شوف تشوف

الرأي

في أنواع التسويات ومبرراتها

عبد الإله بلقزيز
لم توجد التسويات السياسسة لأنه قامت حروب ونزعات مسلحة، في تاريخ المجتمعات والدول، وصيرَ إلى إنهائها باتفاقات سياسية بين أطراف الحرب؛ بينها مباشرة أو بتوسط جهات أخرى (دول مجاورة، قوى كبرى، منظمات دولية…).
التسوية، بهذا المعنى، أكبر من اتفاقات وقف إطلاق النار أو اتفاقات التهدئة؛ فهذه عسكرية، في المقام الأول، لا سياسية، وهدفها توفير مناخ للتفاوض والحل السياسي، أو الحد من الخسائر المادية التي يخلفها استمرار الأعمال القتالية. أما التسوية فاتفاق سياسي على قضايا النزاع، ونص على الالتزامات المتبادلة بين طرفيْه أو أطرافه، والتي من دونها لا يكون اتفاقٌ لأن الأخير لا ينهي الحرب فحسب، بل يبدد الأسباب التي قادت إليها، علما أن السلام نفسَه يأتمن طريق التسوية، ولكن حينها لا تكون هذه مجرد تسوية سياسية، بل تسوية سلمية.
يعيدنا هذا التمييز إلى التعريف السبينوزي – الكَنْتي للسلم بوصفها ليست، فحسب، حالا سلبية تتوقف فيها الحرب وأعمال العداء، بين مَن ينغمسون في معمعانها، بل هي أيضا – وأساسا- حال إيجابية تمحي فيها، أو ترتفع، مشاعر التخاوُف (=الخوف المتبادل) والتعادي (العداء المتبادل) بين متنازِعين على نحوٍ يتحقق فيه الوئام Concorde بينهم فلا يعود، بعدها، ما يدخل في تأزيم علاقات بعضهم ببعض، بلْه ما يدفعهم إلى الصدام العسكري. ومن النافل القول إن هذه الحال من السلم قلما قامت واستتبت بين المجتمعات، وبين الدول، وفرضت أحكامَها في التاريخ الإنساني؛ إذْ كثيرا ما انتُقِضت التسويات السياسية بين مَن أبرموها فتجددت الحروب والنزاعات المسلحة. وليس في الأمر هذا مدعاة إلى الغرابة، لأن مصالح المجتمعات والدول ليست واحدة (وإن كان منها ما هو مشتَرَك)، وقد تصل الأحوال بأصحابها – في لحظةٍ من تَصَادُمها – إلى المواجهة العسكرية والتطويح باتفاقيات التسوية وعدم الاعتداء؛ ذلك أن انتهاك التسويات والاتفاقيات مثله مثل انتهاك القوانين، أمر وارد في السياسة.
هذا، على الأقل، ما تطلِعنا عليه تجارب الحروب في العالم المعاصر. وعليه، في غياب سِلمٍ بالمعنى الاستراتيجي هذا، لا يبقى من إمكانٍ غبر التسويات سبيلا إلى إنهاء المنازعات المسلحة.
من حسن حظ البشرية أنه ما من حربٍ، وإن طال أمدُها، استمرت في التاريخ إلى ما لا نهاية؛ إذ كان على كل حربٍ، في نهاية مطافها المدمر، أن تضع أوزارها فتنتهي. وهي لا تنتهي إلا باتفاق سياسي أيا تكن حصيلةُ المكاسب والخسائر عند مَن أبرموه. وما من حربٍ انتهت من غير اتفاق، ما خَلاَ في حالة جلاء جيوش الاحتلال عن بلدانٍ أو أراضٍ احتلتها بالقوة ولم يعترف لها أحد في العالم بشرعية احتلالها (على قلة الحالات التي حصل فيها ذلك). وتنتهي الحروب باتفاقات في الحالات الثلاث التي تسفر نتائجُها عن منتصر، ومهزوم، أو عن تكافؤٍ في القوى، والتالي، في حصيلة الربح والخسارة.
يرتضي المنتصرُ في حربٍ وقْفَ الحرب باتفاق سياسي يكرس به انتصارَهُ، ويمنحه اعترافًا من المهزوم بمشروعية أهدافه – كُلا أو بعضًا – من الحرب. وهو، في الغالب، يَقْبل مبدأ التسوية حين يتبين له أنه أحرز نجاحا في تحصيل بُغيته في إجبار خصمه على التسليم له ببعض ما تَحَصله منها. وقد يَقْبل بالتسوية إن تبين له أن تحقيق أهدافٍ أبعد قد يكلفه أكثر، وأن من المصلحة القبولُ بما أمكنَه تحصيلُه من دون دفع أثمان سياسية فادحة. وغالبًا ما يتوسل نجاحاته العسكرية ورقة سياسية مربحة في أي تفاوُضٍ على اتفاق تسوية، بما يسمح له بأن يفرض شروطه على المفاوِض المهزوم. تُصبح التسوية، في مثل هذه الحال من الاختلال الفادح في القوى بين الغالب والمغلوب، خيارًا مجزيًا للغالب وأقل كلفة؛ لأنها تسمح له بأن ينتزع على مائدة التفاوض نتائج ما حققه في الميدان العسكري.
ويَقْبل المهزومُ في حربٍ مبدأَ وقف الحرب بتسوية سياسية إن هو تبين استحالة قدرته على تحمل المزيد من أكلاف الحرب، أو إن هو ابتغى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرضٍ أو من قوًى بشرية أو مواردَ ومقدرات. وقد يقبل بها إن خُيل إليه أنه يستطيع أن ينتزع في اتفاق سياسي من الحقوق ما لم يقو على انتزاعه في المعارك العسكرية. ومع أن التسوية لا تكون مغرية للمهزوم، ولا تُطَمْئِنه على كسب أي من حقوقه، ولا يأتيها بإرادة حرة كخيار ذي عوائد مجزية، بل يُقدم عليها مضطرا ومُكرها، إلا أنها قد تبدو له، في لحظة من الانكسار، وكأنها خشبة إنقاذ تقيه من الغرق التام والفناء، معللا لجوءه إليها بالحاجة إلى التقاط الأنفاس لإعادة بناء القوى، رافضا حسبانها صك استسلام منه للغالب على الرغم مما يكون عليه حالُها من كبير إجحاف.
وقد يجنح متحاربان متكافئيْ القوى والقُدْرات للتسوية وإنهاء الحرب حين يتبينان استحالة النجاح في حسمٍ عسكري لصالح أحدهما، وبالتالي لهدف هو وقف سيل الخسائر التي لا يتبين – مع انهمارها وتراكمها- أفُقُ نصر ممكن. ومما يشجع على إمكان هذه التسوية، وعلى عدم خسارة أي فريق فيها، أن طرفيْها متكافئيْن في ميزان القوى، وأن أحدًا منهما لم يخْسَر الحرب بالمعنى الاستراتيجي. وهكذا يَسَع كلا منهما أن يبرر لجمهوره لماذا اختار التسوية ووقف الحرب، بل أن يصور للجمهور ذاك أنه منع خصمه من كسب الحرب.
من الواضح، إذن، أن التسويات ممكنة ومبررة في النماذج الثلاثة. لكنها ليست، في أي حال، سلاما؛ فلا هي سلام عند منتصرٍ يعرف أن المهزوم يتجرع مرارة الهزيمة ولا يمكنه أن يمنحه سلاما؛ ولا هي سلام عند مهزوم يَعُدها استسلاما ويمني نفسه بالثأر لهزيمته؛ ولا هي سلام عند غريميْن أُجْبِرا على وقف حرب لم يكسبها أحد منهما فيما كل يعد نفسه لجولة أخرى منها بعد أن تسعفه قواه لذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى