شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

كنت أستاذا في العراق

 

 

بقلم: خالص جلبي

حين يطول أمد الديكتاتورية في بلد تزهق النفوس وتموت الإرادات وتهاجر الكفاءات؛ فإذا حدث أن تم تدمير الديكتاتورية من خارج البلد على يد قوى أجنبية، دلف البلد إلى الفوضى، فلا تبق دولة ومواطن، بل عصابات من القتلة تتهارش مثل ضباع البرية، فيترحم الناس على الديكتاتورية! وهذا من أعجب المقادير لأهل العبودية.

وبنو إسرائيل حين خرجوا من عبودية فرعون، اشتاقوا لرائحة البصل والثوم؛ فقالوا يا موسى لن نصبر على طعام واحد؛ فادعو لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها!

قال: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟

لذا لم يكن أمام موسى إلا أن يقول لهم: اهبطوا إلى أرض العبودية؛ ففيها ما أردتم من البصل والثوم، مع العرق والتعب والرق والسوط!

وكانوا في الصحراء يتمتعون بالحرية، مظللين بالغمام، يأتيهم طعام صحي من كربوهيدرات كافية وبروتين (وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى). 

وعلة هذا هو أن مسبب التحول عنصر خارجي، فهو يخضع لقانون التغيير الخارجي غير الجذري والأساسي والصحيح، بل حسب الظروف، ولذا فشعوب من هذا النوع تصبح بضائع للتداول في يد القوى الخارجية، ذلك أنها تدين بخلاصها ليس للجهد الذاتي، بل بعامل خارجي تزول آثاره مع زوال وجوده.

ومنه سقوط مصير الشرق الأوسط قديما بيد روما، وهو أيضا سر قيام إسرائيل، ذلك أن الأحداث تصنع في معامل خارجية، وليست عندنا قدرة تقرير مصيرنا بكل أسف!

ونعلم في الطب أن الصادات الحيوية التي تعطى للمريض من الخارج، ليست هي التي تشفي؛ بل الجهاز المناعي، وتعمل الصادات الحيوية كقوى مساندة، ولكن العمل الجوهري في الصحة والمرض هو الجهاز المناعي. ويظن الناس جهلا أن الصاد الحيوي هو الذي شفى.

وهكذا فبعد أن يؤدي الصاد الحيوي دوره في المساندة، يجب التوقف عن أخذه بعد فترة قصيرة، بسبب الآثار الجانبية الضارة، إلا في مرض السل والتهاب الكبد، وهما أيضا ليسا بدون آثار جانبية ضارة؛ فالستربتومايسين ثبت أنه يقود للطرش (الصمم) مع التناول المديد، وهو مع الباس (صاد حيوي مختلف) وأيزونيازيد، مركب ثلاثي لعلاج السل (تبدل حاليا بأفضل)، بل إن فلسفة اتخاذ الدواء تقول إن الإسراف في الاعتياد على استعمال الصادات الحيوية، يقود إلى خفة مفعوله أو زواله، وتنشأ فرق جرثومية معندة على العلاج، وكانت من قبل تستجيب، كما في الجراثيم العنقودية المذهبة المقاومة لميتسيللين ويرمز لها بـ(MRSA)، وهي جراثيم واجهناها وكانت مخيفة. وما يصدق في الطب يصدق في علم الاجتماع، فإذا لم يبق جهاز مناعي لم ينفع دواء، كما في مرض الإيدز.

وهذا التحليل ينفع في استعراض بلاد مثل الصومال والعراق والجزائر، وانتهاء بسوريا والسودان، فأما الأولى فخرجت من نفق الاستبداد إلى فضاء الفوضى؛ فلم تبق دولة، بل عصابات تتقاتل، وهي من مؤشرات موت الأمم. وبين يدي وثيقة تنقل صورة من الوضع الداخلي في العراق، لأستاذ جامعي يروي شهادته.

«كنت أستاذا جامعيا في العراق قبل أن أهاجر، وعملت أستاذا جامعيا في الخارج، وعدت لكي أكون أستاذا جامعيا في بلدي. وأن تأتي إلى العراق لإلقاء محاضرات لفترة محدودة، فهذا أمر يقلل من احتكاكك بالروتين والحسد والنفوس المريضة. وسيصيبك إحباط كبير لو أنك فعلت كما فعلت أنا بإعادة التعيين. ستكتشف روتينا مقيتا بحد ذاته، ينتعش على أيدي موظفين يتلذذون بتأخيرك، لعلك تفقد شيئا من حقوقك. ستكتشف أن الحكومة قد سنت قوانين لإعادة المهاجرين من أصحاب الكفاءات، من دون أن تضع أية آليات لتطبيق تلك القوانين؛ فبقيت حبرا على ورق.

 ستكتشف انعدام الرغبة بالتعلم لدى الطلبة، وانعدام الرغبة وربما المقدرة على التعليم لدى كثرة غالبة من الأساتذة، وحربا تعلن باسم الواجب والمسؤولية، على كل من يريد أداء واجبه بمسؤولية. سوف تجد أناسا يمثلون دور الإداريين، دون أن يعرفوا معنى الإدارة! وأناسا يمثلون دور الطلبة دون أن يمتلكوا شيئا مما ينبغي للطالب أن يعرفه بديهية، أن يكون جل همه أن يتعلم، وتجد أناسا يمثلون دور الأساتذة، وكل همهم أن يمر وقت المحاضرة تلو المحاضرة حتى آخر الشهر، وحبذا لو تغيب الطلبة، وازدادت العطل، ومع ذلك تجري امتحانات ويمتحن الطلبة، وتوضع الدرجات، وتتخرج الدفعات لتنتج أناسا أكثر جهلا من الحال التي كانوا عليها قبل دخولهم إلى الجامعة. سوف تجد مؤتمرات علمية هدفها أن يصورها التلفزيون، ويصور المسؤولين يلقون الخطب الرنانة حول المنجزات الطنانة. سوف تجد أناسا بارعين بمقدرتهم على الكلام لساعات، من دون أن يقولوا شيئا على الإطلاق». ما نقلناه عن هذا الأستاذ ليس في العراق وحدها، بل في أقطار شتى من العالم العربي. وهذا الأمر يجب أن يكون حافزا للبحث عن سبل جديدة للنهضة.  

 

نافذة:

فلسفة اتخاذ الدواء تقول إن الإسراف في الاعتياد على استعمال الصادات الحيوية يقود إلى خفة مفعوله أو زواله وتنشأ فرق جرثومية معندة على العلاج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى