضطربت سفينتنا وقتل ثلاثة من رجالنا وجرح ثمانية آخرون واضطررنا إلى الاستسلام، حيث اقتادنا الغالبون إلى مرفئ سلا الذي يملكه المسلمون».
هذه الشهادة تعود إلى واحد من أشهر من وقعوا في الأسر بين يدي قراصنة سلا، خلال القرن 18. يتعلق الأمر بـ«دانييل دي فوا»، وقد أرخ له الباحث هنري بوسكو، وهو أحد أشهر من اشتغل على تاريخ الأسرى الفرنسيين والإسبان في المغرب، واشتغل أستاذا ومحاضرا في ثلاثينيات القرن الماضي، ونشر أبحاثا مهمة عن الأسرى الفرنسيين وقراصنة سلا، في مجلة «أكدال» التي أطلقها سنة 1936.
وقد نقل الباحث المغربي د. محمد حمود، في ترجمة رصينة، محتوى أبحاث «روجي كواندرو» الذي وثق بدوره لأبحاث «هنري بوسكو»، في كتابه «قراصنة سلا».. وجمع حقائق مثيرة على لسان الأسرى الأجانب، الذين وقعوا بين يدي قراصنة سلا في الفترة ما بين 1670- فترة حكم المولى إسماعيل- إلى حدود 1880، مع اقتراب نهاية حكم المولى الحسن الأول.
وقد نقل محمد حمود ما سجله الباحث الفرنسي هنري بوسكو في تقديم كتاب «روجي كواندرو»، أثناء وصفه لقراصنة سلا انطلاقا من الأوصاف التي سجلها الأسرى، قرنان بعد وفاتهم:
« وقد كان قرصان سلا يتميز بميزة فريدة، ذلك أن قراصنة الجزائر وتونس وطرابلس كانوا يمخرون عباب مياه واحدة هي مياه البحر الأبيض المتوسط، بينما كان قراصنة سلا هم المسلمون الوحيدون الذين تعاطوا للقرصنة في محيط جد خطير وشاسع هو المحيط الأطلسي. فقد كانوا في واجهة وثغور الإسلام في الجناح الغربي منه، وكانت سفنهم الخفيفة تتجه مندفعة لغزو شواطئه حتى مصطبات الأرض الجديدة، طيلة القرن السابع عشر.
تلك هي الأحداث الرئيسية التي تغيب عن أذهاننا بصورة عامة، والتي تميز قراصنة سلا، وتجعل من ظاهرة القرصنة السلاوية ظاهرة تتميز بالجرأة النادرة، وتعطيها طابعا طريفا أكثر مما يعرفه الناس عنها بعامة».
والمقصود بالأرض الجديدة طبعا: «الولايات المتحدة الأمريكية».. إذ إن عددا من الباحثين الأجانب، أكدوا أن قراصنة المغرب الذين نشطوا في الجهاد البحري، سبقوا «كولومبوس» إلى اكتشاف الأراضي الأمريكية بسنوات طويلة.
«مجاهدو» الناظور والحسيمة.. بحارة المتوسط المنسيون
عندما يُذكر «القراصنة»، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هم قراصنة سلا. نظرا إلى الشهرة التي حققوها في أوروبا، وأيضا حجم الأضرار التي تسببوا فيها لأساطيل حكومات وشركات كل من إسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا، خلال القرنين 17 و18.
لكن لا بأس هنا أن نذكر بدور قراصنة الناظور والحسيمة، وهؤلاء لم يتم التوثيق بشكل كاف لتاريخهم، ولا للأدوار التي لعبوها في منطقة البحر المتوسط.
قد يكون السبب راجعا إلى سُمعة قراصنة طرابلس أيام المولى سليمان – حكم المغرب ما بين 1792 و1822- والذين فاقوا في شهرتهم بحارة الجزائر وتونس. لكن قراصنة الناظور لعبوا دورا كبيرا في عمليات الجهاد البحري، وبصموا على تاريخ كامل من العمليات البحرية، حتى أنهم كانوا يشكلون «كابوسا» بالنسبة إلى البوارج الأمريكية العابرة من البحر المتوسط.
كان السياسي البريطاني «السير جون دريموند هاي»، الذي تعرف على المولى سليمان عن قرب وحاول كسب وده، يسابق الزمن لإبرام الاتفاق، بعد أن فشل الأسطول الفرنسي، ثم الإسباني وأيضا البرتغالي في «تأديب» القبائل، التي كانت تهاجم السفن التجارية الأوربية العابرة من وإلى أوروبا.
لكن ما لم يتم تسليط الضوء عليه تاريخيا، هو دور القبائل في منطقة الناظور والحسيمة، في الجهاد البحري.
فقد كانت هذه القبائل خلال عهد المولى سليمان تؤمن السيادة المغربية على المنطقة، وتفرض على كل السفن العابرة أداء ضرائب لصالح تلك القبائل، ويتم محاصرة كل السفن التي تأبى التوقف للتفتيش، ويتم سلب حمولاتها وأسر رهائن منها، وفي بعض الحالات تم إغراق سفن أجنبية.
حتى أن بارجة أمريكية كانت قادمة من مصر، في سنة 1798، على عهد المولى سليمان دائما، تم إيقافها في عرض مياه البحر المتوسط، ورغم أنها كانت مزودة بالمدافع، إلا أن المغاربة من قراصنة الناظور والحسيمة هاجموها ليلا، وتمكنوا فعلا من السيطرة على طاقمها.
وكرد من الأوروبيين على العملية، حاولت سفن فرنسية نسف الساحل الذي كانت تتوقف فيه سفن من كانوا يسمونهم «القراصنة» المغاربة، فكان الرد عنيفا، وتم إغراق، حسب ما ذكره السيد «جون دريموند»، سبع سفن فرنسية كانت كلها مزودة بالمدافع الثقيلة. حيث ثم قصفها ليلا في وقت كانت الرؤية تصعب على الفرنسيين، الذين لم تكن لديهم أي دراية بتلك السواحل، قبل أن تتحرك سفن الجهاد البحري لمصادرة ما تبقى من الزوارق، التي كان الفرنسيون يقومون عبرها بإنزال عسكري لتأديب تلك القبائل.
أما الأمريكيون فقد أبرموا اتفاقا مع المولى سليمان، ونجح في إقناع قراصنة شمال المغرب بالعدول عن تلك العمليات، سيما عندما تأكد لهم أن حكومة الولايات المتحدة لم تكن تمزح بشأن الرد عسكريا على مهاجمة سفنها في السواحل المغربية.
كان عهد المولى عبد الرحمن بن هشام، الذي ورث الحكم سنة 1822 بعد وفاة عمه المولى سليمان، موعدا لاحتواء القرصنة البحرية وإنهاء عمليات القراصنة المغاربة، وتقلصت عمليات القراصنة، بعد نجاح السلطان في ثني «الرياس» عن الخروج لاعتراض السفن.. وهو ما أكسب هذا السلطان مركزا دبلوماسيا تكلل بإبرام اتفاقيات مع الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.. في حين صرفت إسبانيا والبرتغال النظر عن مهاجمة المغرب، أو محاولات احتلال العرائش والجديدة.





