شوف تشوف

الرأيالرئيسية

«ماكرون» الرابع عشر

 المتأمل لمسار الرئيس الفرنسي الحالي، «إيمانويل ماكرون»، لا بد أن يخرج باستنتاج مثير مفاده أن فرنسا لم تغضب ضد رئيسها منذ زمن مثل ما غضبت على الرئيس الحالي.

مقالات ذات صلة

الإضرابات التي تعرفها البلاد هذه الأيام بخصوص تعديل سن التقاعد وبعض الإجراءات الأخرى التي تضرب في عمق المكتسبات الاجتماعية التي ناضلت من أجلها النقابات الفرنسية لأزيد من أربعين سنة، صارت كلها في مهب الريح.

تأجلت زيارة ملك بريطانيا، تشارلز الثالث، التي كانت مقررة الأسبوع المقبل، بسبب حدة المظاهرات. فالمشرفون على الشأن الرئاسي يعلمون جيدا أن «ماكرون» لن يستطيع أبدا الظهور في العلن مع ملك بريطانيا ولا استقباله في مكان عام أو مرافقته في جولة بباريس. وإلا فإن كميات محترمة جدا من البيض الفاسد والدقيق ستكون في طريقها إلى بذلته.

لكن المثير أن الرئيس الفرنسي عمم تصريحات يشرح فيها طلب فرنسا تأجيل زيارة ملك بريطانيا إلى باريس، إذ قال «ماكرون»، في تصريح تداولته الصحافة الفرنسية بكثير من الذهول، ما مفاده أنه من غير المسؤول استقبال ملك بريطانيا في ظل الاحتجاجات الحالية، و«لذلك طلبنا تأجيل زيارته»، ربما إلى الصيف المقبل.

لا بد، إذن، أن الرئيس الفرنسي الحالي يحمل بعض جينات «لويس الرابع عشر» الذي حكم فرنسا بالحديد والنار، وعُرف عهده بعهد الاستبداد الفرنسي قبل أربعة قرون تقريبا.

إذ إن تأجيل زيارة ملك بريطانيا لا يعني سوى أن الرئيس الفرنسي ماض في سياسته وأنه لا يُعير اهتماما لضغط الشارع. بإمكان الاستقبالات الرسمية أن تنتظر.

الحل السياسي لمثل هذا النوع من الأزمات يقتضي من رئيس دولة بحجم فرنسا أن ينزل إلى الشارع أولا، أو على الأقل أن يفتح باب الحوار الاجتماعي مع النقابات ويمتص غضب الشارع لكي يعود الناس إلى منازلهم ويتركوا الساحات العمومية للطيور وفناني الشارع. لكن «ماكرون» فضل تأجيل زيارة رسمية هي الأولى من نوعها للملك البريطاني الجديد، على أن يخاطب الفرنسيين ويُقنعهم بالعودة إلى منازلهم لكي يسمح الجو العام في البلاد باستقبال الضيوف.

جل العاملين في القطاع الخاص في فرنسا يُفكرون حاليا في البحث عن وظائف في ألمانيا أو أي مكان آخر في الاتحاد الأوروبي، حيث توجد قوانين مرنة تهم التقاعد والامتيازات الاجتماعية والتعويض عن ساعات العمل الإضافية. وهنا بالضبط يتشابه «ماكرون» مع «لويس الرابع عشر». إذ إن هذا الأخير سبق له أن أجبر طبقات اجتماعية في فرنسا على الهجرة، خصوصا الأقليات الكنسية، ومغادرة فرنسا لكي تتمكن من مزاولة حياتها بعيدا عن قوانين «لويس الرابع عشر» التي غيّر بها قوانين أقرّها أسلافه.

الفرنسيون غاضبون هذه الأيام. وهناك اليوم جيل جديد من النقابيين والعمال لم يعش ما وقع في فرنسا سنة 1958، ولا بد أنه لا يعرف عنه أكثر مما جمعه الأرشيف وصُنعت حوله أفلام وثائقية ومقالات في الصحف والمجلات.

حتى سياسيو فرنسا الحاليون -الشباب والكهول- المُعارضون للرئيس ماكرون، لم يكونوا فاعلين في تلك الأحداث التي حولت شوارع فرنسا إلى ساحات حروب مفتوحة قادها الطلبة الجامعيون ضد دولتهم ولم يهدأ لهم بال إلا بتأسيس الجمهورية الخامسة! وعودة «ديغول» إلى السياسة بعد أن اعتقد الجميع أن نجمه أفل وإلى الأبد.

هل نحن أمام بداية شرارة جديدة من الاحتجاجات التي من شأنها أن تُرسل «ماكرون» إلى مكانه الطبيعي؟

في الأخير لن يليق به سوى الأرشيف، في رف إلى جانب أوراق سيرة لويس الرابع عشر.

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى