
بقلم: خالص جلبي
المواطن العربي اليوم يستخدم التلفون الجوال، ويسكن عمارة شاهقة، ولربما ركب سيارة فارهة، والجندي العربي يقاتل بالصواريخ، والجراح العربي يجري جراحة معقدة، وفي بعض البلدان العربية بلغ عدد الجامعات كما كبيرا، مما يوحي أن العالم العربي بخير. ولكن التفحص العميق للمشكلة يحمل أخبارا غير سارة. فلم تتطور الخدمات الا باتجاه عملقة أجهزة الأمن، والثروة القومية بددت في شراء أسلحة ميتة، وكل شيء في البنية التحتية لا يعمل، والنمو يتراجع في معظم بلدان العالم العربي، مع انفجار سكاني مخيف ومستقبل مظلم للشباب، والمواطن لا يصدق نشرة الأخبار المحلية، والمواطن العربي أحصي عددا بأدق من عمل وكالة «ناسا» لارتياد الفضاء، وصُنف في خانات أمنية لا تنتهي، مراقبا بالعشي والإبكار في تنفسه ورسائله، وتسجل شجرته العائلية لسبع حلقات.
الإنسان العربي يلبس بذلة أنيقة، وتلمع في صدره ربطة عنق جميلة، ويضع على عينيه نظارة مصنوعة في إيطاليا، شكله الخارجي كفرد لا ينقصه شيء عن أي مواطن أوروبي بفارق أنه ولد أخرس يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا، أتقن فن الصمت وتلقي الأوامر، وموت روح المبادرة، وفقد روح الجماعة، يردد مقولة ديكارت: «عاش سعيدا من بقي في الظل».
نحن دخلنا عصر المحطات الفضائية، ولكن من الباب الخلفي لنكرس أصنام قريش بما يحسدنا عليه أبو لهب، وفي بعض المحطات لا تطل سوى ثلاثة رموز في مركب أقانيم من عقيدة تثليث جديدة. وكانت الحياة السياسية قبل نصف قرن أفضل حالا، فاقتلعت أول جذور الديمقراطية والمساواة الاجتماعية والتعددية السياسية، وتراجعت الخصوبة الثقافية لحساب الفكر الإيديولوجي في مصادرة خانقة للعقل وتأميم الفكر حتى إشعار آخر، ويتم نبش كتب لمفكرين تتم هرطقتهم بعد مرور ربع قرن على كتابتها.
وفي الوقت الذي يتأهب العالم لاستعمار المريخ، ما زال عندنا من يؤمن أن الأرض لا تدور. وفي الوقت الذي يخطط الآخرون لألف سنة قادمة في استيطان المجرة، ما زلنا نحن على الأرض في بعض المناطق نتناقش حول قيادة المرأة للسيارة، وفي الوقت الذي يحاسب الفرد على قتل شجرة في بريطانيا، فإن عندنا من يفكر ويخطط لحملة تطهير عرقي لبعض الشجر وتدمير الغطاء النباتي بحجة الحساسية، في بيئة تئن من الرمال والجفاف، كمن يتبع وصفة مشعوذ بمعالجة الحساسية بقطع الأنف، والعطاس باقتلاع الرئة، شاهدا على وعي بيئي متخلف مدمر (كما رأيت أنا في السعودية).
نحن إذاً نتقدم إلى الوراء، ويمشي أحدنا مكبا على وجهه، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم؟ إن حظنا سيئ أننا ولدنا في هذا العصر، وننتسب إلى ثقافة تحتضر، ولسان محاصر بثلاث وعشرين بوابة مراقبة، وكل هذا الوصف المرعب هو النصف السهل في المشكلة، فالمريض لا يختلف حول علته جاهلان، ولكن اجتماع كل جهلاء القرية لا يقربهم من الصحة إلا بعدا، كما فعل أطباء صلاح الدين الأيوبي الذي أصيب بالتهاب كبد وتعرض للجفاف، فعالجوه بالفصادة فقضوا عليه.
العقول هاجرت، والأموال طارت على أجنحة إلكترونية، والاستبداد ازداد رسوخا، والديكتاتوريات أصبحت أشجارا باسقة مدت ظلالا من الرعب على شعوب بأكملها، وضربت جذورها أميالا في التربة النفسية، وانقلب الفرد إلى كائن مسخ يتقن الكذب والتمثيل بأفضل من القرود، والإذاعات نفخت ألوهية الحكام فصارت أكبر من اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
المواطن العربي لا يرى المشاكل، بل يصطدم بها اصطداما، كما ينطح الأعمى الجدار فيجرح رأسه ولا يتعلم من خطئه، بما لا تفعله الأميبا؛ فيسرع إلى الحلول الجاهزة والسريعة لمشاكل في حجم الجبال تعس من قرون، ويعمد إلى شراء آلة لا يحسن استخدامها، ويعجز عن صيانتها، ولا يفكر في تطويرها.
جاء في قصة «كليلة ودمنة» أن مجموعة من اللصوص أرادوا السطو على منزل، وشعر رب المنزل بحركتهم فهدته زوجته إلى حيلة أن يتحدثا عن ثروته الطائلة التي جمعها بالسرقة؛ فإذا دخل البيوت نزلها على ظهر شعاع من ضوء القمر. كل ما يحتاجه ترديد سبع مرات شولم .. شولم، فلما هم زعيم العصابة أن ينزل السطح بالطريقة نفسها دقت عنقه. نحن نريد معالجة أمورنا بالصعود على أشعة ضوء القمر.
ضرب المفكر (علي شريعتي) المثل عن استعمال الآلة بين الشرق والغرب أنها عند الشرقي تخرب بعد فترة قصيرة من استعمالها، ويبقى يستعملها محدودة الوظيفة قرنا من الزمن بدون فكرة إصلاحها، وتبقى تؤدي وظيفتها عند الأوروبي حتى بعد إحالتها إلى متحف. هذا المنظر رأيته أنا شخصيا في مصاعد قديمة تعمل في ألمانيا ومدينة مونتريال بكندا.
هل هذه صورة قاتمة للواقع؟ المشكلة أن الواقع أسوأ بدرجات من هذا الوصف، ولكن كل ما ذكرناه لا يعني أكثر من وصف موجع ولا يتقدم باتجاه الحل، ويبقى السؤال: لماذا يحدث ما يحدث؟ لماذا تعيد الثقافة إنتاج نفسها على هذا الشكل المريض بدون تطور يذكر؟ ما هو سر هذا الاستعصاء الخبيث في الثقافة العربية الإسلامية؟ ما هو نوع البرمجة الذهنية عند الفرد العربي؟ ولماذا لا يدخل العصر؟
المواطن العربي كفرد مادة خامة قابلة للتصنيع في أي ماكينة اجتماعية، شهادتنا في ذلك أبناؤنا الذين يذهبون إلى الغرب؛ فينخرطون في الماكينة الغربية فيبدعون ويلمعون؛ فإذا عادوا إلى الوطن انكمشوا مثل القماش السيئ بعد الغسيل، في شهادة عن بيئة عقيمة وجو خانق. والسؤال الموجع، لماذا؟
إذا كان كل مواطن يغلق بابه على نفسه، ويعيش مع نفسه وعياله، فقد تحول إلى ذرة رمل تائهة، غير متماسكة مع غيرها، في صحراء تضرب فيها العواصف في مؤشر خطير على انقضاء أجل الأمة أو يكاد.



