حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرفسحة الصيف

فقدان الحس التاريخي وذيوله الكارثية

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

عندما أشار القرآن في أكثر من مكان إلى الحرف، ذكره إما بشكل منفرد (ق) (ن) (ص)، أو ملتحم بأكثر من حرف آخر، ولعل أطولها كان (كهيعص). والحروف في الواقع هي الوحدات الأساسية المشكِلة للكلمات، فالحرف اليتيم لا يدل على أي معنى والحرف الذي يودع حياة العذوبة ويتزوج، هو الذي ينجب فيولد المعنى! فحرف واحد لا يمنح أي مدلول، ولكن التصاق الحرفين في عملية تزاوج مع حرف آخر يشكل المعنى، أو الحركة فتولد حروف الجر (مثل: من… عن… قد)، كما يولد الاسم (من مثل: فم…حب…رب).

وهذه القاعدة تنطبق بشكل مثير على البيولوجيا والطبيعة انطباقها على اللغة، فعناصر الطبيعة لا توجد بشكل ذرات تائهة، والطبيعة تكره حياة العزوبة، ولا تريد لأولادها حياة التشرد! فلا توجد عناصر مفردة هائمة على وجهها، بل توجد بشكل (جزيئات)، أي تزاوج عنصري (بين العناصر)، فلا يوجد هدروجين شارد، أو صوديوم فلتان، أو حديد منفرد! بل لا بد من (إحصان) هؤلاء العذاب وتزويجهم كي يتوازن العنصر ويرشد ويعقل!

وبذلك فعناصر الكون موجودة بشكل حياة زوجية، فـ(الملح) هو القران السعيد بين ذرتي الكلور والصوديوم، والماء هو الزواج الميمون بين شاردتي الهيدروجين والأكسجين، ومن الغريب أن الملح الذي تحتاجه العضوية لو دخل بغير صورته الجديدة، أي لو دخل بصورة عناصره الأساسية لكان سما قاتلا، فالكلور من العناصر السمية الرهيبة في الملح، والذي استخدم في حرب الغازات السامة في الحرب العالمية الأولى، فالملح هو (الكلمة الجديدة) من تزاوج عنصري الكلور والصوديوم في لغة الطبيعة، والملح كلمة من قاموس الطبيعة ولغتها التي لا حدود لها، من الماء والزجاج والأمونيا وأملاح الذهب وأكسيد الحديد واليورانيوم والماس.

كذلك الحال في البيولوجيا، فكل كائن هو حصيلة ارتصاف والتصاق حرفين بيولوجيين سابقين، كما أن كل كائن جديد بالتصاقه مع سميه يشكل كلمة جديدة في الخلق الجديد، وحرف (النون) هو حرف من ستة حروف شكلت كلمة (يسطرون)، ولكن حرف النون لوحده لم يعط أي معنى، في حين أن اقترانه مع حروف أخرى قاد إلى انبثاق معنى جديد.

والآن عندما استطاع الإنسان بالرمزية أن يتخلص من التصوير، أمكن له ليس فقط ترميز الأشياء، بل والأفعال وحروف الجر التي هي أصعبها، ونحن لسنا أمام بحث في الألسنيات، ولكن من أجل اكتشاف معنى التاريخ من خلال الكتابة، فالكلمة إذا (حبست وقيدت) المعنى إذا صح التعبير فعندما نكتب شجرة باللغة العربية، أو (TREE) باللغة الإنجليزية، أو (BAUM) باللغة الألمانية، أصبح كل الأفراد الذين يتكلمون هذه اللغة المشتركة يتواصلون بالمعنى.

ونظرا إلى أن أصول اللغات ذات تركيب عقلي مشترك، فيمكن بواسطة الترجمة تواصل الشعوب (ثقافيا)، وكل هذا بواسطة الكلمة المكتوبة، فالكلمة المكتوبة هيأت لبناء الذاكرة الجديدة فقط وذاكرة الآخرين، بل وأبعد من ذلك وبغير حدود، فبقدر القراءة والاطلاع يمكن شحن دماغ الإنسان وهو جالس في مكانه.

وفي المستقبل ستولد إمكانية اتصال أي إنسان بأي إنسان في أي مكان، فلكل إنسان سيصبح تلفون عالمي مستقل وكمبيوتر متصل بينابيع المعرفة الإنسانية، ولن يحتاج الإنسان إلى جمع مكتبة عملاقة في منزله، وفي بضعة (ديسكات) سيحمل كل ذخائر الفكر البشري وكل ما كتب عبر العصور‍‍!

والقرآن كان عميقا حين أطلق عقولنا باتجاه (الجيولوجيا – علم طبقات الأرض) و(الجينالوجيا- علم أصول الأشياء)، والتاريخ وهو المكتوب والأنثروبولوجيا وهو ما قبل التاريخ، وهكذا فعندما حثنا على تحري (كيف بدأ الخلق)، (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)، كان يريد منا أن نسير في الأرض لمعرفة بدء كل ما عداه سبحانه وكل ما عداه فهو مخلوق (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل). وكلمة خلق ذات طيف هائل، فكل ما عدا الخالق جل وعلا يخضع لقاعدة تتبع مسارات البدايات الأولية فيه، سواء في الكوسمولوجيا (الكون)، أو البيولوجيا (علم الأحياء)، أو السيكولوجيا (علم النفس)، أو السوسيولوجيا (علم الاجتماع)، فهذه الكلمة تنطبق على: الذرة والمجرة على كيفية نشأة الحياة، قيام الدول وانبعاث الحضارات وتشكل المجتمعات، وقيام الأحزاب، وانتشار الديانات، ولادة الأفكار، وبزوغ المؤسسات، فهي كلمة ماسحة شاملة، مثل الرادار الكوني لكل الحركات في الفضاء الوجودي.

أهمية التاريخ من هذا المنظور إذن أننا كبشر لا يمكن أن نتشكل كبشر بدون مجتمع أولا، وبدون تاريخ ثانيا؛ فالمجتمع هو الذي ينقلنا من معادلة البيولوجيا إلى المعادلة الاجتماعية، التي تصوغنا كبشر نتكلم ونتصرف وننمو عقلياً ونتمتع بالحضارة، كما أن التاريخ هو الذي يعطينا التراكم المعرفي، فيختزل لنا تجارب ملايين السنين ليضغطها في سنوات قليلة.

والإنسان بدون تاريخ كالفرد بدون ذاكرة، ولنتصور أنفسنا لحظة واحدة بدون ذاكرة، سواء فقدان الذاكرة القريبة أو البعيدة، كما في مرضى (الزهايمر)، فننسى أين وضعنا مفتاح السيارة، ولا نستطيع العودة إلى بيوتنا، لأننا لا نعرف مكانها، وننسى السباحة فنغرق، وننسى قيادة السيارة فتحل بنا الكوارث.

إن فقدان حس التاريخ بكلمة ثانية، هو بمثابة مرض زهايمر اجتماعي.

 

نافذة:

الإنسان بدون تاريخ كالفرد بدون ذاكرة ولنتصور أنفسنا لحظة واحدة بدون ذاكرة سواء فقدان الذاكرة القريبة أو البعيدة كما في مرضى الزهايمر

 

 

 

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى