الرئيسية

كرونولوجيا بناء الكون

بقلم: خالص جلبي
يعتبر ما طرحه الباليونتولوجي الأمريكي (ستيفان جيجود GOULD) في السوق العلمية عن بناء الكون مثيرا للجدل، فهو يميل مع أخبار حجر المريخ، ومطابقته لمعلومات المركبة فايكنج بأنه قطعا من حجارة المريخ، ومطابقته مع الأبحاث التي تقدم بها العالم الأمريكي (ويليام شوبف) عن الصخور الرسوبية التي اجتمع بها في الشواطئ الشمالية الغربية من أستراليا عام 1994 م، عن التكونات الرسوبية من الكائنات الحية البدئية ومطابقتها للبصمات، التي وجدت على حجر المريخ بتكبير عشرة آلاف مرة تحت أشعة مجاهر إلكترونية عملاقة. من كل هذا يميل إلى فكرة البرمجة في الحياة فهي لا يمكن أن تحدث هكذا صدفة، فهو أمر يدعو إلى الضحك كما يقول العالم البريطاني الفيزيائي الفلكي (سير فريد هويل):
(إن تصورنا للحياة بإنتاج الصدفة، مثل طيارة عملاقة خرت من السماء، فتخطفتها الأقدار وهوت بها الريح في مكان سحيق، فأصبحت حطاما تذروه الرياح، وفي ومضة عين ومع اشتداد الرياح فوقها، عادت فتركبت واستوت على سوقها تقلع إلى الأعالي مع الموسيقى الهادئة!)
الفكرة الثانية التي يشير إليها (جود) وهي من الكشوفات الجديدة في علم الأرض، الكشف عن رحلة مذهلة يأخذ سنا برقها بالأبصار، التي أخذت اسم الانفجار (البيولوجي) العظيم ـ انتبه إلى التفريق بين الكوسمولوجي والبيولوجي ـ عن رحلة بدأت قبل 3.8 مليارات سنة تدشن الخلية الأولى بدون نواة، ثم خلية بنواة، وتستمر الرحلة في ما يشبه الاستعصاء، ليحدث تحول نوعي، في ما يشبه لمح البصر أو هو أقرب، فتتدفق الحياة بكل زخم في تنوع مذهل في مدى خمسة ملايين من السنين فقط .
إن (ستيفان جود) يذهب الى أن الحياة في الكون مبرمجة، سواء كانت على ظهر الأرض أو في مكان آخر، فيجب أن تمضي في التشكل، ولكن طرح (جاك مونود) عن دور الحظ في هذا يذكرنا بقصتين:
الأولى: قصة الرجل الذي أراد العودة إلى الماضي، كما في فيلم (الركض ضد اتجاه الزمن RUNNING AGAINST THE TIME) فأراد تغيير أحداث مقتل الرئيس الأمريكي كينيدي، حتى لا تنفجر حرب فيتنام، كي ينجو أخوه من الموت فيها. والذي حدث أن عودته إلى الوراء لم تزد الأشياء إلا تعقيدا، حتى اضطر العالم مخترع الجهاز إلى أن يرجع بنفسه لينتشله من جبروت الأحداث وتدافعها القسري، وما ربح من كل الأحداث كان أمرا جانبيا فقط، فنجا أخوه من الموت في أحداث حرب فيتنام، عندما لم يتطوع بسبب مرض أخيه الصغير (هو من تجرب عليه عملية القذف إلى الماضي) الذي أحدثه الفيلم على نحو رجعي!.
يرى العالم (جود) أن قدر الحياة مرسوم، وسيمضي في مفاصل الكون، قد تلعب الحظوظ دورا جانبيا يزيد أو ينقص، ولكن البرمجة ماضية بكل زخم وجبروت وعنفوان، وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذي كفروا. أو قوله (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً؟).
والقصة الثانية من الحديث الذي رواه (جلال الدين الرومي) في حديث امرأة مع حبات الحمص التي كانت تسلقها، فهي تحاورها عن الرحلة الطويلة من طاقة في الكون، إلى كربون في الجو، إلى نبات أخضر تأكله الحيوانات، إلى بروتينات تمضغها حيوانات أخرى، إلى تحولها إلى حبات حمص، والرحلة لم تنته، لأنها بعد دخولها في جسم الإنسان سوف تتابع رحلتها إلى مستقر لها.
هذه المناقشة التي اندلعت مرة أخرى حول نشأة الكون حركها هذه المرة (حجر المريخ)، ولن يكون جوابها أيضا من المريخ، بل الكشف عن حياة خارج النظام الشمسي. ولكن ما هي احتمالات وجود حياة خارج النظام الشمسي الذي نعيش فيه؟ وقبل ذلك كيف يرسم العلم اليوم سيناريو تشكل الحياة على ظهر الأرض؟ لنسمع إلى التحليلين ولنتأمل الرؤية مرة إلى الخلف ومرة إلى الأمام وفي كلاهما متعة!

كرونولوجيا الكون
لو أردنا استعراض منظر كوني أخاذ، على شكل فيلم كوني، يضغط تاريخ الأرض والحياة مضغوطا في فترة أربع وعشرين ساعة؛ الذي مر عندما بدأت شاشة الوجود بالاستعراض منذ4.6 مليارات سنة؛ فسوف نرى المسلسل على شكل عشر مراحل:
1ـ بعد ظهور الكرة الأرضية لم تكن هناك حياة على الإطلاق، ليس هناك إلا الصحراء عبر الأفق. لا يوجد أي أثر لأي نبتة صغيرة أو عشب أخضر أو قطرة ماء. ما يسيطر على ظهر الأرض هو الجفاف والحر الذي لا يناسب أي لون من الحياة النباتية أو الحيوانية. عواصف مزمجرة من غازات الهيدروجين والهليوم تعبث بالمناخ. والرعد يفرغ شحنته الكهربية في صورة برق وهاج ساطع. الأرض تهتز وتترنح وتبصق الحمم البركانية محولة ظهر الأرض إلى جحيم يتلظى. ثم جمدت القشرة الأرضية أخيرا قبل 4.5 مليارات سنة وتشكلت الصخور ولم تبدأ الحياة بعد.
2ـ بقيت الحالة هكذا لمدة 800 ثمانمائة مليون سنة بدون نفس وأثر للحياة. لم يوجد الأكسجين بعد. وعند الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقة صباحا، أي قبل حوالي أربعة مليارات سنة، بدأ تشكل الماء وامتلأت البحار بالماء الدافئ، وبدأ تشكل الجزيئات العضوية الكبيرة مثل السكر والأحماض الأمينية.
3ـ في الساعة الخامسة وعشرين دقيقة صباحا بدأ ظهور الخلايا الأولية على سواحل أستراليا، وبدأ تشكل الجينات الأولية (الكروموسومات التي تحوي الأحماض النووية). كان هذا قبل 3.5 مليارات سنة.
4 ـ بدأت رحلة الخلية بدون نواة واستمرت فترة طويلة، حتى استقر وضع الحمض النووي، وأخذ هذا التوجه حوالي مليارين من السنوات. قبل أن تتشكل الخلية ذات النواة، التي هي وحدة الحياة الأساسية. عند الساعة الثامنة مساء وعشر دقائق من هذا التقويم، بدأ تشكل الخلايا الوحيدة (بعد غروب شمس هذا اليوم العجيب بفترة طويلة، فانقضى النهار وخيم الليل، ولا علامات على ظهور الحياة الراقية بعد، على شكل فيلم ممل لا يبعث على التسلية!
5 ـ عند الساعة التاسعة مساء (الساعة 21)، أي بعد مرور قرابة 3.6 مليارات سنة من الرحلة، تبدأ الرخويات واللافقريات في الظهور في الماء، أي قبل حوالي 720 مليون سنة.
6ـ عند الساعة التاسعة مساء وخمس وثلاثين دقيقة (الساعة 21.35)، أي بعد مرور حوالي أربعة مليارات سنة من تشكل الأرض تبدأ الحياة بالانفجار في تنوع محير، وهو ما كشفت عنه البحوث الباليونتولوجية حديثا.
7ـ عند الساعة التاسعة وسبع وخمسين دقيقة (الساع 21.57) مساء، بعد مرور 4.1 مليارات سنة على بدء تشكل الأرض؛ ظهرت النباتات والأشجار إلى الوجود وما زال الوقت طويلا بعد أمام ظهور الإنسان.
8ـ وقبل أن تختم الساعة الحادية عشرة ليلا (الساعة 22.48) ظهرت الديناصورات العملاقة، تدب على الأرض بأطنانها الثقيلة وأدمغتها القاصرة، كان ذلك قبل 225 مليون سنة من الآن، ولكنها اختفت من وجه الأرض تماما وبالكامل بلغز لم يتم التأكد منه حتى الآن قبل 65 مليون سنة، وتشير بعض النظريات إلى اصطدام الأرض بمذنب كبير غيَّر الظروف الحياتية على الأرض فقضى على الديناصورات، ومن هنا نفهم سخافة الأفلام وخطأها العلمي عندما تظهر الإنسان مع الديناصورات في وقت زمني واحد؛ فالإنسان لم يعاصر الديناصورات نهائيا، وعندما ظهر الإنسان على ظهر البسيطة لم يكن هناك أثر لتلك الأوابد.
9ـ ويبدأ العصر الحجري وبدايات الإنسان الثقافية قبل أن يختم الوقت بدقيقة واحدة فقط، وأما النبوات الكبرى فقد ظهرت بدورها خلال ما تبقى من هذه الدقيقة من هذا التقويم، ويظهر الإنسان العاقل في الثانية الأخيرة من هذا المسلسل المثير.
10ـ إن القصة لم تنته بعد، فأمام الإنسان رحلة (5.5) مليارات سنة أخرى، يعمر فيها الأرض ويبدأ فيها التاريخ الفعلي للإنسان، فالإنسان حتى كتابة هذه السطور لما يبدأ عهد الرشد بعد، فهو أقرب لظن الملائكة فيه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء (في آخر التقديرات ربما كان الرقم في حدود 500 مليون سنة، وهو وقت أكثر من كاف للحياة).

هل نحن الوحيدون في هذا الكون الهائل؟
إذا مضينا مع تحليلات الفلكي البريطاني (دافيد هيوجز) فإن احتمالات وجود الحياة في الكواكب تصل إلى تواجدها في أربعة مليارات كوكب في مجرتنا لوحدها! بل إن الفلكي (بيك ويذ BECHWITH) من معهد ماكس بلانك في هايدلبرغ يذهب إلى وجودها في كل واحد من نظامين شمسيين، أما (إسحاق عظيموف ـ ISAAC ASIMOV) فيرى أن الحضارة على كوكب ما تأخذ في المتوسط 600 ألف سنة، وفي توقعاته أن هناك (270) حضارة على ظهر كواكب مختلفة وصلت إلى مرحلة اختراع الكتابة، و20 منها فقط وصلت إلى مرحلة العلم المعاصر، و10 منها وصلت إلى المرحلة الأخيرة من الثورة الصناعية، وفي النهاية هناك فقط حضارتان وصلتا مرحلة الانفجار النووي أو وتجاوزاها وكلاهما يقف أمام الفناء والانتحار الذاتي! ولكن ماذا نقول أمام الاحتمال الثاني في حال أننا الوحيدون في هذا الوجود؟ إن هذه الفكرة تشع ظلا هائلا: أن جنسنا هو بذرة العالم وأمامه اختراق المجرة والامتداد في الكون، وأن ما ينتظره لم يخطر على قلب بشر، وأن فردا واحدا من جنسنا أغلى من كل شيء يمكن تصوره، بل يساوي الوجود برمته، لأن فردا واحدا من الذين يُقتلون وتمتلئ جثثهم في الأرض، كما حدث في مذابح رواندا، أو تتناثر أشلاؤهم من القنابل، أو تقطع لحومهم في كل مكان، كما رأينا في مذابح الشيشان والبوسنة وتفجيرات العراق وسوريا ومذابح الجزائر وقطع الرؤوس بالفؤوس والسواطير، يمكن أن يكون مشروع تكاثر إنساني في كامل المجرة.
يبقى الإنسان أفضل تجليات الوجود الذي نعرفه حتى الآن وقد يكون متفردا، على أي حال هو أروع المخلوقات وأتعسها في الوقت نفسه. هو مستودع الحكمة وبالوعة الضلال. فيه سر جدل الوجود، ولكن يمكن أن تسحقه ذرة غبار ونفثة بخار أو وخزة فيروس تافه (كما رأينا في فيروس الكورونا الذي أرعب العالم في ربيع 2020م )
وإذا كانت شمسنا ستعيش وسنعيش معها خمسة مليارات سنة أخرى (أو 500 مليون)، فإن هذا يخلع ظلا، أن التاريخ الفعلي للإنسان لم يبدأ بعد، وما ينتظر الإنسان من تحقيق كمالات لا حد لها، في ضوء تاريخ قصير للغاية، فكل عمر الحضارة لا يزيد عن ستة آلاف سنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى