الرأي

طموحات ليبية متواضعة

أرنست خوري
تنخفض طموحاتـ«نا» ونحن نرصد الحدث الليبي. ونون الجماعة هنا تحيل إلى فئة من البشر يفترض أن تكون عريضة، من ليبيين وغير ليبيين، ينتمي أفرادها عاطفيا إلى معسكري الانقسام الحالي، أو هم خارجون عنه. فئة جل ما تتمناه فعلا هو أن تتوقف الحرب، وأن يعيش الليبيون حياة «طبيعية» كباقي الناس في هذا العالم، مع حد أدنى من الكرامة والحرية والرخاء في بلد نفطي غني واحد، لا لسبب عقائدي يمقت التقسيم عموما، بل لأن التاريخ يفيد بأن التشطير، في الحالة الليبية تحديدا، لم يبن أرضية لسلم مستدام على أساس بلدان كانت تسمى ولايات أو أقاليم، واحدة في الشرق وأخرى في الغرب، وثالثة في الجنوب.
ينخفض سقف الطموحات: يكفي منع وصول قذافي جديد إلى الحكم المطلق لهذا البلد الشاسع في مساحته، والمحدود في عدد سكانه، والفقير بتجربته السياسية والحزبية، والضئيل في عدد السنوات أو الأشهر «الطبيعية» التي عرفها منذ الاستعمار الإيطالي، فالملكية ثم حكم ذاك المجنون، وصولا إلى الحرب الأهلية المتواصلة. لكن العيش في عالم من الطموحات العامة، وإن كانت محدودة وبديهية، لا يُصرَف رأيا في الحدث، فلا بد من الغوص في الوحل إن كنت تريد إزالته. والانغماس في الوحل المجازي لا بد أن يضع من يُقدم عليه في موقع أقرب إلى أحد عنواني الاستقطاب الحربي، مع علمه، في حال كان صادقا مع نفسه، بأن المطروح للاختيار اليوم بعيد عن حقبة آمال عامي 2011 و2012، أي مرحلة الانتفاضات العربية التي سمحت بولادة احتمال ديمقراطي عربي حداثي، سرعان ما بددته ثورة مضادة، وغلبة كل ما هو عسكري وخارجي وديني وقبلي على ما كان يفترض أن يكون مدنيا ووطنيا ومحايدا تجاه الأديان والطوائف، وحداثي يسمو فوق الانتماء إلى الهويات البدائية. لكن الابتعاد عن الطموح الكبير لا يبرر التخلي عن الأمل الأصغر، وعنوانه اليوم توقف الحرب، واقتناع طرفي الحرب باستحالة فرض أي منهما سيطرته الكاملة على هذا البلد المعقد في تركيبته الديموغرافية، على عكس جغرافيته المسطحة.
والاكتفاء برمي مسؤولية الاحتراب الليبي على قوى أجنبية، ليس سوى إصرار على عيش في عالم متخيل، فلو لم تكن هناك قواعد ليبية وازنة ومؤثرة، مستفيدة من الرعاية الخارجية لاستمرار الخراب أو غافلة عن المصلحة العامة، لكان موضوع الانقسام الليبي يحصل بالكلمات وبالانتخابات وبين الأحزاب، لا بالقصف وبالرصاص بين ميليشيات وقبائل ومناطق. وما سبق هو كلام إنشائي آخر يضاف إلى دواوين من الأدبيات العامة التي ترمى في الملعب الليبي، لا تتجسد في معنى سياسي إلا عند القول إن استعادة التوازن العسكري الذي طرأ أخيرا في الغرب الليبي، بفعل تدخل تركي وازن، على حساب معسكر خليفة حفتر ممثلا محورا إقليميا عريضا، يفتح المجال، في آن واحد، لسيناريوهين اثنين يبدوان اليوم متعادلين في الحظوظ: من جهة، هو يمنح فرصة لتحقق الطموح المحدود، أي وقف الحرب والاقتناع باستحالة تحقق حسم عسكري يشمل الشرق والغرب والجنوب، ويعطي فرصة لتقاسم معقول للسلطة بين مدنيين من دون عسكر، ولا مدعي النطق باسم الله على الأرض، على أساس انتخابات لن تكون مثالية في مستوى تمثيلها، لكنها ممكنة بمعايير مقبولة في الحد الأدنى. لكن من جهة ثانية، إن طال زمن تكريس السيطرة العسكرية بين الطرفين في الشرق والغرب، وبقاء الجنوب ساحة هيمنة يتواليان عليها بشكل موسمي، فإن خطر الاقتناع بـ«حل» التقسيم، أي زيادة التعقيد في المشهد، يصبح أكثر جدية.
لم يكن هناك مجال لوقف الحرب ولفرض سلم ولو كان هشا، وتقاسم منطقي للسلطة بين القوى الممسكة بزمام الأمور في الغرب، وتلك القابضة عليها في الشرق، عندما كان خليفة حفتر، مدعوما من الإمارات ومصر والسعودية وفرنسا، يعد الساعات الصفر لإحكام السيطرة على طرابلس. كان يجب تحقيق توازن عسكري حصل بالفعل بواسطة الدعم التركي العلني. تحقق التوازن مثلما يظهر اليوم، إما أن يفتح ثغرة في الجدار، ويقتنع المعنيون بإمكانية تحقيق الطموح المحدود، أو يكون عنوانا متجددا لإحياء الأوهام المتخيلة بتكاليفها الباهظة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى