شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

كتاب مغاربة ما وراء البحار

إعداد وتقديم: سعيد الباز

قد لا تكون اللغة غنيمة حرب على حدّ قول كاتب ياسين، قد تأتي اللغة ضمن مسار غامض فيه الكثير من الصدف غير القابلة للتفسير. إنّ ظاهرة الكتاب المغاربة الذين يكتبون بلغات العالم تتسع يوما بعد يوم وتتسع رقعتها اللغوية أكثر فأكثر. أجل إنّ للهجرة دورا أساسيا في نشأتها ورفدها بالزخم الضروري لتطورها، لكن من المؤكد أنّها غير قابلة للتعميم ومحكومة بالتجربة الشخصية لكلّ كاتب على حدة، فمنها ما هو اختياري كما هو الأمر مع ليلى العلمي أو مصطفى فهمي ومحمد حمودان… ومنها ما فرضته ظروف النشأة وحياة المهجر مثل رشيدة لمرابط وغيرها من الجيل الجديد في بلجيكا وهولندا.

ليلى العلمي.. ما رواه المغربي
حكاية لافلوريدة
في عام أربعة وثلاثين وتسعمائة بعد هجرة سيد المرسلين، وأنا أعدّ من سنّي ثلاثين عاما، ومن أسري خمسة، ألفيت نفسي على حرف الأرض التي نعرفها، في مسيرة طويلة وراء سنيور دورانتس، في أرض خضرة نضرة يسمّيها هو وقومه القشتاليون لافلوريدة. ولا علم عندي بما يسميها قومي في أزمور، فما كان منادو المدينة يرفعون عقائرهم بشيء إلّا أخبار المجاعة والزلازل والثورات جنوب بلاد البربر، ولا علم لديهم عن هذه البلاد. لكن لعلمي بأعراف التسمية لدينا نحن العرب، فإني أجزم أننا كنّا سنسميها بلاد الهنود، على أنّ الهنود أنفسهم ولابدّ يسمّونها كذلك اسما بلسانهم، وإن لم يعرفه سنيور دوارنتس ولا غيره ممّن في حملتنا. وقد ذكر لي سنيور دورانتس أنّ لافلوريدة جزيرة كبيرة، أكبر من قشتالة نفسها، وأنّها تمتدّ من الساحل الذي أرسينا به إلى البحر الكاهل (المحيط الهادئ)، فمن المحيط إلى المحيط على حدّ زعمه. وكلّ هذه الأرض سيحكمها بانفيلو دي نارفاييز قائد الأسطول الحربي، وإن كنت في قرارة نفسي، ودون أن ينطق لساني بهذا الرأي، أشكّ أو أتعجّب أن يسلّم ملك إسبانيا حكم أرض أكبر من بلاده لأحدٍ من رعيه.
كنّا في قافلة نقصد في مسيرنا مملكة الأبلاتشي في الشمال، وهي التي سمع عنها القائد سنيور نارفاييز من هنود أسرهم بعد أن أرست مراكب الأسطول على ساحل لافلوريدة. ورغم أنّي لم آت إلى هنا بمحض إرادتي فإني ارتحت أيّما ارتياح في اللحظة التي لمست قدماي البرّ، فقد كان في الرحلة التي قطعنا بها بحر الظلمات من المنغّصات والمكدّرات ما لا يعلمه إلّا من أسلم نفسه لسطوة البحر. فخبز الرحلة يابس، وشرابها نجس، ومظاهرها دنسة، ومع تقارب الناس في أماكن ضيقة أمدا ليس قصيرا تسوء أخلاقهم وتقبح أمزجتهم وتكثر شكاياتهم. غير أنّ أسوأ ما في الرحلة هي الرائحة، وهي رائحة زنخ أجساد الرجال إذا ما جفاها الماء مدة، واختلط بها دخان المجامر وروث الخيول وزبل الدجاج التي التصقت بحيطان الزرائب مع تنظيفها يوما بعد يوم. وإنّها لرائحة تزكم أنف المرء حالما ينزل إلى المقصورات الدنيا.
كما أن فضولي مستثار حول هذه البلاد إثر ما سمعته، أو ما تناهى إلى سمعي، من سيدي وأصحابه من أحاديث كثيرة عن الهنود، ومنها دعواهم أنّهم ذوو جلد أحمر وعيون بلا جفون، وأنّهم كفّار يدفعون البشر قرابين لآلهتهم، وأنّهم يجرعون مشارب عجيبة يصنعونها فتكشف لهم حجب الغيب، وأنّهم يسيرون هم ونساؤهم عراة لا يكسو عوراتهم شيء، وهذا ما استنكرته واستعصى عليّ تصديقه، فصرفته على أنّه من باب المبالغة والتهويل. وهذه البلاد مع ذلك أسرت خيالي حتّى لم تعد مجرّد مقصدٍ للسفر، بل أرض فيها العجائب والغرائب التي لا يستحضرها إلّا عقل أبرع الرواة في أسواق البربر. وكذا هو أثر رحلة المرء لمّا يقطع عباب بحر الظلمات، وإن كان مرغما عليها دون خيار ولا رغبة. فإنّه يهوي في مغبة مطامح الآخرين ومطامعهم إلى غير رجعة.

محمد حمودان.. الحلم الفرنسي
ليلة وشك الرحيل
… انتفضت وقد أوشك المؤذن على المناداة إلى الصلاة. اعتقدت في البداية -بما أنّي قد كنت تحت وطأة كابوس فظيع، وأنّ هذياناتي المحمومة على الخصوص قد بلغت درجة مفرطة في الحدّة صرت اليوم فقط أدرك مداها– أنّ الأمر يتعلّق بفتنة لاهوتيين عفنين؟؟
كنت أتخيّل على التوّ حشدا من ملتحين متّشحين بزيّ أفغاني، قمصانٍ وسراويل متشدّدة وأحذية رياضية موسومة بعلامة «نايك»، يمشّطون الأزقّة، ومدجّجين بالأسلحة وبالعصيّ الحديدية وبالسيوف مختلفة الأحجام، يقودهم رجل ثخين، قوي البنية طويل القامة، ضخم وبلحية كثة حمراء من فرط تخضيبها بالحناء، زاعقا وبحماس في مكبّر الصوت «الله أكبر»، يدبّج خطبته كي يؤثّر في جموع المتردّدين أو يستميل العصاة، والأدهى أنّي كنت أرى من خلال سراب شبيه بليلة متعذّر سبر أغوارها، انبعاث كتيبة شبه عسكرية معلنة الجهاد ومؤلّفة بما يقرب من ألف رجل ملتحٍ يتمنطق باللباس العسكري الخاصّ بالتمويه، يمتطون سيارات الدفع الرباعي المجهّزة بالبنادق الرشاشة ومدافع إطلاق القذائف، وقد شرعوا أثناءها في اقتحام المدينة المصابة بداء النسيان، بالصراخ المتعالية حدّته بفضل مكبرات الصوت المثبتة أعلى السيارات.
«الله أكبر» عرقي ينْضَحُ منّي باردا، ويقشعّر بدني، ويمسك الهلع بتلابيبي تماما من أعماق أحشائي، ذلك إذا ما كان هذا السيناريو الذي يعتمل بداخل رأسي، حيث تتوالى الأحداث بسرعة البرق مثل تدفق شلال من مشاهد خاطفة قد صوّرت بلقطة ترافلينغ لولبية، لكانت قد جرت في الواقع، ولكنت يقينا سأغدو معدودا من بين أولى الضحايا التي ستسفر عنها حملة اضطهاد لا مفرّ منها من «تعقّب الساحرات»، ودون شكّ سيتمّ تسليمي إلى عقاب عموم الشعب ودون قانون ستسْحلُني عامّة الناس. ألمْ أكن قد ألقيت، بدعوة من كلية الآداب، سلسلة من المحاضرات حول المركيز دو ساد، عمله الأدبي وقضاياه السياسية، محاضرات أعيد نشرها على شكل مقالات مترجمة إلى العربية في حلقات بإحدى اليوميات، وأنّ أحد الأصوات البارزة في الدفاع عن النظام الأخلاقي والديني قد سارعت في الحكم على تلك المقالات بأنّها «كريهة» و«تخريبية»، وأنّي منذ ذلك الحين وأنا أقوم بالمرافعة دفاعا عن «إباحة الشهوات»… و«الفظاظة» و«الانحلال». وأنّني بالتالي مشارك، من وجهة نظرهم، في الحملة الهجومية الشيطانية والواسعة التي تستهدف إفساد روح الشعب.

رشيدة لمرابط: رسالة إلى شاب من حيّنا بالضواحي
رشيدة المرابط، كاتبة وروائية ومحامية ولدت في المغرب سنة 1970، وانتقلت صحبة أسرتها إلى بلجيكا سنة 1973. اعتبرت ضمن الجيل الجديد من الكتاب البلجيكيين الذين يكتبون باللغة الفلمانية، نالت أعماله الروائية نجاحا كبيرا خاصة: «مرسيديس 207» و»أرض النساء» و»أبناء الرب».

عزيزي
… نحن لا نعرف حتى بعضنا البعض، على الأقل شخصيا. أجل، نحن نقطن الحي نفسه. نستقل أحيانا الترامواي نفسه، ولذا نشترك في عدة تفاصيل صغيرة. لا يسلم الواحد منّا على الآخر رغم أنّ والدتينا تذهبان معا يوم الجمعة إلى المسجد، وتصادف الواحدة منهما الأخرى أيام السبت في السوق الأسبوعي وهما تبحثان عن طماطم متماسكة، ليمون لذيذ وقيل وقال محمّص بفعل طراوته، وبالمناسبة، كيف حال أمك؟ بلغني أنّ إصابتها بمرض السكري تعم حياتها يوما بعد يوم. حسب والدتي السبب يكمن أساسا في الإجهاد، وهي تعرف جيّدا عمّ تتحدث، إذ ليس هناك أعمق خبرة من والدتي في مجال الإجهاد بسبب تجاربها معه. لكنني لا أريد الكلام عنهما، بل عنك. أرغب في طرح سؤال عليك، سؤال شخصي… ثق بي سؤالي استعاري فقط. سأطرح سؤالي ببساطة… واعذرني إن أسست باقترافي ذنبا إزاءك. أجل، ما أسائل نفسي حوله منذ مدة طويلة. السؤال الذي يؤرقني منذ وقت بعيد هو معرفة هل أنت فعلا من صلب والدك. ذلك أنني لم أعثر على كثير من مواصفاته لديك. والدك يمتلك شيئا ما. وهو في ذلك مثله مثل أبي بالمناسبة. كيف أشرح لك الأمر؟ كانا رائعين. أليس كذلك؟ على الأقل في البداية كيفما كان الحال. ألا تظنهما كانا رائدين مغامرين؟ ما رأيك في أبيك؟ ما رأيك فيه. أستشعر عدم معرفتك به. نعم، أنت تشعر باحترام مقدس له. إنّها التقاليد فحسب. أليس كذلك؟ حتى الأبناء الأكثر إثارة للرثاء يكنّون لآبائهم احتراما جمّا. لا مجال للجدل حول هذا المعطى إطلاقا. سألت نفسي إن كنت ستجرؤ؟ هل في استطاعتك مغادرة مكان تعرفه عن ظهر قلب للذهاب إلى آخر، حيث يعجز الناس عن نطق اسمك بشكل صحيح؟ حيث يتداولون لغة لا أساس لها ولا معنى؟
بالتأكيد لا. لأنني أخال الشعلة التي كانت تحرك والدك قد انطفأت لديك. هل تعرف الفكرة التي كانت تحمس والدك ووالدي؟… كانت تحركهما فكرة مفادها أن احتمال حياة أكثر كمالا أمر مرجح. أن بمقدورهما بفضل أياديهما العارية جعلها تأخذ منحى آخر. وأنت ما فكرتك؟ ما مشروعك؟ لنكن صريحين مع بعضنا البعض ولو مرة واحدة. يجب ألا نحول الأمر إلى قضية سياسية. السياسة تفسد كل حوار صريح. أتدري أنّ أبوينا كانا هما كذلك على بينة من هذا… كانا شابين في تلك السنة الرهيبة. أما أنت وأنا، فلم نكن حتى مجرد فكرة بعد. آنذاك، لم يكن يوجد مكان لك ولي. فهما أيضا كانا طفلين. كانا شابين يرصدان الأفق بحثا عن فرص ووسائل لبعث الحياة في فكرتهما. أظن بصدق أنّهما تسلحا بالجرأة عقب تلك السنة لإعداد خطة. ما تعتقدهما فكّرا فيه أيامها وهما يهزّان كتفيهما؟… هل أنت مثلهما حين تهزّ كتفيك اليوم في مواجهة الحياة؟

مصطفى فهمي.. درس روزاليند
مصطفى فهمي، شاعر مغربي اشتهر بديوانه المعروف «آخر العنادل» في المغرب خلال سنوات الثمانينيات، درس الأدب الإنجليزي في المغرب قبل أن ينتقل إلى كندا حيث استكمل دراسته العليا. يعتبر مصطفى فهمي أحد كبار المتخصصين الدوليين في المسرحي شكسبير. كتب أعماله ذات الصبغة الأكاديمية باللغة الإنجليزية، وفي المدة الأخيرة أصدر كتابه «درس روزاليند» باللغة الفرنسية، سكب فيه صفوة تأملاته الفكرية والفلسفية وخلق حدثا أدبيا كبيرا في كندا وفرنسا.
ثمّة استراتيجية للصعود إلى الأعلى وأخرى للمكوث في الأعلى. من يختار القفز للوصول إلى القمة من الأفضل له أن يحاول شيئا آخر للبقاء فيها. لأنه إذا واصل القفز سيسقط، أو أنكى من ذلك سيبدو مجنونا.
ص 69
إذا ما أخبرك أحد بأنك قد شتمته أو آذيته، فلا تقل له على الخصوص، بأنّه يبالغ. الشخص الذي يتلقى الضربة وحده القادر على قياس قوتها.
ص 64
لا أحد يفكّر، هذه الأيام، في لزوم الصمت. رغم أن الحكمة في الصمت. في الكثير من الأحيان، تأثير كلمة ما يتوقف على جودة الصمت المحيط بها. بإمكان المرء أن يشترك مع أيّ كان كلمات، حتّى مع عدو. الصمت في المقابل لا نشترك فيه إلّا مع من نحبهم.
ص 13
يتيح لنا الأدب الكشف على ما لا نجرؤ التعبير عنه في الحياة اليومية. إنّه منفذنا الوحيد للوصول إلى الحقيقة.
ص 130
عيون الآخرين
عندما لا أفهم شخصا ما، فإني أحاول أن أنظر بعيونه، ليس لأني أتبنى نظرته (فلديّ نظرتي). ولكن لأرى ما يراه: إنّها طريقة تجعل الحوار ممكنا.
ص 36
ما نراه في أعين الآخرين ليس سوى انعكاس لنورنا أو ظلامنا.
ص 77
ومع ذلك إذا كانت الهدايا كلّها ديونا مقنّعة ينبغي سدادها عاجلا أو آجلا. فماذا عن هدايا الماضي، موروثنا الأدبي والفني والمعماري على سبيل المثال؟ وماذا عن إرثنا الطبيعي: غاباتنا وأنهارنا وبحيراتنا؟ ليس ثمة في الحقيقة سوى طريقة واحدة لردّ هدية الماضي: هي نقلها في حالة جيدة إلى الأجيال المقبلة. إنّها ليست نوعا من إبداء كرمنا اتّجاه المستقبل، إنّها بالأحرى واجب أخلاقي اتّجاه الماضي.
ص 31
كلّ حبٍّ أبديّ في نواياه. وحده من يملك الخيال بمقدوره أن يحوّل حبّه إلى شذرات صغيرة من الأبدية.
ص 52
الأناقة
التوقّع بأنّ الآخرين سيتأثرون بأناقتنا أو حركاتنا أمر خاطئ. الأناقة لغة: لفهمها ينبغي التحدث بها قليلا.
ترجمة: سعيد الباز
استراحة
كيف يستريح الغريب؟
كيف ينعم، كغيره، بتريّث الأشفاق
وتألّق الشراب في الشرفات
ورائحة المساء؟
كيف ينام
وخلف سكون الليل نساء
ومدن صاخبة
وبيوت لا يدري إلى أيّها يعود؟
كيف يستريح الغريب؟
كيف ينعم، كغيره، بحلول الأضواء
وتألّق الكلام في الحلقات
ورعشة اللقاء؟
كيف ينام
وبين ركبة يتوسّدها
وركبة يشتهيها
تركض عشرات الأيائل…؟

الحريزيّ
أحيانا
يستقطر الضياء سنيّا
وينشر في الشرفة عشبا يمُور
عند اختلاج الصبح
وعند الأصيل
أحيانا
يلوح في انبساط كفّيه دبيب
ويعُنّ حوَرٌ عتيق
لكنّه
هو الحريزيّ
في هذا الشمال المكفّن بالثلج
يحتار، يا عمّة، يحتار:
بأيّ الجنادب يرمي سكون الفضاء؟
وبأيّ القطرات
أيّ الورقات
يحقن الليلَ القتيل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى