شوف تشوف

الرأيالرئيسية

مفهوم العدل وصعوبة تطبيقه

بقلم: خالص جلبي

مقالات ذات صلة

ليس من قصة معبرة عن معنى (العدل) و(الظلم)، كما أورد المفكر الجزائري «مالك بن نبي» في كتابه «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي»، نقلا عن «كونفوشيوس Confucius»، فيلسوف الصين؛ ففي الحوار الذي جرى بينه وبين تلميذه «هو تسي كوج»، الذي كان يسأل أستاذه عن السلطة؟ يجب أن توفر السياسة ثلاثة أشياء هي: لقمة العيش لكل فرد، والقدر الكافي من التجهيزات العسكرية، والقدر الكافي من ثقة الناس في حكامهم. فسأل التلميذ «تسي كوج»: وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد هذه الأشياء الثلاثة، فبأيها تضحي؟ فرد الأستاذ: بالتجهيزات العسكرية. ويعود «تسي كوج» فيسأل: وإذا كان لا بد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين، فبأيهما تضحي؟ فأجاب الأستاذ: في هذه الحالة نستغني عن القوت، لأن الموت كان دائما مصير الناس، ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أي أساس للدولة. وهذا الكلام قد يبدو صعب الفهم بين الثقة والطعام والسلاح، فالناس لا يعيشون بدون طعام، ولا يأمنون بدون قوات عسكرية في العادة، ولكن القصة تروي أهمية الثقة كأساس لتعامل البشر بين بعضهم البعض، ومنبع (الثقة) هو (العدل) و(الصدق)، وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا. ويوضح الفيلسوف البريطاني «برتراند راسل»، في كتابه «السلطان Power»، مسألة العدل والظلم في القصة التالية: «تقول القصة إن حكيما صينيا مر على مقربة من جبل «تاي»، فأبصر امرأة تقف إلى جانب أحد القبور وتبكي بمرارة وحرقة، فسارع المعلم إليها. وبعث بتلميذه «تسي ـ لو» يسألها: إنك لتبكين يا امرأة وكأنك احتملت من الأحزان فوق الأحزان؟ فردت المرأة تقول: وكذاك الأمر فقد قتل نمر من قبل والد زوجي في هذا الموقع، وقد قتل زوجي أيضا، وها هو ولدي قد مات الميتة نفسها أيضا! فقال المعلم: ولماذا .. لماذا لم تتركوا هذا المكان؟ فردت المرأة: ليس هنا حكومة ظالمة. فقال المعلم: آنذاك تذكروا قولها يا أولادي: «إن الحكومة الظالمة أشد فظاعة من النمر». ويعقب الفيلسوف «راسل» على هذه الواقعة، فيرى أن مشكلة ترويض السلطان موضوع قديم: «فالطاويون (Taoists) ظنوا أنها مشكلة لا تحل فنصحوا بالفوضوية. وجرب العالم الحكم العسكري المطلق «أوتوقراطي ـ Autocracy»، والحكم بأمر الله «الثيوقراطي Theocracy» والملكية الوراثية، وحكم القلة، والنظام الديموقراطي، وحكم القديسين، وقد ساد الأخير بعد فشل كرومويل. ويدل كل هذا على أن مشكلتنا لم تحل بعد». ويرى الفيلسوف «برتراند راسل» أن المخلوقات البشرية لا بد لها من أن تعيش على نحو جماعي، ولكن رغباتها: «خلافا لرغبات النحل تبقى فردية، ومن هنا تنشأ المتاعب والحاجة الماسة إلى قيام حكومة». وعند هذا الخيار الموجع بين «فوضى الغابة» و«طغيان الدولة» ولدت الحكومات، ولكن مع عدم التكافؤ في السلطان، أي غياب العدل الاجتماعي. يقول راسل في كتابه «القوة»: «إذ إن من يملكون أكثره يستخدمونه لتحقيق رغباتهم التي تتعارض مع رغبات المواطنين العاديين، وهكذا فإن الطغيان والفوضى يتشابهان في نتائجهما المدمرة». أو كما قال «أفلاطون» يائسا في كتابه «الجمهورية»: «إن عقيدتي هي أن العدالة لا تخرج عن أن تكون مصلحة الأقوى». ولتفكيك آلية الظلم والعدل فقد عقد «ابن خلدون» فصلا خاصا في «مقدمته» الشهيرة تحت عنوان «فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران»، يشرح فيه دورة العدل، على لسان الحيوان في قصة الموبذان، أن بهرام الملك كان يتمشى في الحديقة، عندما سمع صوت البوم؛ فسأله إن كان يعرف لغة الطيور؟ قال: نعم إنه بوم يخطب ود بومة أنثى، وهي تشتد في المهر، فطلبت خراب عشرين قرية. فأجابها: إن أطال الله في عمر الملك، أقطعتك ألف قرية خرابا يبابا! فزلزل الملك واستفرد به، قائلا له: ويلك ما معنى ما تقول؟ قال: «أيها الملك إن من حولك فسدوا وأنت نائم عنهم، فخربت البلد ودرست الأمصار. ثم شرح (دورة العدل) للملك فقال: اعلم أيها الملك أن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل. والعدل هو الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرب وجعل له قيما وهو الملك»، وبذلك أقفل الدورة.
وهذا يذكر بقول «مكيافيلي»، في كتابه «الأمير»، إن الناس ينسون الإساءة إليهم في قتل آبائهم، ولكنهم يحقدون على من سلبهم أموالهم، فليحذر الحاكم من مد يده إلى أرزاق الناس. وفي السيرة نعرف أن صحابيا أرسل إلى خيبر فأرادوا رشوته، فقال لهم: يا معشر يهود تعرفون والله أنكم أبغض إلي من القردة والخنازير، ولكن هذا لا يمنعني من إقامة العدل فيكم. فقالوا بصوت واحد: بهذا قامت السماوات والأرض. والسماء رفعها ووضع الميزان، والميزان هو العدل في الاتجاهين، وتوازن الثقلين، وتبادل الحق والواجب بين البشر أجمعين. وفي قصة فاطمة مع الرسول صلى الله عليه وسلم توضيح لهذه الآلية؛ أن باب هلاك الأمم هو في (غياب العدل) حين يطبق القانون على الضعفاء، وينجو من ربقته الأغنياء، فتهلك الأمة. جاء في الحديث الصحيح: «إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد». وفي هذه تحضرني قصة «جبلة بن الأيهم»، الذي اعتنق الإسلام، ثم ارتد لعدم تحمله جرعة العدل. فقد جاء في كتاب «المحاسن والمساوئ» للبيهقي، أن عمر رضي الله عنه أحسن استقباله، «فقرب مجلسه وأدناه ووعده من نفسه خيرا». وأقام بالمدينة حتى موعد الحج، ثم خرج مع عمر لأداء الفريضة، وكان متشحا برداء وإزار، وحدث وهو في الطواف أن وطئ أعرابي إزاره فانخلع عنه وانكشفت عورته، فغضب جدا ولطم الأعرابي على وجهه؛ فاجتمع الأعرابي وجماعته عليه فاقتادوه إلى عمر، فإما لطموك كما فعلت، أو تفاهمت معهم على إسقاط حقهم! (أقد الرجل أو استوهبه؟). صعق جبلة وقال: «وكذلك هذا الدين لا يفضل فيه شريف على وضيع، ولا ملك على سوقة». كان جواب عمر رضي الله أنه في الإسلام لا فرق بين شريف ووضيع في الحق، وكان جبلة يتوقع وهو من سلالة الملوك أن لا يعامل مع الأعرابي بهذه الطريقة. في تلك الليلة فكر جبلة بن الأيهم وأوعز لمن معه بالرحيل تحت جنح الظلام، وولى ولم يعقب، وأعلن ارتداده عن الإسلام، والتحق بملك الروم واعتنق النصرانية.

نافذة:
باب هلاك الأمم هو في غياب العدل حين يطبق القانون على الضعفاء وينجو من ربقته الأغنياء فتهلك الأمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى