الرأي

في السياسة والعنف

عبدالإله بلقزيز
ربما كان من الطوبى والافتراض أن يُظَن أن التلازم بين السياسة واللاعنف على نحو ما تبدو عليه العلاقة بينهما، اليوم، في بعض الأنظمة السياسية الديمقراطية في الغرب – تَلازُمٌ ماهويّ، بحيث لا قيام للسياسة إلا بإخراجها العنف من حيزها ومجالها. وربما خيل إلى من يظن ذلك أن لزوم العنف للسياسة إنما كان وبالا على السياسة في كل تاريخها، وأن ذلك وسم الدول والسياسات في العصور القديمة والوسطى، قبل أن تنحسر ظاهراته وتتضاءل مفاعيله في امتداد قيام نموذج الدولة الوطنية الحديثة وتطوره. والظن هذا لا يصطدم بواقع وجود، وبالتالي، استمرار نماذج من أنظمة الحكم ما بَرِح العنفُ يتنزل من سياساتها منزلة أساسا، من قبيل الأنظمة الاستبدادية، والديكتاتورية، والفاشية العسكرية، والكُلاّنية (= التوتاليتارية)، من النمطين النازي والستاليني،.. ذلك أن صاحب الظن ذاك يحسب الأنظمة هذه أنظمة لا سياسية أو سابقة للنظام السياسي. هذه، مثلا، حال الأطروحة التي لم تن حنة أرندت، الفيلسوفة وعالمة السياسة، تدافع عنها مصرة على أن السياسةَ تبدأ حين ينتهي العنف، وأن من يأتي عنفا في الفعل السياسي إنما هو يمارس، في الواقع، فعلا قبل سياسي أو سابق للسياسة. إذا كان لهذه الأطروحة من فضيلة – على الرغم مما يكتنفها من طوبوية وافتراضية – فهي في أنها تنافح عن مفهوم للسياسة مثالي تكون فيه السياسة فعلا اجتماعيا نظيفا، لا يضمر أي قهر أو إيذاء أو إكراه لمن يقَع عليه. لكن هذا المفهوم المثالي للسياسة والدولة، بوصفهما مجردتين من العنف، يصطدم بحقيقتين اثنتين تَحُولان دون صيرورته إمكانا واقعيا له قابلية التحقق: أُولاهما أن مبدأ أي سياسة، وأي نظام سياسي هو المصلحة لا الأخلاق. وليس معنى ذلك أن السياسة لا أخلاق لها، أو هي ليست محكومة بمبادئ أخلاقية؛ إذ لها – هي أيضا – أخلاقياتها الخاصة ومنظومة قيم خاصة مستمدة، أساسا، من مبدأ المصلحة بما هو المبدأ التأسيسي الذي عليه مبناها. والأخلاقيات هذه ليست متماثلة، بالضرورة، مع الأخلاق والقيم الاجتماعية العامة. وعليه، حين يكون مبدأ السياسة هو المصلحة، فمن الطبيعي أن تدور السياسة مع المصلحة حيث تقتاد الثانية الأولى وتعيِّن لها الأهداف والوسائل. وهكذا قد تقتضي المصلحة أن تسلُك السياسة العنف وسيلة؛ وقد تبرر هي للسياسة توسُّل العنف لتحقيق المبتغى والمرغوب. وثانيها أن السياسة، في عمل أي سلطة ودولة، تتوسل في أدائها وسائل عدة منها وسائل القوة والعنف، جنبا إلى جنب مع وسائل الإقناع.
ما الذي يعنيه وجود أجهزة في الدولة مثل الجيش، والشرطة، والمخابرات، والسجون، والمؤسسات العقابية غير أن سياسات الدولة تحتاج إلى هذه الأدوات في عملها احتياجَها إلى البرلمان والإعلام والصحافة والهيئات الاستشارية والتعليم وسوى ذلك. إن المبدأ الحديث الذي عليه قَوامُ السياسة والدولة هو الذي يقضي بوجوب احتكار الدولة للعنف المشروع (على ما سماه به ماكس ڤيبر)، وممارسة ذلك العنف، حصريا، متى دعت الحاجة إلى ممارسته. العنف هذا يكون مشروعا لأنه عنف قانوني أو، قل لأنه عنف مرتبط بالقانون؛ حيث الهدف منه حماية القانون (بما هو تعبير عن الإرادة العامة على قولِ جان جاك روسو)، ومنع من ينتهكه من انتهاكه، وبالتالي، من وضْع نفسِه وفعْله خارج القانون والإضرار، من ثمة، بمصالح المجتمع والدولة وبالأمن الاجتماعي والسلم المدني. الحقيقتان تيْناك تقيمان دليلا على أن فرضية التجافي بين السياسة (والدولة) والعنف محض فرضية تنتمي إلى منطق «الينبغيات»، وأن العنف ما زال وربما سيظل، حتى إشعار آخر، جزءا من آلية اشتغال نظام السياسة. على أن فارقا كبيرا بين عنف وعنف ينبغي، هنا، أن نلحظه ونحسن إدراكه، إذ ما كل عنف مرفوض وممجوج بالضرورة، وما كل سياسة تتوسله سياسة غير مشروعة؛ ذلك أن العنف المقترن بالقانون غير العنف الأعمى الذي لا مشروعية قانونية له؛ العنف الناجم من حكم قضائي في محاكمة عادلة أو توفرت فيها شروط العدالة، مثلا، غير العنف المعبر عن نفسه في أفعال اعتداء أو أفعال إرهابية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى