شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

لماذا يريدون اغتيال طارق؟

 

 

 

د. خالد فتحي *

 

يبدو أن التشكيك بالوجود التاريخي لعدد من الأيقونات الإسلامية أضحى رياضة فكرية محبذة لا يمكن أن يخطئها المرء لدى الكاتب المؤرخ يوسف زيدان، ولعل آخر هذه الشخصيات التي أراد تصفيتها مؤخرا، بل وأن يعدمها في موطنها الأصلي حيث تفتقت موهبتها القيادية، كانت شخصية القائد المحنك طارق بن زياد، حيث لم يستطع زيدان أن يستوعب بداية في مداخلته «الجهبيذة» التي ألقاها أمام جمهور مغربي، كيف أمكن لأمازيغي أن يرتجل تلك الخطبة الحماسية البليغة العصماء الشهيرة بكونها من عيون الخطب ليلهب بها حماس الفاتحين المغاربة، وهم على وشك الشروع في معركة دخول الأندلس، ليمر إلى التشكيك في نسبتها إليه معتبرا أنها من المزور البديع، وذلك قبل أن تأخذه الحماسة بانقياد الجمع له واطمئنانه له لتسلسل أفكاره، وينتقل إلى السرعة القصوى منكرا وجود هذه الشخصية من الأصل، كأنه لم يسمع أو لم ير من طنجة عروس الشمال المغربي جبل طارق الذي يحمل اسم هذا الفاتح العظيم منذ حط فيه مع رجاله أول مرة.

عادة يفيدني شغفي الشديد بالتاريخ أن أتبين مسارات بعض النقاشات التاريخية، لكنه لا يسعفني البتة في فهم منهج يوسف زيدان لما ينبعث لنفي صفة البطولة عن عدد من الشخصيات الإسلامية، وقد كان أبرزها قطز وبيبرس وصلاح الدين ثم طارق بن زياد الآن. وإذ كنت غالبا ما لا أماحكه في نفسي كثيرا في تناول ونقده الشخصيات المشرقية، إلا أنني لا أستطيع الآن إلا أن أستغرب كيف يحذف بجرة لسان تاريخا معروفا متواترا عن طارق بن زياد فقط لأن عقله هو لم يستسغه، كأنما التاريخ صار من العلوم الحقة الرياضية التي يمكن أن ينتهي فيها يوسف زيدان إلى اليقين بكل هذه الثقة الغريبة في النفس كلما استطاع بناء متوالية أو سردية أخرى تبدو له منطقية وممكنة.

صحيح بالفعل ما يردده دائما أنه ينبغي إعمال العقل في الخبر كما قال ابن خلدون، ولكن إعمال العقل لا يكون بهذه الصرامة كأننا أمام معادلات حسابية سمجة باردة، فالوقائع لها سيرها الخاص، وهي تجرى وفق الشكل الذي حدثت به بالفعل، لأنه أحيانا تكون هناك مصادفات قد لا يتصورها العقل ولكنها جرت بالفعل وصنعت صلب التاريخ.

إني أسأله إذن لماذا في رأيه لا يقدر طارق بن زياد على ارتجاز خطبة بذاك المستوى من البلاغة، وقد كان حينها شابا أو كهلا جاوز مرحلة الشباب، رجلا مسلما قرأ القرآن بلا شك واختلط بالعرب الفاتحين في حياته الخاصة والعسكرية؟ أليس بعض من يهاجرون من بلداننا الآن يتعلمون اللغات الأجنبية في سنوات قليلة ويحاضرون ويحصلون بها أعلى الشهادات؟ أو لم يتقن المستشرقون لغتنا العربية بكل يسر وسلاسة؟ ألا يقر هو نفسه أن أغلب الأعلام الذين أنجبتهم الأمة الإسلامية إنما هم من أعراق غير عربية، ولكنهم أبدعوا في إطار الحضارة العربية وكتبوا وخطبوا وأبدعوا بالعربية.

ثم هل يظن يوسف زيدان أن طارق خطب على الحشد العسكري الذي كان بآلاف الأمازيغ (7000 مقاتل) مستعملا مكبر الصوت كما فعل هو في ندوته بطنجة؟ ألا تكون تلك الخطبة قد تمت ضمن دائرة ضيقة جدا تشكلت من صفوة القادة العسكريين المحيطين به والذين من المحتمل، بل من المؤكد أنهم كانوا يعرفون العربية حسن المعرفة، ثم تناقل معناها عنهم عامة الجند باللغة الأمازيغية؟ ألا يخطر ببال يوسف زيدان مثلا أن يكون طارق في نفس الآن عسكريا عبقريا وخطيبا مفوها وصاحب مواهب بلاغية لافتة، لأنه قائد استثنائي والقيادة هي عبارة عن تجمع مواهب متعددة؟

ألا يكون طارق بن زياد مثلا قد عهد بإعداد هذه الخطبة لأحد فطاحلة اللغة العربية من العرب أو الأمازيغ ممن ساروا في ركابه خلال حملته، وأنه إن فعل ذلك، فإن ذلك أمر لا يشكك في نسبة الخطبة إليه، لأنه هو من وجه بها، ولأنه قائد ومسير ذاك الفتح. ألا يوافقنا مفكرنا يوسف زيدان أن عددا من قادة ورؤساء العالم يقرؤون خطبا يعدها لهم معاونوهم، ومع ذلك تبقى الخطب خطبهم لا خطب المعاونين مهما أنفق فيها هؤلاء من جهد ووقت؟

إن جيشا من الأمازيغ يفتح الأندلس في ظرف وجيز على قدوم الإسلام لبلاد المغرب ليبين بجلاء أن العرب قدموا فاتحين لا غزاة مستعمرين، وأن الأمازيغ دخلوا في الإسلام وتمثلوه كل التمثل في وقت قياسي ربما لا يفوق الزمن الذي استغرقه النبي الكريم في نشر دعوته بشبه الجزيرة العربية، لا بل وسعوا إلى حمل رايته ونشره بأوروبا. ولو كان الأمر غير ذلك لغرقوا في أعمال المقاومة ضد «المعتدين» وما عبروا للضفة الأخرى فاتحين. وطارق يمثل رمزا لهذا الانصهار العربي الأمازيغي الذي شكل اللحمة المغربية، ولذلك هو غير عزيز على الشكاكين المتعصبين فيسعون إلى اغتياله.

إن ما استنكره زيدان في الخطبة من ورود لفظ الحور الحسان من بنات اليونان، يجعلنا نسر له أننا لا نملك أن نحاكم ذاك العصر بقيم اليوم وعبارات اليوم فلكل زمن عباراته المسكوكة، وإلا فإنا سنكون غير علميين ولا منصفين، وشخصيا لست أرى في ذلك التعبير أي دليل على عدم صدقية الخطبة، بل أراه مجرد اجتهاد بلاغي، وحتى إن جارينا يوسف زيدان في اعتبار هذه العبارات مقحمة ولا محل لها، أننكر أن الخطبة بشرية كغيرها من الخطب، وأنه من الممكن أن تتضمن أيضا بعض شطحات القول، وأن وصولها لنا هكذا يدل على أنها لم تخضع للتنقيح فبالأحرى أن تكون منحولة لاحقة على زمن طارق.

كذلك نعلن أن ليس في سيرة طارق بن زياد ما يجعلها مفرخة للدواعش كما ذهب الروائي والمفكر يوسف زيدان، فالرجل خاض حربا أو فتحا مما كان مألوفا خوضه في زمانه، بل هو مثال للناجحين من أبناء الأمة الإسلامية الذين حققوا لها الأمجاد والانتصارات الزاهية. وإذا كان هناك لبس في أصله العربي أو الأمازيغي المغربي أو الجزائري أو حتى الفارسي، فذلك بسبب أن الكل ادعى لنفسه هذا الفاتح العظيم من قياد بني أمية الذي هو في الحقيقة ملك لنا جميعا مشرقا ومغربا.

إن طارق بن زياد ابن بيئته وابن زمانه، وهو قد كان عظيما بكل المقاييس، فغريب إذن أن يسعى بعض المتحذلقين أو المتطرفين من الحقوقيين أو من المحققين إلى إنكاره أو التبرؤ من إنجازه الباهر الذي كان اللبنة الأولى في نشوء حضارة الأندلس الرائعة التي شكلت لقاء الشرق بالغرب، ومثلت تجربة بشرية ملهمة لا نظير لها في التاريخ باعتراف الكل، يقترفون ذلك من خلال تحكيم معايير حقوقية لم تستقر عليها الإنسانية إلا أخيرا، ويا ليتها كانت معايير تطبق على مستوى النظام الدولي الذي تقوده الدول الكبرى، والتي نعرف دون شك أنها إنما تحتكم للقوة والسلاح.

طارق بن زياد كان بدوره من نتاج قوة الدفع التي جاء بها الوحي المحمدي والتي شملت شعوبا شتى انصهرت جميعها في تلك الدفقة الكبرى.

خطأ البعض أنهم يقرؤون التاريخ بخلفية نقص، وبشعور غير واع بالتبعية تجاه الغالب الذي ليس إلا الغرب، فيصطنعون سردية جديدة توافق أهواء هذا الغرب الذي تظهر الآن واضحة مراميه نحو فرض نموذجه الثقافي على الجميع دون اعتبار للهويات الأخرى، ناسين أنه تسبب في مقتل أكثر من 70 مليونا بينما فتح ابن العاص مصر بـ 3000 جندي، وطارق الأندلس بـ 7000 أمازيغي فقط.

هناك من المحللين من لا يتقن السفر عبر الزمن، ولا يستطيع تقمص سياقات الأحداث والعصر الذي يناقش فيه بعض سير بعض الأعلام فينتهي بمنهجه الشكي لنتائج غريبة ومثيرة لكن غير صحيحة.

أعتقد أن معرفة الحقيقة التاريخية بشكل جازم كما جرت واقعيا غير ممكنة بتاتا، إلا إذا عدنا القهقرى جميعا إلى الوراء وتفرجنا مثلا على حملة طارق عيانا وهذا مستحيل الآن، وربما قد يكون ممكنا غدا.

لذلك أظن أنه لا داعي لنبش أو تقويض تاريخ معين لنا حين يكون محكيا أو معدا بطريقة تخدم مستقبلنا وأحلامنا. وأنا شخصيا لا أرى ضيرا إن سقطنا قليلا في الأسطرة أو حتى في الخرافة المفيدة التي تساعد على الاعتداد بتاريخنا. ليس هذا تزويرا وإنما هو تحفيز للشعوب كي تحيا وتنهض من جديد، واستنهاض كذلك للهمم ببناء النماذج والقدوات.

من المؤكد أن طارق بن زياد كان بشرا له حياته الخاصة، وكانت له أخطاؤه وخططه ومناوراته البلاغية والخطابية والعسكرية، ولربما يكون قد أوهم جنده بإحراق السفن أو أنه أحرق عينة منها فقط أو أحرقها كلها، فما الغريب في ذلك؟ هو قائد الجيش، وهو الأدرى حينها بمعنويات جنده، والأجدر بمعرفة أفضل الطرق لتحميسهم على الاستماتة في القتال بما فيها أشدها راديكالية ومغامرة. كل هذه الأمور والمعطيات لا نستطيع النفاذ إليها بالتدقيق. ولذلك يسارع بعض مثقفينا العرب إلى استغلال بعض المتشابهات للترويج لثقافة الإنكار من خلال نفي التاريخ أو نقضه أو تشويهه أو تحريفه أو تقزيمه وهذه حيلة نفسية دفاعية للدعوة لموقف أو لفكرة أو لتيار معين. وفي هذه الحالة بالضبط لجأ زيدان إلى نفي وجود طارق بناء على مغالطات صورية شكلية، فهو لم يصل للحقيقة التاريخية بتفكيره الموضوعي فتصور حقيقة معاكسة تلائم رغبته هو وتتفق ودافعه النفسي، وبالتالي هو استخدم تأويلات افتراضية ضاربا عرض الحائط بشواهد مادية كلها تؤكد وجود طارق بن زياد. كذلك ارتكب يوسف زيدان خطيئة التنميط في حق طارق حيث ينمطه في صورة الأمازيغي الذي لا يمكن أن يحسن العربية إلى ذاك الحد المبهر. إنه، باستخدام هذا المنطق الشكلي الصوري، يمكن لزيدان أن ينفي وجود أشخاص كالخليل بن أحمد الفراهيدي، واضع بحور الشعر العربي، وسيبويه، واضع قواعد اللغة العربية نفسها، وقد كانا غير عربيين ولو جاريناه في هواه لانتهينا نهاية عدمية صفرية. لذا دعونا نقول لمن يطلبون جلد طارق بن زياد بأن طارق الفيزيقي ذاك مات وانتهى، ومن يعيش بيننا الآن هو طارق التاريخي العابر إلينا عبر القرون، طارق الأيقونة، طارق المثال الذي شغفت به الأمة الإسلامية أيما شغف. وهو أيضا طارق الذي صغناه بوجداننا واستيهاماتنا ورغباتنا، طارق الذي يذكرنا أننا كنا يوما رقما صعبا في الركح الدولي. طارق الذي لن نسمح باغتياله تدليسا وتلفيقا.

إن دور الفكر أن يمجد الأعلام التي تحيا في وجدان الشعوب لا أن يقتلها قتلا رحيما أو عنيفا، وخصوصا حين تكون صورتها بهية رائقة في نفوس تلك الشعوب.

إن شخصية طارق بن زياد تؤرق بعض العاملين على بعض الأجندات من الذين يحنقون عليه بالخصوص كونه أمازيغيا لا عقدة نفسية له مع العربية، شكل النموذج رائعا للتراكم الحضاري الذي شيدت على أساسه الهوية المغربية، لذلك، ولأجل هذه الصفات الجامعة في شخصيته، سيظل طارق بن زياد بطلا على الدوام في عيوننا، ودليلا ساطعا على انتماء البلدان المغاربية الأمازيغية إلى الهوية العربية الإسلامية التي هي هوية ثقافية لا إثنية أحب من أحب وكره من كره.

 

* طبيب وكاتب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى