شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

قصة أول دستور مغربي وهؤلاء دعوا للانتخابات منذ 1901

يونس جنوحي
«في سنة 1901 كانت أول دعوة من وطني مغربي لإقامة انتخابات لتعيين مجالس لمراقبة عمل الولاة. تبعتها دعوة أخرى من مشرقي أقام في المغرب، دعا بدوره إلى إحداث غرفتين للنواب المغاربة.
هذه الدعوات اعتبرت وقتها ثورية لأنها دعت صراحة إلى التخلي عن أساليب مخزنية قديمة. الهدف كان تعزيز مناعة المغرب ضد ما يقع في محيطه، مخافة أن يتحول إلى دولة مُستعمرة شأن تونس والجزائر ومصر.
كاد المغرب أن يعرف ميلاد أول دستور به، ليصبح أول دولة عربية تحظى بدستور وطني، لكن المؤسف أن تحولات السياسة لم تكن لترحم أحدا، وكان ولاء بعض الأعيان المغاربة لمصالحهم أقوى من ولائهم للبلاد. ضغطت فرنسا على طرفي الكماشة، فكانت النتيجة طي التجربة نهائيا وتوقيع معاهدة الحماية ورجوع الوطنيين المغاربة إلى الخلف تاركين البلاد تحت رحمة معاهدة الحماية لسنة 1912..
مات كل الذين حلموا بمغرب بدستور مرجعي، دون أن يروا الحلم يتحقق، واحتاج ميلاد أول دستور مغربي إلى سنوات أخرى جرى فيها ما جرى..»

1908.. السنة التي لن تنساها الديموقراطية المغربية
عندما نتحدث عن سنة 1962، فإننا بالضرورة نتحدث عن الجيل القديم من خدام المخزن. أولئك الذين فتحوا أعينهم في مغرب الولاء للأعيان الذين جمعوا ولاء الناس للدولة ومارسوا ضدهم تعسفا كبيرا سُجل في التاريخ غير الرسمي.
هؤلاء الأعيان استكثر أغلبهم على الناس توفر البلاد على دستور.
مشروع بدأ منذ 1894، ولم يصبح يُسمع صداه رسميا إلا في سنة 1901، عندما تم رفع أول مذكرة، اعتبرها المؤرخون مشروعا حقيقيا لدستور مغربي.
في سنة 1908، سوف تسجل محطة مهمة من تاريخ المغرب، إذ أن النخبة العاقلة وقتها اقترحت على السلطان أن يباشر مجموعة من الإصلاحات لكي يتجنب جدار سنة 1912. لكن إكراهات كثيرة وُضعت أمام المغرب حركتها أياد خارجية لكي تُجهض أول حلم للمثقفين المغاربة لكي يؤسسوا أول تجربة ديموقراطية مغربية دعمها القصر الملكي واحتضنها.
لم يكن في مصلحة القوى الاستعمارية أن يكون للمغاربة دستور يسمح بولادة نخبة سياسية. أرادت فرنسا التي كانت تتوفر سنة 1908 على قاعدة مهمة من المعلومات الاستخباراتية عالية المصداقية بخصوص وظيفة المخزن المغربي وطرق اشتغال الأعيان من شمال المغرب إلى جنوبه.
هذه التقارير السرية كشفت للفرنسيين بما لا يدع مجالا للشك أن دخول المغرب واستعماره لن يتم إلا بتقوية الأعيان النافذين، وفعلا أصبحوا بعد 1912 أول حليف لفرنسا، وفي 1951 كانوا وراء تقليص سلط الملك الراحل محمد الخامس وتسهيل عملية نفيه خارج المغرب.
هؤلاء الأعيان الذين كانوا يتوارثون السلطة منذ ميلاد الدولة المغربية ويراكمون ثروات ضخمة مصدرها التقوي بسلطة المخزن ومصادرة أملاك الفلاحين والبسطاء، كانوا هم الحجرة الأولى في طريق الديموقراطية المغربية.
كان جيل كامل من «الإصلاحيين» المغاربة ممن درسوا في القرويين وفي الشرق وحتى في المدارس العتيقة في سوس، ومنهم تكون جيل العلامة المختار السوسي، يستنكرون ما كان يقوم به الأعيان المغاربة من الموالين للاستعمار. ووقعوا في الأخير ضحية لسلطاتهم، إذ أن علماء مغاربة نفوا من مناطق شعبيتهم إلى مناطق أخرى لا يعرفهم فيها أحد، فقط للحد من أنشطتهم الدعوية إلى التمرد ضد فرنسا.
لو أن تجربة 1908، التي كانت مبنية على مقترحات نخبة من المغاربة الجدد الذين ملوا من سلطة المخزن وهيمنة عائلات محدودة على المناصب الكبرى، كُتب لها أن تنجح أول دستور مغربي في تاريخ المغرب. لكن التاريخ كان له رأي آخر، وكان على المغاربة أن ينتظروا نصف قرن كامل، إلى أن جاء دستور 1962، بعد أحداث طويلة جدا، لم يكتب لكل الذين ساهموا في التجربة القديمة أن يروا الحلم يتحقق. فقد مات أغلبهم في عشرينيات القرن الماضي في ظروف متفاوتة «التراجيديا» والمأساوية.
الدستور المغربي، قصة تستحق فعلا أن تُروى.

كواليس طريفة من أجواء أول دعاية للاستفتاء
تعين على عبد الهادي بوطالب سنة 1962 أن يمارس دورا إعلاميا رغم أنه كان مكلفا بالعدل. هذا الدور يتمثل في التوجه إلى الاستوديو والجلوس أمام الميكروفون في مثل هذا الوقت بالضبط من سنة 1962، لكي يبسط مشروع الدستور المغربي للمواطنين المغاربة الذين التصقت آذانهم بالمذياع في المنازل والمقاهي والدكاكين، لسماع الوزير المغربي وهو يشرح لهم مضامين أول وثيقة دستورية رسمية في انتظار الاستفتاء حولها، وتقرير إن كانت ستصبح أول دستور في المملكة أم أنها سوف تخضع لتعديلات بضغط من المعارضة.
قاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، رمز المعارضة المغربية وقتها، حملة كبيرة ضد الدستور، وكان أعوان الداخلية التي كان يقودها أحمد رضا اكديرة يطلقون النكات في الشارع عن تلك الحملات التي تدعو إلى المقاطعة، مستغلين تعاطف جل السكان مع «المخزن» الذين كانوا ينظرون إليه بكثير من التبجيل، كنتيجة للعلاقة القديمة بين المخزن والرعايا.
لم يكن المغاربة وقتها معتادون على أن يُطلب رأيهم في أمور الدولة على كل حال، وهذه هي النقطة التي لعب عليها الدعاة إلى مواجهة مطالب المعارضة المغربية.
في المكان الذي كتبت فيه مسودة الدستور بإشراف مباشر من الملك الراحل الحسن الثاني، وقعت مناوشات كثيرة بين مختلف الشخصيات التي اختارها الملك للمساهمة في المشروع.
المحجوبي أحرضان، الذي كتب في مذكراته قبل سنوات، مودعا بركة السياسة متفرغا للانقطاع التام والنهائي عن الحياة السياسية، حيث لم يعد إلى الظهور نهائيا بعد صدور تلك المذكرات، قال فيها إن مسألة دسترة اللغة الأمازيغية كانت مطروحة في مشروع دستور 1962، لكن علال الفاسي عارضها بشدة، وهي المعلومة التي تلقفها المهتمون بكثير من الدهشة.
ليس مصدر الدهشة هو امتناع علال الفاسي عن نقطة دسترة الأمازيغية واعتبارها لغة رسمية في البلاد يتحدث بها ملايين المغاربة ويعتبرونها لغتهم الأم، لكن مصدر الدهشة الحقيقي هو كيف صبر المحجوبي أحرضان، الذي اعتبره الكثيرون من رموز القضية الأمازيغية، كل هذه السنوات وكتم هذه المعلومة ولم يفرج عنها إلا بعد اعتزاله السياسة.
كانت مظاهرات المطالبة بمقاطعة الاستفتاء على الدستور، والتي اشتغلت في دجنبر 1962، تُواجه بالسخرية من الدعاة إليها ومحاولة تقزيم الدور الذي حاول اليسار أن يلعبه في تلك المرحلة المفصلية من تاريخ المغرب.
النتيجة كانت أن أول مشروع دستوري في المغرب، عرف انتقادات كبيرة في الخارج بعد تصريحات قادة اليسار خاصة عبد االله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة، الذي غادر المغرب احتجاجا. تلقف الرأي العام الدولي تصريحات قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لتتحول إلى مادة إعلامية لانتقاد الدستور المغربي الأول في تاريخ البلاد، وهو ما عجل بالتعديلات الدستورية المقبلة التي عرفها المغرب في عهد الملك الراحل الحسن الثاني دائما.
كيف بدأ المغاربة يحلمون بإقامة دستور مغربي؟ ولماذا انتظرنا طويلا لكي يولد أول دستور في البلاد رغم أن التاريخ السياسي للمغرب يعود إلى قرون خلت؟

فكرة أول دستور مغربي كانت سببها الصحافة!
في سنة 1898، وصلت إلى المغرب أولى نسخ الصحف المصرية واللبنانية. نقلها مخزنيون مغاربة كانوا في موسم الحج، وحصلوا عليها هناك لنقلها هدايا إلى القصر الملكي.
هؤلاء الذين اطلعوا هناك على حال الثقافة المصرية واللبنانية والسورية، خلصوا إلى أن تجربة مغربية يجب أن ترى النور في هذا الصدد.
عبد الحي الكتاني كان أحد هؤلاء الذين درسوا أولا في الشرق، خصوصا في جامع الأزهر، ثم كان من الذين ذهبوا إلى الحج في فترة مبكرة ليخالط هناك بعض كبار منظري الثقافة الإسلامية الذين انخرطوا في الصحافة.
يذكر الأرشيف الرسمي أن هذا الجيل عادوا من الشرق بمقترحات لإعادة نسخ بعض المراجع الشرقية في الفقه وعلوم الحديث، ونقل اجتهادات مغربية في هذا الباب إلى المشارقة لكي يطلعوا عليها بدورهم. لكن نفس الأرشيف الرسمي لم يسجل مسألة انفتاح هؤلاء على الصحافة.
لكن المراجع الأجنبية، خصوصا لأصدقاء القصر الملكي والوزراء المغاربة أمثال بن غريط، الذي كان صديقا للألمان والإنجليز والفرنسيين، حتى أن أعلام هذه الدول كانت ترفرف فوق منزله سنة 1898 إلى سنة 1907، بحكم أنه كان حاصلا على تفويض دبلوماسي رسمي للحديث باسم هذه الدول في مدينة فاس.
مع هؤلاء بدأت أولى أفكار إدخال الصحافة إلى المغرب وإصدار جريدة رسمية تنقل آراء القصر الملكي ومواقف المغرب من القضايا الدولية الراهنة.
أقبر المشروع حتى قبل أن يبدأ كما أكد ذلك الصحافي البريطاني لاورنس هاريس، الذي قال في مذكراته إنه تحدث مع المولى عبد الحفيظ بخصوص طبع صحيفة مغربية، ووجد مواطنا لبنانيا في قلب القصر الملكي زود السلطان بآلة طباعة وكان يطمح أن يكون مديرا للمشروع، لكن القصر في الأخير تخلى عن الفكرة بعد استحالة تعميم الجريدة نظرا لصعوبات محلية تتعلق بالطقس والأوضاع التي كانت متوترة للغاية.
مع فكرة الصحافة، ولدت فكرة الدستور، إذ لم تكد سنة 1900 تلقي بظلالها على المغرب حتى بدأت تتسرب مقالات صحافية قادمة من الشرق، تدعو إلى تحديث الحياة السياسية في الدول العربية والإسلامية وخلق حكومات يتزعمها مفكرون وعلماء عرب يضعون أسس دستور للنهوض بهذه الدول. وقد كان العلماء المغاربة من أنصار هذا التوجه.
النتيجة كانت أن بعض العلماء فاتحوا القصر الملكي بشكل مباشر في هذا الشأن، واقترحوا صياغة مسودة لدستور مغربي يكون هو الوثيقة التعاقدية بين القصر والشعب لخلق نوع من تحديث الحياة السياسية التي كان وقتها يسيطر عليها الأعيان النافذون الذين يتحدثون دائما باسم المخزن، وأغلبهم لم ينجحوا إلا في جمع الثروة.
حسب معطيات تاريخية وبحوث أكاديمية، فإن أقدم وثيقة تؤرخ لهذا الموضوع، هي رسالة عبد الله بن سعيد التي تعود إلى سنة 1901، والتي رفعها إلى السلطان مولاي عبد العزيز يقترح عليه فيها صياغة وثيقة دستورية للبلاد..
هل كان المخزنيون القدامى ليقبلوا ميلاد وثيقة دستورية تنظم سير الدولة وأجهزة الحكم؟ لقد اشتعلت حرب باردة بين هؤلاء العلماء ونخبة المخزنيين الذين توارث أغلبهم الوظيفة المخزنية في الوزارات والدواوين لقرون طويلة.

عبد الله بن سعيد أول من وضع تصورا لانتخابات مغربية سنة 1901!
صحيح أن الحركة الوطنية المغربية لم تولد رسميا إلا في سنة 1937 عندما اجتمع شبان وطنيون لخلق أول حزب سياسي في المغرب، وكان يتزعمهم علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني وآخرون شاركوا في ميلاد أول تمثيلية سياسية.
لكن الحقيقة أن ميلاد نخبة المنظرين الأوائل للمشروع السياسي المغربي، جاؤوا قبل هذا الحدث بثلاثين سنة.
نتحدث عن مغاربة فتحوا أعينهم في مغرب غير مستقر سياسيا وتهدده أطماع استعمارية واعتداءات عسكرية في الشمال والجنوب، تقودها دول أوربية كبرى ضد المغرب.
أول هؤلاء هو عبد الله بن سعيد. رغم أن بعض الترجيحات تفتح باب التكهن باحتمال وجود شخصية أثارت موضوع الدستور في المغرب قبله، إلا أن الوثائق تشهد أن عبد الله بن سعيد أحد أوائل من راسلوا القصر الملكي بهذا الصدد، إن لم يكن الأول من أبناء جيله على الإطلاق.
تاريخيا، حسب ما أكده الباحث المغربي الدكتور محمد نبيل مُلين في دراسته «فكرة الدستور في المغرب وثائق ونصوص 1901-2011»، فإن عبد الله بن سعيد أرسل مذكرة إلى المولى عبد العزيز سنة 1901. يقول مُلين: «تزايد صغط القوى الاستعمارية على المغرب بعد وفاة الحاجب أحمد بن موسى سنة 1900، وتسلم السلطان عبد العزيز 1894 زمام الحكم. بدأ هذا الأخير يفكر مليا في الطريقة الأنجع لإبعاد هذا الخطر المحدق. وكان مما فعله استشارة مجموعة من العلماء والأعيان الذين لم يتوان بعضهم من تحرير رسائل ومذكرات تبين مواضع الخلل وسبل إصلاحها. كان من بين هؤلاء عبد الله بن سعيد الذي رفع كتابا إلى السلطان سنة 1901. يقترح مؤلف هذه الوثيقة المكونة من مقدمة وتسعة عشر فصلا مقتضبا مجموعة من الإجراءات العملية لعقلنة مختلف مرافق «الإيالة الشريفة» وترشيد مواردها وإعادة تأهيل قادتها معتمدا أساسا على وسائل شبه تقليدية اللهم انتخاب مجالس محلية لمراقبة عمل الولاة».
هذا الرجل الذي كان في الأربعين تقريبا من عمره عندما راسل القصر الملكي بخصوص هذا التصور، لم يكن وقحا كما وصفه بعض أعيان المخزن. فقد كانت العادة في الأعراف المخزنية ألا يتجرأ من لم يكن مخزنيا على إسداء المشورة إلى السلطان ما لم يطلبها. ورغم أن عبد الله بن سعيد لم يكن موظفا مخزنيا ولا من وزراء الدولة أو مجلس مستشاري القصر، إلا أنه كان أول من بادر إلى مراسلة السلطان لكي يخبره برؤيته لإصلاح سياسي مغربي حديث.
وُلد عبد الله بن سعيد في مدينة سلا وعمل في وظائف مخزنية بحكم أن عائلته كانت من الأسر التي يشغل أفرادها وظائف في الدواوين. حتى أنه اشتغل لفترة أمينا على مرسى طنجة، قبل أن يتم إعفاءه من جميع مناصبه سنة 1905 حيث اتُهم بربط علاقات مع الألمان.
قد يكون فعلا على اتصال بدبلوماسيين ألمان. فقد كان هؤلاء يقيمون بشكل رسمي في طنجة ولا بد وأنه ربط علاقات صداقة مع مختلف التمثيليات الدبلوماسية في المغرب.
بدا وكأن عبد الله بن سعيد أصبح بعد رسالته إلى القصر الملكي ضحية مؤامرة من محيطه المخزني، حيث جرت العادة أن تكون هناك غيرة كبيرة بين مختلف موظفي المخزن. بسبب تلك التهمة عزل عبد الله بن سعيد من منصبه ونفي إلى مدينة وجدة خلال فترة الحرب العالمية الأولى، ولم يعد إلى سلا إلا في سنة 1921، حيث قضى بها آخر سنوات حياته منهكا ومريضا قبل أن يتوفى سنة 1923.
هذه المعلومات نفسها أكدها الباحث مُلين في دراسته التي تعتبر أبرز دراسة أكاديمية في تاريخ الدستور المغربي.

زنيبر دعا للمساواة في الضرائب ومراد جاء بفكرة غرفتي النواب سنة 1906!
شرع علماء من القرويين في مراسلة القصر الملكي برسائل تقترح إصلاحات سياسية. لكن جلهم لم يكونوا من منظري الحركة الوطنية الذين نظّروا لها قبل ميلادها رسميا في الثلاثينيات من القرن الماضي. بل كان بينهم أيضا مخزنيون قدامى، رغم أنهم كانوا يرتدون عمامة العلم إلا أنهم كانوا عارفين بخبايا دار المخزن، وعلى صداقات وطيدة بالأعيان والنافذين الذين كانوا يعرفون جيدا كيفية اشتغال دواليب الدولة.
هؤلاء المحسوبون على جامعة القرويين، كانوا يعادون تيار عبد الله بن سعيد، ووصلوا حد تخوينه لأن مقترحه كان يرمي إلى إنهاء هيمنة بعض المخزنيين على سلطات واسعة بفضل هامش الحرية لديهم أثناء تفويضهم لتمثيل السلطان.
خسر المغرب ثروة طائلة بسبب تفويضات المخزن لموظفيه صلاحيات واسعة ومنحهم السلطة للتقرير حتى في اتفاقيات المغرب التجارية.
اقترح بعض علماء القرويين أن يتم تجديد الثقة في بعض الأسماء المخزنية وزيادة صلاحياتهم، وتحول الأمر إلى حرب بينهم وبين «الحداثيين» بمفهوم تلك الفترة رغم أنهم كانوا محافظين جدا، وأصبح علي زنيبر العدو الأول لدعاة تكريس صلاحيات رجال المخزن.
علي زنيبر الذي ولد في مدينة سلا هو الآخر سنة 1844، وعاصر تحولات دولة المولى الحسن الأول، تأثر كثيرا بالمشرق. تقول بعض المصادر إن علي زنيبر الذي أقام في مصر فترة طويلة من حياته، كان قد توجه إليها للدراسة. لكن مصادر أخرى تؤكد أن علي زنيبر عاش في مصر لكي يمارس التجارة.
على كل، الأكيد أنه تأثر هناك بالمناخ السياسي، وعاد إلى المغرب مفعما بأفكار تقدمية مقارنة مع تفكير رجالات المخزن القدامى. عندما عاد إلى المغرب سنة 1904، لم يتردد في التعبير عن أفكاره الجديدة. عاد بثروة لابأس بها شكلت درعا وقائيا له.
«لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد والمراد بالقلب العقل النوراني المطلق. اعلم رحم الله جميعنا بما رحم به أهل الانصاف أنه لا ينبغي لعاقل أن يتحسر على ما فات مهما كانت الأهوال تتلون بالتعرفات إلا أن يصور أحوال الأزمنة الثلاث: الماضي والمستقبل والحال ويمكنه استدراك ما فيه تقصير بما يعطيه الميل الطبيعي الفطري من النفوذ الإصلاحي الجاذب بقوة الروح الذي هو أمر الله».
يبدو للوهلة الأولى أن هذا الكلام من موعظة أو خطبة جمعة، لكنه في الحقيقة جزء من الرؤية الإصلاحية. لكن في عمقها جرد علي زنيبر رؤيته الإصلاحية في نقط كثيرة أبرزها: «انتخاب لجنة من الأعيان متنوري الأمة تحت رئاسة أفضلهم لاتخاذ الوسائل الإصلاحية وتعميم أصلحها في كل مصالح الحكومة برا وبحرا جلبا للأمن والراحة وذرء لكل فساد.
إلزام كل مستخدم في مصالح الحكومة كلها بعد استيفاء الشروط بعدم خروجه عن الزي الوطني الذي يتقرر اتباعه ما دام في مأموريته المقررة له.
استعمال اللسان العربي نطقا وكتابة في جميع دواوين الحكومة برا وبحرا. مع إدخال كم لغة أجنبية لضرورة الوقت بشرط عدم انفرادها بشيء يُخرجها من سلطة الإجراءات العربية العمومية.
توحيد نظام البوليس وما كان في مصافه تحت الزي الوطني والراية الحمراء بدون رجوع في المخابرات المتعلقة بالتعليم وكافة الإجراءات لغير الحكومة المحلية.
وجوب المساواة في الجبايات والضرائب اللازم اتخاذ كل الوسائل لتعميم مضمونها على كل من بالقطر بدون استثناء فرد على الإطلاق.
استخدام كل نزيه أمين في كل المصالح بحسب الاستحقاق».
لا يتسع المجال هنا لإيراد كل الإصلاحات التي دعا إليها زنيبر لكنها كانت تدعو جميعا إلى إصلاح سياسي واقتصادي، مع الحرص على سيادة المغرب دون تأثر بالدعوات الغربية لالتحاقه تحت رايتها. إذ أن الدول الأوربية الكبرى كانت وقتها ترمي إلى سحب المغرب وإدخال القوانين الأوربية ليصبح المغرب مقاطعة تابعة لتلك الدول. وبينما كان المتعصبون يرفضون هذا الأمر بخلفية دينية، كان هؤلاء المتنورون الجدد، ينظرون إليه بمنطق سيادة الدولة والإصلاحات السياسية، وهو ما يجعلهم جديرين بلقب النواة الأولى للحركة الوطنية المغربية.
مذكرة عبد الكريم مراد التي رفعها بدوره سنة 1906، تذهب في نفس الاتجاه، وتفصل فيها في بعض الإصلاحات السياسية وطريقة انتخاب الهيئات القضائية والسياسية التي سيكون دورها مراقبة عمل أجهزة الدولة. المثير أن عبد الكريم مراد كان أول من طرح فكرة غرفتين لنواب الأمة في ذلك التاريخ. حتى أن الرجل تأثر بالتجربة اليابانية، وبدا أنه انفتح كثيرا على المستشرقين الذين كانوا يقارنون بين تجارب دول عربية وأخرى أجنبية ويخرجون بخلاصات أو توصيات لإصلاحات سياسية، جلها لم يلق أي صدى في الداخل.
حسب المعلومات التي جمعها الباحث المغربي د. مُلين فإن عبد الكريم مراد مشرقي الأصل، لكنه انتقل إلى المغرب ووصل إلى فاس سنة 1906 وقرر أن يستقر بها. والمثير أن عبد الكريم مراد سنة 1912 سوف يحزن كثيرا على واقع توقيع معاهدة الحماية مع فرنسا، وقرر أن يرحل نهائيا عن المغرب واختار التوجه إلى بلاد النيجر التي توفي بها سنة 1928.

القصة المثيرة لميلاد دستور 1962.. كتبه الحسن الثاني ومقربوه اختلفوا في الصياغة
بعد حصول المغرب على الاستقلال، جاء وفد من الطلبة المغاربة في الخارج، واستقبلهم الملك الراحل محمد الخامس في وقت مبكر من سنة 1956.
هؤلاء الطلبة استجمعوا قوتهم وقرروا مفاتحة الملك الراحل في ما يفكرون فيه هناك في «دار الطلبة». أخبروا الملك الراحل بحضور عدد من مقربيه أنهم يدعونه إلى إحداث دستور للبلاد لتأسيس مغرب ما بعد الاستقلال، ووعدهم الملك الراحل خيرا.
كان على الذين ينتظرون ميلاد مشروع دستور للمغرب الجديد، أن ينتظروا مدة أطول. ربما يكون الملك الراحل، لا أحد يعلم، قد توصل باقتراحات ما كما وقع خلال بداية القرن، لمشاريع قوانين تصاغ في الدستور المغربي، إلا أنه لم يقع أي جديد في الساحة إلا بعد وصول الملك الحسن الثاني إلى الحكم.
كان المغرب ممسوحا بمسحة حزن يحسها الجميع بسبب وفاة الملك محمد الخامس بشكل مفاجئ وفي عز مرحلة الإقلاع بالبلاد.
سنة فقط بعد جلوس الملك الحسن الثاني على العرش، حتى شرع في التخطيط لأول انتخابات في تاريخ المغرب. لكن قبلها تعين وضع دستور جديد للبلاد أولا.
عرف تاريخيا بدستور 1962، رغم أن الدعاية له لم تبدأ إلا في دجنبر من تلك السنة. وتجندت المعارضة ممثلة في اليسار، حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، للدعوة إلى مقاطعته خلال ذلك الشهر البارد. لكن الذي وقع أن الدستور اعتمد فعلا دستورا رسميا للمملكة رغم مقاطعة المعارضة له، واختيارها «لا» في الاستفتاء الوطني، علما أن بعض القيادات داخل الحزب دعت رسميا إلى مقاطعة الاستفتاء من أصله بين اختار آخرون أن يكون رد المعارضة هو التصويت بـ«لا».
ورغم الملاحظات التي كانت لدى المعارضة، إلا أن لحظات إخراج أول دستور مغربي للمملكة كانت فعلا لا تُنسى، وعلى ضوئه نظمت أولى الانتخابات الجماعية في المغرب. وجهت أصابع الاتهام لجهات معينة في الدولة، خصوصا الداخلية التي كان يقودها صديق الملك رضا اكديرة، بتزوير تلك الانتخابات، إلا أن مضامين الدستور وقتها، مقارنة مع دساتير دول أخرى، كانت تعد بعديد من الإصلاحات السياسية حسب رؤية الملك الراحل ومحيطه.
هذا المحيط كان يتكون من ثقات عرفوا الملك عن قرب، أولهم علال الفاسي واكديرة والمحجوبي أحرضان والدكتور الخطيب، بالإضافة إلى أستاذه عبد الهادي بوطالب، وتقول بعض المصادر إن محمد بن الحسن الوزاني، زعيم حزب الشورى والاستقلال، كان أيضا من بين من أخذ الملك الراحل رأيهم في الدستور وطلب منهم اقتراحات، لكن كلمة الرجل أو رأيه على الأصح، حال بينه وبين الملك حواجز سياسية كثيرة بسبب هيمنة بعض الأطراف على المشهد السياسي، وهو ما يفسر انسحاب الوزاني إلى الخلف، رغم أنه كان من أبرز من نظروا للتجربة المغربية الديموقراطية، ومات تاركا خلفه إرثا سياسيا كبيرا في الكتب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى