الرئيسيةملف التاريخ

كواليس قرن من دعوات وحملات الانتخابات والبرلمان

هكذا واجه المرشحون بعضهم بعضا

يونس جنوحي
«جل الذين اتجهوا إلى الشرق للدارسة سنة 1901، وما بعدها، عادوا مسكونين بفكرة العروبة والوحدة العربية من المحيط إلى الخليج. إذ تعرفوا في المعاهد والجامعات التي درسوا بها في كل من بيروت وبغداد والقاهرة، على نخب من الكتاب العرب الذين مارسوا العمل الصحافي والنشر الأدبي.
ورغم أن السلطان المولى عبد الحفيظ استحسن المقترح، بدليل أنه دعم عمل الصحافة في المغرب لولا العراقيل التقنية، كما دعم إرسال بعثات إلى الشرق للدراسة، إلا أن بعض موظفي دار المخزن القدامى، خصوصا الجيل القديم الذين اشتغلوا مع والده المولى الحسن الأول منذ سنة 1873، لم يستحسنوا الفكرة نهائيا، بل بدأوا يشككون في ذمم كل الشبان العائدين من الدراسة في الشرق ويتهمونهم بمحاولة نسف المنظومة التي يشتغلون وفقها لقرون. إذ لم يكن سهلا أبدا أن يتصور هؤلاء أن تتم استشارة العامة في التعيينات المخزنية.
حسنا، جل هؤلاء كان لهم الفضل الكبير في أن تكون في المغرب دعوات إلى الانتخابات منذ أزيد من قرن، بل ومكنت المغرب من دخول التاريخ. إذ في الوقت الذي ناقش فيه المغاربة الانتخابات والدستور وحتى البرلمان، كانت جل دول الجوار لم تتكون بعد».

دعوا لديموقراطية «مغربية».. رجال ثلاثينيات القرن الماضي المنسيون
رغم أن جلهم كانوا إصلاحيين إلا أنهم لم يحظوا بالتقدير الأكاديمي والسياسي الذي كانوا يستحقونه.
إذ إن انتماءهم للحركة الوطنية وتقدير الملك الراحل محمد الخامس لهم، كان سببا كبيرا في عمل الإدارة الفرنسية، منذ بداية ثلاثينيات القرن الماضي، على إيجاد طريقة مناسبة للتخلص منهم.
لن يتسع المجال لذكرهم جميعا هنا، إذ إن بعضهم تعرضوا للنفي وآخرون ماتوا في سجون فرنسا ما بين سنوات 1930 و1945، وبعضهم لم تعرف قبورهم رغم أن مؤلفاتهم لا تزال في رف المكتبة الوطنية المغربية. ولم يتم تسليط الضوء على النقاش المبكر الذي أطلقوه في مؤلفاتهم للنهوض بالحقل السياسي المغربي وتحديثه لكي يكون ندا للإدارة الفرنسية.
سبق للباحث المغربي د. المصطفى بوعزيز أن دقق في هذا الموضوع من خلال مؤلفه «الوطنيون المغاربة في القرن العشرين الارتباط العضوي بين السياسي والاجتماعي»، حيث رصد بداية انطلاق الحركة الوطنية وتأثر المنخرطين فيها بمحيطهم السياسي والاجتماعي. حيث عمل هذا الباحث على تحليل العقلية المغربية وكيف بدأت الدعوة إلى الممارسة السياسية في الإطار الوطني لمواجهة الاستعمار.
عالج بوعزيز موضوع انطلاق الحركة الوطنية في المغرب وربطها بانطلاق ثورة «الدباغين» في فاس، والتي حدثت سنة 1830، حيث اعتبرها محطة مرجعية أساسية. كما سبق للمفكر المغربي عبد الله العروي أن شرح تلك الفترة وتناولها بالتحليل وربط ميلاد الحركة الوطنية وصولا إلى سنة 1912، بسقوط الجزائر في الاستعمار الفرنسي سنة 1830 وبداية تشكل الوعي الوطني المغربي.
أما على مستوى الأفكار التي دعا إليها الوطنيون المغاربة، فقد كانت متشبعة بالدفاع عن اللغة العربية وهو ما قام به منظرون أمازيغ أيضا وفي مقدمتهم وطنيون أمثال الإباعقيلي جنوب أكادير والمختار السوسي، الذي نفته فرنسا لكبح أنشطته الوطنية والفكرية.
هذا الجيل من منظري الحركة الوطنية الأمازيغ كانوا من المتحمسين للغة العربية ودافعوا باستماتة عن أفكار تشاطرها منظرو الحركة الوطنية الأوائل، خصوصا منهم الذين توقف إنتاجهم الفكري في أربعينيات القرن الماضي أمثال الطريس وأحمد بناني، وعبد الله زنيبر. إذ إن هؤلاء كانوا من خريجي القرويين ومنهم من اتجه لسنوات إلى الشرق وعاد مشبعا بأفكار الانتصار للوطن العربي الكبير وضرورة تأسيس تيار سياسي وطني بعيدا عن منظومة الدولة العتيقة للدفاع عن استقلال المغرب عن فرنسا وإحلال بديل سياسي و«ديموقراطي» على الطريقة المغربية.
هذه الطريقة المغربية كانت تتلخص في الولاء للعرش، خصوصا وأن الملك الراحل محمد الخامس كان منفتحا على هذا التيار ويستقبل ممثليه ولم يكن معارضا لهم أو ضد توجهاتهم.
ومن بين هؤلاء من دعا إلى ضرورة انطلاق العمل الصحافي في المغرب منذ 1830 رغم أن الظروف التقنية وقتها لم تكن مواتية، إلا أن التأثر بالشرق كان قد وصل إلى مداه وتحققت تجارب صحافية مغربية ساهم في إثرائها أبناء هذا الجيل، جيل ثلاثينيات القرن الماضي، الذي لم يكن محظوظا كفاية بسبب الرقابة الفرنسية التي حالت واستمرار الإنتاج الفكري لعدد من الأسماء، وأرسلهم إلى السجون، ومنهم من حُكم عليهم بالإعدام، ونفذ فيهم، وسقطوا من الذاكرة الجماعية رغم أنهم كانوا يحملون هم وطن بأكمله.

لماذا تأخر «حُلم» الانتخابات أكثر من نصف قرن؟
بعض التجارب «الديموقراطية» أصبحت منسية رغم أنها كانت واقعا مغربيا حقيقيا. مثل المجلس الذي كان قد عينه الملك الراحل محمد الخامس للاستشارة. إذ رغم أن هذا المجلس لم يتشكل عن طريق انتخابات وطنية، إلا أن تحديد أعضائه كان عن طريق انتخابات في أوساط المؤثرين في السلطة، وحرص الملك الراحل محمد الخامس خلال أربعينيات القرن الماضي، ثم في منتصف الخمسينيات، على أن يكون المجلس ممثلا من كل الأطياف العلمية والسياسية المحيطة به. بل كان الأعضاء يمثلون ما يشبه «الغرف المهنية» وقتها، إذ كان من يرافع عن القضاة والمستشارين وموظفي الإدارة المغربية.
ولعب هذا المجلس دورا كبيرا في إصلاح القضاء على عهد الملك الراحل محمد الخامس خلال أربعينيات القرن الماضي، حيث رفعت له مقترحات لإصلاح المحاكم المغربية والنهوض بالقضاء في القرى حيث كانت محاكم الأسواق الأسبوعية منتشرة بكثرة، خصوصا عندما عمدت فرنسا إلى اعتماد المحاكم العرفية في المغرب لفصل جهاته سياسيا عن الرباط، وهو ما تصدى له هذا المجلس.
لكن المثير أن جل أعضائه، رغم الإجماع على تعيينهم، كانوا ينتمون إلى عائلات تتوارث الوزارات والمناصب الرفيعة في القضاء على وجه الخصوص.
أما تجربة سنة 1960 فقد كانت تحمل إشارات قوية خصوصا وأنها تمت في جو من الاحتقان السياسي، حيث حُلت تجربة حكومة عبد الله إبراهيم، ورافق القرار غضب عارم في أوساط سياسيي تيار هذا الأخير. وقبل أن تنفلت الأمور أعلن مباشرة عن تعيين حكومة يترأسها السلطان شخصيا ويشرف عليها ولي العهد الأمير مولاي الحسن. وفي تلك الفترة جرت أولى الانتخابات لتحديد من يدبر المجالس البلدية للمدن المغربية التي كان عددها وقتها قليلا جدا مقارنة مع شساعة التراب المغربي كاملا. والسبب أن هذه التجربة اقتصرت على المدن الكبرى ليتم تحديد تدبير مجالسها من طرف منتمين لأحزاب سياسية وطنية.
وبقيت تلك التجربة فترة قصيرة فقط قبل أن تأتي تجربة أولى انتخابات دستور 1962.
رغم أن أول دعوة في المغرب لإحداث دستور للبلاد واعتماد انتخابات تعود إلى سنة 1844، حيث كانت هناك إشارات على شكل رسائل اقترحت على السلطان العلوي وقتها القيام بعدد من الإصلاحات السياسية واستفتاء الأصوات لتحديد المسؤولين. ثم جاءت تجربة 1873 مع المولى الحسن الأول، ثم تلتها تجارب 1901 مع المولى عبد العزيز وتجربة دستور 1908 مع المولى عبد الحفيظ الذي كان، حسب عدد مهم من المراجع الأجنبية، متحررا جدا ورحب بفكرة أول دستور للبلاد لكن الأمر لم يتم نظرا للظروف السياسية الصعبة وضغط فرنسا لاستعمار المغرب، حيث آلت الأمور إلى اعتماد معاهدة الحماية سنة 1912.
ولولا أن الظروف الدولية حالت وتحقيق هذا المطلب، لربما كان المغرب إحدى الدول السباقة عالميا إلى اعتماد أول دستور للبلاد.
السر وراء ظهور هذه الرغبة مبكرا، بل وبصورة سابقة لزمانها، أن البلاد كانت تتوفر على نخب من الوطنيين المتنورين الذين كانوا يتفرجون على الوضع السياسي ووصلوا إلى قناعة مفادها أن الطريقة القديمة التي كانت تسير بها الأمور لم تعد تجدي نفعا أمام الآلة الاستعمارية الأجنبية التي وصلت وقتها إلى المغرب وبدأت توقع اتفاقيات في أوربا لتوزيعه جغرافيا بين فرنسا وإسبانيا وبريطانيا، وحتى ألمانيا قبل أن يتم الحسم في الموضوع بترضيات وقعت بشأنها اتفاقيات في الجزيرة الخضراء وباريس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى