الرئيسية

عندما يموت الزجال الساخر محمد شهرمان مرتين

كوميديون وهبوا حياتهم لإسعاد المغاربة فماتوا تعساء

ولد محمد شهرمان سنة 1948 بحي سيدي بن سليمان الجزولي بالمدينة العتيقة، وهو مؤلف مسرحي وشاعر وزجال وممثل بارع خريج مسرج الهواة. بدأ مسيرته في حي المبدعين، حيث تألق ضمن أنشطة الشبيبة الاستقلابية في مقر الحزب بعرصة لمعاش حيث كانت الانطلاقة بتصميم الديكور وكتابة الحوارات، قبل أن ينضم لفرقة الناشئين للمسرح حيث أسند إليه دور ثانوي في مسرحية «جمال بلادي» وهو شاب يافع. ومن غرائب الصدف أن يكون مخرج هذه المسرحية الوزير السابق محمد الوفا.
وحسب الباحث مبارك الكنوني، فإن «مرحلة السبعينات والثمانينات من أزهى الفترات إنتاجا وإبداعا لمحمد شهرمان فقد نهج تيارا جديدا في الكتابة المسرحية، لغته لا تعرف الأبراج اللفظية العاجية، بقدر ما تحتك باللغة اليومية، لغة الشعب. لقد تجلت هذه الكتابة المسرحية عبر نصوص جريئة تمثلت في «التكعكيعة» و«نكسة أرقام» و«الضفادع الكحلا» و«الرهوط» و«الأقزام في الشبكة». وفي بداية الثمانينات من القرن العشرين ومع بداية العد العكسي لمسرح الهواة، كتب مسرحية «سين وجيم» ومسرحية «القنبولة» و«الجهاد الأكبر». مع مطلع التسعينات، كتب مسرحية «سوق الرشوق»، كما أن معظم أزجاله، تغنت بها مجموعة «لرصاد» المراكشية و«جيل جيلالة».

سلطان الزجل المغربي
يقول أحمد رمزي الغضبان في كتابه: «الذاكرة الغنائية المراكشية»: «في فترة السبعينات ازدهرت الحركة الفنية والثقافية في مراكش، وكان شهرمان قد انضم لفرقة كوميديا التي حازت على العديد من الجوائز في مهرجانات مسرح الهواة، وكان الكاتب شهرمان والمخرج عبد العزيز الزيادي وراء هذا التألق، ولم يتوقف هذا المؤلف عند المجال الكوميدي بل امتد إلى الأغنية حيث كتب لجيل جيلالة «لكلام المرصع» سنة 1972 و«العيون عينيا» سنة 1975 و«دارت بنا الدورة» سنة 1976، كلمات ساهمت في توهج مجموعة جيل جيلالة، كما تغنت بأشعاره مجموعة لرصاد».
رفعت هذه الأعمال اسم شهرمان عاليا في سماء الإبداع وأكدت أن الرجل يتجاوز حدود المسرح الساخر إلى الأغنية الملتزمة والوطنية، لذا أطلق عليه الكاتب محمد تكناوي، لقب سلطان الزجل المغربي، «هو سيد الزجالين بامتياز بلكنته المراكشية الأصيلة وبلغته الموزونة الجميلة التي كانت تتدفق من ثنايا فمه عذبة رقراقة. الراحل شهرمان كان عاشقا للعبارة الجميلة، كلامه منظوم شعرا وحديثه موزون، لا يتحدث إلا مدركا معنى الكلام، خفيف الظل يداعب الكلمات بأسلوب خفيف، يصنع صورا شعرية متعددة الأبعاد يمتع الأذان شعرا وأدبا ويروح عن النفوس بروحه الفكاهية محبوب المعاشرة والمصاحبة، تسلل إلى عوالم الإبداع عن موهبة مولوع بالمسرح الذي شكل عشقه الأبدي».
كان شهرمان قريبا من نبض البسطاء، سخيا في عطاياه، منح إبداعاته للرصاد ونواس الحمراء، ولكل من طرق بابه، ليس له ما يمنح سوى الحروف البراقة، بل إن كثيرا من الفنانين أعادوا توزيع تلك الأعمال كالدوزي ونبيلة معان، كما تغنى بكلماته الفنان البشير عبده ومحمد علي، وكتب أيضا للثنائي الساخر بزيز وباز. الأكثر من هذا أنه خطاط مبهر.
مسار حافل بالعطاء على امتداد أربعة عقود، منذ 1969 إلى غاية 2009، حيث تسلل إليه المرض فحال دون استمرار قفشاته، التي ميزت أعماله الساخرة على غرار: «فلتان» و«بابا عقربة» و«الأقزام في الشبكة» و«عمي مشقاف». ومن إنتاجاته التلفزيونية الخالدة مسرحيات «خدوج» و«السي مشوار» و«فروج وفروجة».

جحود من عالم الفن
حين تم تكريمه في الدورة الثانية للمهرجان الغيواني سنة 2013، انطفأت من حواليه الأنوار بعد مرض نخر جسمه لكنه لم ينل من عزة نفسه وكبريائه، بل انتابته نوبة غضب حين علم بجحود وجوه من عالم الفن كان أول من علمها الوقوف فوق الركح، ونظم قوافي الشعر، وترويض الكلمات. ومما زاد من غضبه إغفاله من طرف المجلس البلدي رغم أنه كان موظفا بالبلدية.
اعتزل الجلسات الحميمية، وزاده ألما حفل التكريم المهين الذي أقامته على شرفه سلطات مدينة مراكش، حيث فوجئ بمنحه صحنا تقليديا اقتناه المنظمون من أحد بازارات مراكش فغادر القاعة غاضبا غير مبال لملتمسات منشط يحاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه.
«عاش محمد شهرمان حياة مضطربة على المستوى الاجتماعي، فلم يحظ بالتقدير الحقيقي الذي كان يجب أن يحظى به فنان في مثل قيمة وقامة فنان عاش في آخر حياته في إقصاء تام متفردا بغربته في رحلة شاقة مع الفاقة والمرض، إلى أن رحل عن هذا العالم الذي لم يلق فيه ولو جزءا ضئيلا من الإنصاف». كما يقول الباحث الإعلامي أحمد رمزي الغضبان.
اختفى شهرمان عن الأنظار ولزم بيته طويلا، حيث ظل يصارع المرض في كبرياء، عانى من ضيق التنفس وشعر بسقام يتسلل إلى جسده، ويجبره على التمدد فوق سرير المرض، وعلى الرغم من محاولات أهله عرضه على أطباء اختصاصيين خارج مدينة مراكش، إلا أنه ظل يرفض مقترحات التطبيب ويؤكد أن لكل امرئ أجله لا يزيد يوما ولا ينقص يوما. اختفى شهرمان عن الأنظار قبل أن يفاجأ المراكشيون برحيله، وهو الذي مات وفي قلبه غصة تكريم خادع، «مات وهو يوصي، من خلال أشعاره، بالكرامة والوفاء الذي لم يلقه يوما في وطن لازال يتمادى في إهمال الفنانين المغاربة»، على حد قول الكاتب الصحفي امبارك البومسهولي أحد رفاق الفقيد.
وفي الرابع من أبريل 2013، استيقظ سكان المدينة العتيقة على خبر رحيل زجال الحمراء محمد شهرمان، وأحد روافد الشعر الغنائي والنصوص المسرحية، في صباح الأربعاء مات شهرمان بعد معاناة طويلة مع المرض، وتقرر دفنه في اليوم الموالي بمقبرة الزاوية العباسية بمراكش التي لا تبعد عن مقر سكناه إلا ببضعة أمتار، سار رفاق دربه خلف الجثمان وهم يلعنون الريع الفني، ويجمعون على أن رحيل شهرمان نهاية أكيدة للكلام المرصع وللزجل الموزون والكلمة التي تنحت في النفوس مخلفة أثرا حميدا ورهبة ممزوجة بالاطمئنان والفرح.
توفي الفنان والزجال المغربي كاتب كلمات الأغاني «الكلام المرصع» و«دارت بينا الدورة» و«لعيون عينيا»، وعيناه تبكي ألم الجحود، وحين يسأله رفاق دربه عن سر البكاء، كان يردد لازمته «مطرب الحي لا يطرب».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى