
د. خالد فتحي
وضعت بطولة العرب أوزارها، وظفر «الأسود» بالكأس، بعد أن أتموا المهمة، وأكدوا للعالم علو كعب المدرسة المغربية لكرة القدم، ونصبوا فوق ذلك مدرسة التدريب المغربية على سدة الصدارة عربيا ودوليا. ستهيم الشعوب العربية بعد هذه البطولة بحب المغرب كما لم تهم به من قبل، وسيفخر به العرب أيما فخر، وسينصبونه قدوة، مثالا للعبقرية، ونبراسا كرويا ورياضيا، ولسوف يدفعون بالخصوص حكوماتهم دفعا إلى استنساخ تجربته. هتافاتهم، إعجابهم، وانبهارهم بأداء منتخبه، سواء من على المدرجات أو أمام الشاشات، يدل على أنهم صاروا يرون أنفسهم في هذا المغرب الذي أثبت لهم أن النجاح ليس حكرا على أحد، وأنه ممكن جدا بالعمل الجاد والثقة بالنفس والإيمان بأن التميز يمكن له أن يكون عربيا. ومن الآن فصاعدا سترتبط سردية هذا المنتخب بالتفوق والتألق، فلقد حق له بهذا العطاء الفريد أن يكون منتخبا ملهما لوطنه ولأمته.
المغرب الآن على كل لسان عربي ويسكن قلب كل عربي، ولعل المتنبي، شاعر العرب، يجيز لي أن أستعير شطر بيته الشهير، لأقول إن السكتيوي وأشباله هم عن جدارة أمهر من سعت بهم قدم في هذه المنافسة التاريخية التي جرت بقطر. يقولون إن المغرب لعب بمنتخبه الرديف، أو بمنتخبه الثالث، لكنهم ينسون بيتا لعلال الفاسي يقول فيه: ليس منا واحد إلا وهو الأول. قالوا أيضا إنه نهائي يجمع عرب آسيا وعرب إفريقيا، أي بين مدرسة المشرق ومدرسة المغرب، لكن العالم كان يرى فقط المغرب وهو يلاعب أو يناجز نفسه. أليس منتخب الأردن نفسه يجاهر أنه ينتمي إلى المدرسة الكروية المغربية؟ كانت قمة مغربية خالصة إذن، ولذلك تعذر في رأيي حسم المباراة بسهولة لأي طرف. لعبت الأردن تحت ضغط مواصلة الصعود والتألق، ولعب المغرب تحت ضغط المحافظة على الصورة التي تشكلت له في المخيال الكروي العربي، فجاءت المباراة إلياذة عربية من العيار الثقيل، كأنها ملحمة أخرجها مبدع لا نظير له ولا يبارزه أحد في الإثارة. هدف أول خرافي للمغرب، حين قذف أسامة طنان كرته الصاروخية من منتصف الملعب، فكأنما تجمعت في قدمه أقدام أربعة وثلاثين مليونا من المغاربة، أو كأن الكرة قد لانت لدعوات الرباط والدار البيضاء وفاس والعيون… إلخ.
هذه الدعوات التي كانت تتنزل مع الأمطار على هذا المنتخب المبارك. لكن الأردن لم يفتأ أن عاد بل وتقدم، ولعله قد حمل الكأس إلى عمان لبرهة من الزمن، حتى إذا ضاق الأمل بالأسد المغربي زأر زئيره، الذي لا تملك الكرة غير أن تستجيب له. لم يكن «أسودنا» تلك الليلة مجرد لاعبين يطاردون كرة، بل ذاكرة وطن تمشي فوق العشب. كل تدخل كان توقيعا على عقد وفاء مع القميص. كانوا يلعبون كأن المغرب كله قد نزل معهم إلى الملعب: جباله، بحاره، صحراؤه، مدنه العتيقة، وصبر أهله الطويل، وحين كانوا يتعثرون كانت الروح المغربية الوثابة تنهض قبل الأقدام. السكتيوي لم يكن مدربا واقفا على خط التماس، كان قائدا عسكريا في معركة شرف، يوزع الأدوار، يقرأ التضاريس، ويعرف متى يهجم ومتى يصبر. وخلفه كانت مدرسة مغربية كاملة لا تعتمد على الصدفة، بل تؤمن بأن الرؤية الشاملة هي السبيل الأقصر للمجد، وأن الجهد إذا أطره العقل يتحول لبطولة خارقة. فيا له من مشهد هيتشكوكي هوليودي. مباراة تاريخية برعت فيها المدرسة الكروية المغربية بذراعيها الأردني والمغربي براعة غير مسبوقة. مباراة ستظل محفورة في الذاكرة، ظلت فيها هذه الكرة اللعوب تتأرجح وتتغنج بين السكتيوي والسلامي، حتى كدنا نفقد قدرتنا على تحمل كل ذاك التشويق والحماس، وحتى إني تمنيت لو أن الكأس منحت للفريقين معا.
هذه أول مرة أغتاظ من كرة القدم، كونها لا تفرز فائزين اثنين في مباراة النهائي. الكرة نفسها لم تحسم لمن تسلم قيادها، كغادة تتردد أي من الخاطبين يملك مهرها مهارة ودربة وعزما وتصميما، فكيف أصررنا مغاربة وأردنيين أن نلعب المباراة وشوطيها الإضافيين إلى نهايتهما. أنظر إلى المدرجات فلا أرى أعلاما متنافرة، بل قلبا عربيا واحدا يخفق بألوان متعددة. كل هتاف كان جسرا، وكل تصفيق كان مودة، وكل دمعة فرح أو خيبة كانت اعترافا بأن الكرة حين تكون صادقة، توحد ما تعجز السياسة عن جمعه. الكرة في هذا النزال الأردني المغربي لم تكن جلدا منفوخا بالهواء، بل قدرا دائريا يتدحرج بين قدمين عربيتين، كأنها تتلذذ بنصبهما معا وتقول لهما معا: لن تأتي لحظة الفصل حتى يستنزف القلب وتختبر الأعصاب حتى آخر خيط.
هذا النهائي أجمل من العديد من مباريات النهائي في كأس العالم. تمنعت الكرة، لأنها كانت تدور بين أقدام فريقين توأم، فاختلط عليها الأمر. شكل ذلك متعة، ولكنها متعة أحيانا لا تطاق، متعة تضج بالتوتر الجميل والحماس والدهشة والإثارة، وحتى بالإرهاق العاطفي. طال الأمد بالعرب هذه الليلة وهم ينتظرون فوز البطل. أخيرا تنطلق الزغاريد داخل المقهى، وتتعالى معها منبهات السيارات في الخارج معلنة أن المغرب ربح المباراة.. نعم ربحها، لكنني حين التتويج رأيته بطلا، ثم رأيته وصيفا للبطل لما تسلمت الأردن الكأس. شعرت بالأردن كأنها المغرب، وشعرت بالمغرب ليس إلا الأردن. الأردن لم تكن خصما، بل مرآة أخرى للمغرب. لعب بنفس الإيمان والصبر، وبنفس الإصرار على كتابة اسمه في الضوء. لذلك بدا هذا النهائي كأنه حوار داخلي بين روحين عربيتين تتنافسان على من يحب المجد أكثر، لا على من يستحقه وحده. في هذه اللحظة ستتقاطر التهاني على هاتفي، هذه المرة من الدوحة أولا، ثم من باقي العواصم العربية: عمان ، القاهرة، بغداد، دمشق، عدن، طرابلس، الخرطوم، الجزائر… إلخ.
إن هذا المنتخب صار سفيرا فوق العادة. هو لم يحقق فوزا فقط، بل أنجز لنا فتحا مبينا لقلوب أشقائنا العرب. والآن وأنا أنهي هذه الأسطر أفهم مغزى ما كان يقصد له صديقي من الأردن، ذاك الذي لا يكف يردد على مسامعي كلما زرت عمان، أن الجغرافيا ظلمت الأردن حين لم تجعل منه جارا للمغرب. تذكرته وقلت في نفسي: ها هي أمنية صديقي الأردني تتحقق. ها هما الأردن والمغرب يتجاوران على منصة التتويج. إن هذه العبارة وغيرها مما يجعلني دوما أردد في أعماقي عبارة أخرى: لو لم أكن مغربيا لوددت أن أكون مغربيا. فارفع رأسك عاليا أيها المغربي، وافخر بوطنك، بتاريخك، بملكك، وبأكاديمية محمد السادس لكرة القدم التي سار بذكرها الركبان، فمنتخبك أيها المغربي ليس منتخب كرة قدم، بل هو مشروع أمل عربي. ارفع رأسك أينما حللت وارتحلت، فأنت القدوة، أنت بطل العرب.





