حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسية

مكتبة تُعدم بكاتم صوت

هل يمكن يوما أن يتخيل رواد شارع «البولفار»، في قلب مدينة طنجة، شارعهم بدون مكتبة «لي كولون»؟ إذ إن خبر احتمال بيع هذه المعلمة الثقافية التي تأسست سنة 1949، يظهر بين الفينة والأخرى، ويروج بقوة هذه الأيام داخل الصالونات الثقافية التي يبدو أصحابها كائنات فضائية في هذه المدينة، التي صارت تتحدث لغة الإسمنت المسلح منذ سنوات.

 لا دخان بدون نار، والكتب تعيش أياما عصيبة على كل حال، لكن القائمين على المشروع يخرجون بين الفينة والأخرى، كما حدث سنة 2015 و2020، تزامنا مع فترة الإغلاق التام خلال وباء «كورونا»، ليكذبوا الخبر.

خبر يتمنى حراس ذاكرة المدينة أن يكون غير صحيح. لكن أخبارا من هذا النوع تشبه توقعات نشرات الطقس، إذ إن تكاثف الضباب لا يعني سوى اقتراب هطول المطر.

كبريات دور النشر الفرنسية أوصلت كتبها إلى الجالية الفرنسية في المدينة عن طريق «لي كولون» والأمر نفسه مع القراء الإسبان والإنجليز. سقف المكتبة التي يشبه الدخول إليها العبور عبر الزمن، شهد حفلات توقيع ومعارض لزوار حلوا في طنجة لتوقيع كتبهم أو كتابة مشاريع أدبية فقرروا البقاء.

عندما كان الأجانب يديرون المكتبة منذ تأسيسها إلى حدود سنة 2005، كان مشهد المثقفين الأجانب وهم يعبرون الشارع أمام القنصلية الفرنسية بعد أن يكونوا قد شربوا قهوتهم في «باريس»، المقهى وليس المدينة، مألوفا. بمجرد ما أن يدفعوا الباب الزجاجي برفق، يجدون أنفسهم في عالم الكتب. الكراسي تستقبل ضيوفا من كل الأوزان لكي يناقشوا الإصدارات وينصرفوا إلى حالهم ليهيموا بليل طنجة «الذي لا يشبهه ليل أي مدينة أخرى».

 ثم جاءت بعد ذلك الفترة التي أدار فيها الراحل فاضل العراقي المكتبة بعد شرائها من مُلاكها الذين انتهت إليهم الملكية كما لو أنها كتلة من اللهب الحارق يتقاذفها المُلاك في ما بينهم، أو ورثتهم على الأصح.

المكتبة عرضت لوحات التشكيلي محمد الحمري، وكان أبناء المدينة الذين يعرفونه جيدا ويعرفهم، يرونه وهو يسير متثاقلا في اتجاه المكتبة لكي يطمئن على آخر التعديلات رفقة زوجته الأمريكية «بلانكا».

هذه الأخيرة لو علمت بالخبر المنتشر في الصالونات عن بيع المكتبة، لن تملك إلا أن تعلق بحركة يدها الشهيرة معلنة استسلامها للزمن. هذه السيدة التي اختارت المغرب منذ أربعين سنة لكي تستقر به نهائيا حتى بعد وفاة زوجها الفنان التشكيلي محمد الحمري، صار كل شيء غريبا عنها، ورغم أنها تسكن في قلب المدينة العتيقة، إلا أن «البولفار»، مع صعوبة التضاريس الموصلة إليه، صار يبعد عنها بسنوات ضوئية.

لا يمكن أن يكون الإعدام هو الجزاء الأخير لصرح ثقافي مثل «لي كولون». تستحق تلك الواجهة الزجاجية الفاضحة لما خلفها من الكتب الأنيقة والإصدارات العربية والأجنبية أن تعيش حياة أخرى، لعلها تذكر كل من يمر من هناك، بقصة الجالسين العابرين والقراء والفضوليين المتجولين وقوفا بين الكتب كما يتجول السُعاة بين المقابر في صباحات الجمعة.

لا يعقل أن يكون مصير مكان مر منه محمد شكري، وبول بولز، الأمريكي الذي لا يوجد أمريكي واحد لا يعرف عنوان كتاب له، سوداويا بهذه الطريقة الصامتة. إذا انتهت «لي كولون» هكذا دون أن يتدخل أوصياء وزارة الثقافة والمسؤولون المحليون المعنيون بالموضوع، فلا يمكن لـ «القصة» إلا أن تكون أشهر رواية حزينة لم تُكتب، ولم تُبع فوق رفوف «لي كولون».

سيكون مشهد المكتبة وهي تستمر على قيد الحياة جديرا فعلا بالاحتفاء. أما إذا أعدمت، فالأسوأ ليس إلا السكون المزعج الذي يسببه استعمال كاتم الصوت أثناء تنفيذ اغتيالات من هذا النوع.

الكتب صارت فعلا تشبه شواهد القبور. تراها متراصة في كل مكان. ولا ينحني إليها أحد إلا ليعدل رباط حذائه المكسو بغبار الرصيف.

يونس جنوحي

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى