ملفات ساخنة فوق طاولة الحكومة
إصلاح أنظمة التقاعد والصحة والتعليم وكلفة ثقيلة لتعميم الحماية الاجتماعية

تزامنا مع الدخول السياسي والاجتماعي، هناك ملفات ساخنة مطروحة على طاولة الحكومة، يأتي على رأسها إصلاح أنظمة التقاعد المهددة بالإفلاس في أفق سنة 2028، حيث وعدت الحكومة بإصلاح هذه الأنظمة قبل نهاية ولايتها، ومن المنتظر أن تعقد اللجنة التقنية لإصلاح أنظمة التقاعد أول اجتماع لها في الأيام القليلة المقبلة، برئاسة وزيرة الاقتصاد والمالية، نادية فتاح، التي ستقدم تصور الحكومة حول سيناريوهات الإصلاح قبل بلورتها في مشروع قانون سيحال على مجلسي البرلمان للمصادقة، خلال السنة التشريعية الحالية، كما تواصل الحكومة في السنة الأخيرة من عمر ولايتها، تنزيل ورش الحماية الاجتماعية وفق الأجندة والأهداف المحددة لها عبر تعميم التأمين الإجباري الأساسي عن المرض وبرنامج الدعم الاجتماعي المباشر، ومن بين التحديات التي تواجه الحكومة هي الكلفة الثقيلة لتمويل هذه البرامج، حيث من المتوقع أن تبلغ نفقات ورش الحماية الاجتماعية 39 مليار درهم سنة 2025، وأزيد من 41 مليار درهم سنة 2026، مشيرا إلى أن مجموع هذه النفقات بلغ سنة 2024 ما يناهز 32 مليار درهم، ومن بين الملفات التي تنتظر الحكومة كذلك، خلق مناصب الشغل، وإصلاح قطاع التعليم والنهوض بقطاع الصحة، خاصة في ظل تنامي الاحتجاجات على وضعية المستشفيات العموميـة بمختلف الأقاليم.
إعداد: محمد اليوبي – النعمان اليعلاوي
إصلاح أنظمة التقاعد.. ملف حارق في جدول أعمال الحكومة قبل نهاية ولايتها
ستعقد اللجنة التقنية لإصلاح أنظمة التقاعد أول اجتماع لها، في الأيام القليلة المقبلة، برئاسة وزيرة الاقتصاد والمالية، نادية فتاح، التي ستقدم تصور الحكومة حول سيناريوهات الإصلاح التي سيتم التنصيص عليها ضمن مشروع قانون. وأفادت المصادر بأن الوزيرة ستعرض المشروع على أعضاء اللجنة، قبل انعقاد اجتماع ثان سيكون مخصصا لتقديم مقترحات مختلف القطاعات المعنية بالإصلاح، طبقا لمخرجات اجتماع اللجنة الوطنية لمتابعة ملف التقاعد، المنعقد شهر يوليوز الماضي، برئاسة رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، وبحضور الوزراء المعنيين ومسؤولين عن مؤسسات عمومية مسؤولة عن تدبير صناديق التقاعد وممثلين عن المركزيات النقابية والاتحاد العام لمقاولات المغرب والكونفدرالية المغربية للفلاحة والتنمية القروية. وكشفت المصادر أن مشروع قانون إصلاح التقاعد سيكون جاهزا في الدورة البرلمانية الربيعية، التي ستتزامن مع نهاية الولاية الحكومية الحالية.
وكان أخنوش ترأس اجتماعا للجنة الوطنية لمتابعة ملف التقاعد، انعقد تبعا لخلاصات اجتماع دورة أبريل 2025 للجنة العليا للحوار الاجتماعي، وذلك بحضور الوزراء المعنيين ومسؤولين عن مؤسسات عمومية مسؤولة عن تدبير صناديق التقاعد وممثلين عن المركزيات النقابية والاتحاد العام لمقاولات المغرب والكونفدرالية المغربية للفلاحة والتنمية القروية.
وذكر بلاغ لرئاسة الحكومة أن هذا الاجتماع خصص لمناقشة الوضعية الحالية لأنظمة التقاعد، والاتفاق على آليات الاشتغال والمقاربة التي سيتم اعتمادها بشكل توافقي، من أجل وضع إطار ملائم لهذا الملف. وستسهر اللجنة التقنية المنبثقة عن اللجنة الوطنية، التي تضم ممثلين عن المركزيات النقابية وأرباب العمل والقطاعات الحكومية والصناديق المدبرة، على إعداد مقترح وتصور سيكون مدخلا لضمان ديمومة أنظمة التقاعد، ومن المنتظر أن تنطلق أشغال اللجنة التقنية خلال هذا الشهر شتنبر.
وفي مستهل الاجتماع، يضيف البلاغ ذاته، ثمن أخنوش المكاسب المحققة في إطار دورات الحوار الاجتماعي السابقة، سيما على صعيد تحسين الدخل والرفع من القدرة الشرائية للطبقة الشغيلة، مشيرا إلى أن هذه المكاسب تعد دليلا على النجاح في بناء ذكاء جماعي في صناعة الحلول بشكل توافقي وتقوية دور الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين.
وجدد رئيس الحكومة التأكيد على أن الحكومة تحدوها إرادة قوية لمعالجة هذا الملف الاجتماعي الهام وفق منهجية تشاركية مبنية على الثقة وتشكل اختيارا استراتيجيا للحكومة، إذ تأتي في سيرورة تنزيل إصلاحات جوهرية تراعي حقوق الموظفين والأجراء والمتقاعدين وتحافظ على تنافسية المقاولات، وتضمن التوازن المالي لأنظمة التقاعد واستدامتها، وتساهم في تعزيز السلم الاجتماعي الذي حرصت الحكومة على تحقيقه.
وأفادت مصادر حكومية بأن وصفة إصلاح أنظمة التقاعد أصبحت الجاهزة، حيث من المنتظر أن يتم عرضها على المركزيات النقابية لإبداء الرأي بشأنها، قبل إحالة المشروع على المجلس الحكومي للمصادقة عليه. وأكدت المصادر أن الإصلاح الاستعجالي لأنظمة التقاعد أصبح يفرض نفسه على الحكومة، بعدما فشلت الإصلاحات التي أطلقتها الحكومات السابقة في الحفاظ على التوازنات المالية لصناديق التقاعد، التي أصبحت مهددة بالإفلاس مع حلول سنة 2028.
وسبق لرئيس الحكومة، عزيز أخنوش، أن تعهد، أمام البرلمان، بالشروع في تنزيل إصلاح منظومة التقاعد خلال السنة الماضية، حيث شرعت لجنة إصلاح أنظمة التقاعد في عقد اجتماعات من أجل التوصل إلى السيناريوهات المقترحة لتجاوز أزمة صناديق التقاعد، بهدف بلورة مشروع قانون سيحال على المؤسسة البرلمانية للمصادقة عليه، وخلصت إلى ضرورة ضمان ديمومة المنظومة على المدى الطويل، والحد من تأثير الإصلاح على ميزانية الدولة وتعبيد الطريق للمرور نحو نظام أساسي موحد.
وترأست نادية فتاح، وزيرة الاقتصاد والمالية، بمقر الوزارة عدة اجتماعات للجنة إصلاح أنظمة التقاعد التي تندرج في إطار تنفيذ مخرجات الاتفاق الاجتماعي والميثاق الوطني للحوار الاجتماعي الموقعين، في 30 أبريل من السنة الماضية، ما بين الحكومة والمركزيات النقابية والمنظمات والجمعيات المهنية للمشغلين.
وأعدت وزارة الاقتصاد والمالية وصفة الحكومة لإصلاح أنظمة التقاعد، بناء على الدراسة المنجزة من طرف أحد مكاتب الدراسات، خلصت إلى ضرورة ضمان ديمومة المنظومة على المدى الطويل، والحد من تأثير الإصلاح على ميزانية الدولة وتعبيد الطريق للمرور نحو نظام أساسي موحد. ومن أجل التوفيق بين كل هذه الأهداف، المتناقضة أحيانا، تقترح الحكومة اعتماد سقف موحد للنظام الأساسي يساوي مرتين الحد الأدنى للأجور بكل من القطب العمومي والقطب الخاص وذلك لتسهيل المرور مستقبلا نحو نظام أساسي موحد، وتقترح، كذلك، تقليص نسب الاستبدال لأصحاب الأجور المرتفعة في القطاع العمومي، وتجميد الحقوق المكتسبة في الأنظمة الحالية وعدم إعادة تقييم المعاشات على مدى العشر سنوات القادمة، مع رفع سن التقاعد إلى 65 سنة بما في ذلك القطاع الخاص، ورفع نسب الاشتراكات بما في ذلك القطاع الخاص.
وقدمت الوزيرة، أمام أعضاء اللجنة، تشخيصا وتحليلا للوضعية الراهنة، وذلك بعد تنزيل الإصلاح المقياسي لسنة 2016، حيث سيستنفد نظام المعاشات المدنية احتياطياته (68 مليار درهم) بحلول سنة 2028. وللوفاء بالتزاماته بعد ذلك، سيحتاج الصندوق المغربي للتقاعد ما يناهز 14 مليار درهم سنويا لتمويل عجز النظام. وأكدت الوزيرة أن هذا النظام يعد حاليا متوازنا بالنسبة للحقوق المكتسبة بعد إصلاح 2016، إذ إن الدين الضمني الحالي يهم بالخصوص الحقوق المكتسبة في الماضي، ويعرف النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد عجزا تقنيا مهما بلغ 3,3 مليارات درهم سنة 2021، وبفضل المستوى المهم لاحتياطياته (135 مليار درهم)، تمكن العوائد المالية للنظام من تغطية هذا العجز التقني.
وكشف تقرير حول المؤسسات والمقاولات العموميـة مرفق لمشروع قانون المالية لسنة 2025، أن أنظمة المعاشات المدنية، التي يسيرها الصندوق المغربي للتقاعد، ستعرف عجزا تقنيا مع حلول سنة 2028، ما يفرض إصلاحا لهذه الأنظمة لتفادي إفلاس الصندوق.
وأكد التقرير أن العجز التقني والهيكلي للأنظمة التي يسيرها الصندوق المغربي للتقاعد يشهد تفاقما متواصلا، ما قد يؤدي إلى استنفاد الاحتياطيات بحلول سنة 2028. وأفاد التقرير بأنه تجري حاليا دراسة مشروع إصلاح أنظمة المعاشات المدنية بالتشاور مع الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين، حيث سيستند إلى السيناريو الذي تمت الموافقة عليه مسبقا والذي يتمحور حول تحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسية، من بينها ضمان استمرارية النظام وإعادة توزيع شفاف وعادل، وبناء نظام تقاعد يتوافق مع الإمكانيات الاقتصادية للبلاد، مع حماية الحقوق المكتسبة للمتقاعدين والمنخرطين الحاليين عند تاريخ مباشرة الإصلاح.
الحكومة والتعليم.. انتظارات وتحديات عقود من أعطاب بنيوية
يدخل قطاع التعليم في المغرب السنة الأخيرة من ولاية الحكومة الحالية وهو محمل بانتظارات كبرى من طرف المجتمع، إذ يشكل هذا القطاع أحد الأعمدة الأساسية للمشروع التنموي الجديد الذي تراهن عليه الدولة. غير أن المسافة بين الوعود الانتخابية التي رُفعت في بداية الولاية والواقع الميداني الذي يعيشه التلاميذ والأساتذة والأسر ما زالت شاسعة، الأمر الذي يضع الحكومة أمام تحد مركب يتمثل في محاولة ترك بصمة إصلاحية ملموسة في ما تبقى من الزمن السياسي، ويبدو أن الرهان في هذه المرحلة لا يقتصر فقط على الاستجابة للمطالب الاجتماعية الملحة، وإنما أيضا على بعث رسائل سياسية قوية قبيل استحقاقات 2026، بما يعيد الثقة في المدرسة العمومية التي تعاني منذ عقود من أعطاب بنيوية.
لقد ظل التعليم في صلب النقاش العمومي بالمغرب، باعتباره رافعة مركزية لأي مشروع إصلاحي، لكن إخفاقات السياسات السابقة تراكمت بشكل جعل المنظومة التربوية تعيش على وقع أزمات متكررة، فالخصاص في الموارد البشرية لا يزال بارزا، حيث تشير الأرقام الرسمية إلى عجز بعشرات الآلاف من الأساتذة، وهو ما دفع الوزارة إلى اعتماد نظام التعاقد منذ سنوات، قبل أن تعيد إدماج هذه الفئة ضمن الأكاديميات الجهوية، ورغم محاولة الحكومة الحالية تحسين وضعية الأطر التربوية عبر الحوار القطاعي وإجراءات تحفيزية كتخصيص تعويضات للأساتذة العاملين بالمناطق النائية والجبلية، فإن الاحتقان المهني لم يُرفع بشكل نهائي، وما زالت تنسيقيات الأساتذة تنظم احتجاجات دورية للمطالبة بإدماج كامل في الوظيفة العمومية، وتسوية ملفات عالقة مرتبطة بالترقية والدرجة.
وعلى مستوى البنية التحتية، ورغم المجهودات المبذولة في بناء مؤسسات تعليمية جديدة، لا يزال مشكل الاكتظاظ مطروحا بقوة، خاصة في الوسط الحضري، حيث تصل بعض الأقسام إلى أكثر من 50 تلميذا، أما في الوسط القروي، فإن إشكاليات الهدر المدرسي وضعف النقل المدرسي وتدهور البنيات الأساسية تظل عائقا أمام تعميم التعليم وتكافؤ الفرص. ويضاف إلى ذلك ضعف تكوين المدرسين وغياب الوسائل البيداغوجية الحديثة التي تتلاءم مع تحولات العصر الرقمي، مما يكرس الفجوة بين المدرسة العمومية والتعليم الخصوصي الذي يزداد استقطابا للأسر.
ومنذ بداية الولاية، رفعت الحكومة شعار إصلاح المدرسة العمومية كأولوية، وربطت ذلك بتنزيل مضامين النموذج التنموي الجديد، الذي جعل من التعليم مدخلا أساسيا لإنتاج الثروة البشرية. وأعلنت الوزارة عن أوراش كبرى تتعلق بتعميم التعليم الأولي، والارتقاء بجودة التعلمات، وإصلاح مناهج وبرامج التربية والتكوين، غير أن العديد من هذه الأوراش لم تتجاوز بعد مرحلة التخطيط والتجريب، فيما ينتظر المواطنون نتائج ملموسة على أرض الواقع. وبالنسبة إلى الحكومة، فإن السنة الأخيرة تمثل امتحانا حقيقيا لإظهار جدية الإصلاح، خاصة أن المعارضة لا تفوت أي فرصة للتذكير بفشل الحكومات السابقة في إحداث قطيعة مع أعطاب المنظومة التعليمية.
وفي هذا السياق، تتجه الحكومة إلى إعطاء الأولوية خلال هذه السنة لتعزيز تكوين الأساتذة عبر المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، وتوسيع برامج الدعم الاجتماعي كتوسيع قاعدة المستفيدين من المنح المدرسية وتوفير الإطعام والنقل، باعتبارها عوامل أساسية لمحاربة الهدر المدرسي. كما تراهن على تعميم الرقمنة داخل المؤسسات التعليمية، سواء من خلال تجهيز المدارس بالإنترنت، أو توفير منصات تعليمية رقمية، وهو ورش لا يزال في بداياته، لكنه يعد شرطا ضروريا لمواكبة التطورات التكنولوجية التي يشهدها العالم.
ومن جهة أخرى، يواجه قطاع التعليم تحديات مرتبطة بمدى قدرته على الاستجابة لحاجيات سوق الشغل، حيث ما زالت الفجوة واسعة بين التكوينات التي تقدمها المدرسة والجامعة وبين متطلبات الاقتصاد الوطني. وفي هذا الصدد، تركز الحكومة على مراجعة المسالك الجامعية والمهنية، وتوسيع التكوين المهني باعتباره مسلكا واعدا لامتصاص البطالة، لكنها تدرك أن نتائج هذه الإصلاحات لن تظهر إلا على المديين المتوسط والبعيد.
وتراهن الحكومة على استثمار أي تقدم في ورش التعليم كعنصر دعائي انتخابي يعزز موقعها في أفق انتخابات 2026. فالناخبون، خاصة في المدن الكبرى، يقيسون جدية أي حكومة بمدى قدرتها على تحسين التعليم والصحة والتشغيل. لكن المعارضة والهيئات النقابية تواصل الضغط عبر تنظيم احتجاجات وإبراز الاختلالات البنيوية التي ما زالت تعيق المنظومة، مثل ضعف الحكامة، وغياب رؤية متكاملة لإصلاح المناهج والبرامج.
الحكومة وقطاع الصحة.. بين هاجس الإصلاح وتحدي الزمن السياسي
تدخل الحكومة سنتها الأخيرة وسط نقاش عمومي محتدم حول حصيلة برامجها الاجتماعية، وفي مقدمتها ملف إصلاح قطاع الصحة الذي يشكل أحد أعقد الأوراش وأكثرها حساسية بالنسبة للمواطنين. فالمغاربة، على امتداد السنوات الماضية، ما فتئوا يعبرون عن استيائهم من الوضع المتأزم للمستشفيات العمومية، سواء من حيث البنيات التحتية أو الموارد البشرية أو جودة الخدمات. ورغم المجهودات التي بذلت منذ بداية الولاية الحكومية الحالية، فإن التحدي الأكبر يظل قائماً: كيف يمكن للحكومة في ما تبقى من ولايتها أن تترك بصمة إصلاحية واضحة في قطاع الصحة، وتستعيد ثقة المواطنين في المنظومة الصحية الوطنية؟
يعاني قطاع الصحة من اختلالات بنيوية مزمنة جعلته في صدارة الملفات المطروحة على الأجندة الحكومية. فالعجز الكبير في الموارد البشرية، الذي يقدر، حسب تقارير رسمية، بأزيد من 32 ألف طبيب وأكثر من 65 ألف ممرض وتقني صحة، يظل أبرز التحديات التي تعرقل أي إصلاح فعلي.
وإلى جانب الخصاص العددي، تواجه المنظومة الصحية ضعفاً في التوزيع الجغرافي للأطر، حيث تتركز الكفاءات الطبية في المدن الكبرى، مقابل هشاشة واضحة في المناطق القروية والجبلية. أما على مستوى البنيات التحتية، فإن أغلب المستشفيات الإقليمية والجهوية تعاني من تقادم تجهيزاتها وضعف طاقتها الاستيعابية وعدم قدرتها على استيعاب الطلب المتزايد، وهو ما يترجم يومياً في شكل اكتظاظ بأقسام المستعجلات وطوابير طويلة من المرضى يضطر بعضهم إلى التوجه إلى القطاع الخاص أو السفر إلى مدن أخرى بحثاً عن العلاج.
ومنذ بداية الولاية الحكومية، راهنت السلطة التنفيذية على مشروع الحماية الاجتماعية كمدخل لإصلاح القطاع الصحي. فقد شكل تعميم التأمين الإجباري الأساسي عن المرض على جميع المغاربة نقطة تحول مفصلية بعد أن كان الملايين خارج أي تغطية صحية.. لكن هذا التوسع في قاعدة المستفيدين كشف عن ضعف جاهزية المستشفيات العمومية لتلبية الطلب الجديد، حيث تضاعف الضغط على الخدمات الصحية في غياب موارد إضافية موازية. وراهنت الحكومة، كذلك، على إطلاق مشروع المستشفيات الجهوية الجديدة، وعلى رأسها مستشفى ابن سينا بالرباط الذي يخضع لإعادة بناء شاملة، فضلاً عن مستشفيات جامعية في جهات أخرى يفترض أن تشكل رافعة للعرض الصحي، غير أن طول آجال إنجاز هذه المشاريع جعل أثرها الفعلي على المواطنين محدوداً في المدى القصير.
وفي سنتها الأخيرة، تجد الحكومة نفسها أمام زمن سياسي ضيق، لكنها ملزمة بتقديم إشارات قوية على التزامها بإصلاح المنظومة الصحية. ويبرز هنا محوران أساسيان، يتعلق الأول بتعزيز الموارد البشرية من خلال تسريع وتيرة توظيف الأطباء والممرضين وتوسيع الطاقة الاستيعابية لكليات الطب والصيدلة مع اللجوء إلى شراكات مع القطاع الخاص لتكوين مزيد من الأطر، إضافة إلى استقطاب الكفاءات الطبية المغربية المقيمة بالخارج عبر إجراءات تحفيزية. أما المحور الثاني فيرتبط بتحسين ظروف العمل وتحفيز الأطر، خصوصاً الأطباء والممرضين العاملين في المناطق النائية الذين ما زالوا يعانون من غياب التحفيزات وضعف التجهيزات. وتدرس الحكومة في هذا الصدد آليات لتفعيل تعويضات خاصة على غرار ما تم إقراره أخيراً في قطاع التعليم.
ولا ينفصل النقاش حول إصلاح قطاع الصحة عن الأفق السياسي للانتخابات التشريعية لسنة 2026، فالحكومة الحالية تدرك أن نجاحها في تقديم صورة إيجابية عن حصيلة قطاع الصحة سيكون عاملاً حاسماً في استعادة ثقة الناخبين. وفي المقابل تراهن المعارضة على إبراز مواطن الضعف، خصوصاً ما يتعلق باستمرار معاناة المواطنين مع طول مواعد العمليات الجراحية ونقص الأدوية والعجز في بعض التخصصات الدقيقة، من قبيل أمراض القلب والأورام. ولعل أبرز رهان سياسي يتمثل في أن أي إصلاح ملموس، خلال السنة الأخيرة، سيستثمر انتخابياً من قبل مكونات الأغلبية، بينما سيُنظر إلى أي تعثر أو فشل باعتباره إخلالاً بالوعود الانتخابية التي رُفعت في بداية الولاية.
فيما يرى خبراء أن الحكومة مطالبة في هذه المرحلة بالتركيز على الإجراءات العاجلة أكثر من المشاريع الكبرى بعيدة المدى. فإصلاح المنظومة الصحية لا يختزل فقط في بناء مستشفيات جديدة، بل في ضمان حق المواطن في ولوج خدمات علاجية أساسية بكرامة، سواء عبر تعزيز الموارد البشرية أو توفير الأدوية الأساسية أو تحسين البنيات التحتية القائمة. ناهيك عن أن تفعيل الحكامة الجيدة ومراقبة التدبير المالي والإداري للمؤسسات الصحية يعد شرطاً ضرورياً لتفادي تكرار الاختلالات التي لطالما رصدتها تقارير المجلس الأعلى للحسابات.
وفي المحصلة، يقف قطاع الصحة اليوم عند مفترق طرق، فالحكومة، في سنتها الأخيرة، أمام فرصة لتصحيح بعض الأعطاب المستعصية وتقديم مؤشرات ملموسة على الوفاء بوعودها، لكن الرهان ليس سهلاً في ظل ضيق الزمن وتراكم التحديات. وبينما يترقب المواطنون بقلق خطوات عملية ترفع عنهم معاناة الطوابير والاكتظاظ، يبقى السؤال مطروحاً: هل تنجح الحكومة في ترك بصمة إصلاحية واضحة في قطاع الصحة قبل نهاية ولايتها، أم سيظل الملف مرهوناً بانتظارات مؤجلة لحكومة جديدة؟
الحماية الاجتماعية ورش مفتوح بكلفة مالية ثقيلة تفوق 40 مليار درهم
أفاد عزيز أخنوش، رئيس الحكومة، في جلسة سابقة أمام مجلس المستشارين، بأنه من المتوقع أن تبلغ نفقات ورش الحماية الاجتماعية 39 مليار درهم سنة 2025، وأزيد من 41 مليار درهم سنة 2026، مشيرا إلى أن مجموع هذه النفقات بلغ سنة 2024 ما يناهز 32 مليار درهم. وأوضح أخنوش أن الحكومة «عملت على تعميم الحماية الاجتماعية وفق الأجندة والأهداف المحددة لها، عبر تعميم التأمين الإجباري الأساسي عن المرض وبرنامج الدعم الاجتماعي المباشر».
وأضاف أنه تم «توسيع الانخراط في أنظمة التقاعد، بما يضمن تأمين مستقبل مهني واجتماعي للفئات النشيطة، وتعميم التعويض عن فقدان الشغل لفائدة العاملين الذين يتوفرون على شغل قار، لضمان استقرارهم الاجتماعي والاقتصادي، وذلك قبل متم سنة 2025». وسجل أخنوش أن تكريس أسس الدولة الاجتماعية شكل «خيارا سياسيا واستراتيجيا، راهنت عليه الحكومة ووضعته على رأس أولوياتها منذ بداية هذه الولاية الحكومية»، مبرزا أن ذلك ليس «لمواجهة الإكراهات المرتبطة بالظرفية الدولية والوطنية فحسب، بل لكون التحول النوعي في النموذج الاجتماعي يشكل تجسيدا فعليا للمشروع المجتمعي الطموح الذي يقوده الملك محمد السادس». وتابع أن هذا المشروع يحمل في عمقه نواة دولة اجتماعية حديثة تضمن حق كل المغاربة في العيش الكريم، وتمكن المغرب من مواجهة التحديات الحالية والمستقبلية بثقة وفعالية أكبر.
وأشار أخنوش إلى «تنزيل الإصلاح الشامل للمنظومة الصحية الوطنية، وفق رؤية مندمجة تهدف إلى تعزيز فعالية القطاع الصحي والارتقاء بمستوى الرعاية الطبية على الصعيد الوطني، بما يضمن تغطية صحية أكثر شمولا ونجاعة، وبما يعكس إرادة الحكومة بالرفع من كفاءة هذا القطاع الذي ارتفعت ميزانيته من 19,7 مليار درهم سنة 2021 إلى 32,6 مليار درهم سنة 2025، أي بزيادة 65 في المائة».
وترأس أخنوش، خلال الأسبوع الماضي، اجتماع اللجنة الوزارية لقيادة إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية، تم خلاله الوقوف على حصيلة مختلف البرامج المندرجة في إطار ورش الحماية الاجتماعية، تجسيدا للإرادة الملكية السامية، وتتبع سير التسجيل في السجل الوطني للسكان والسجل الاجتماعي الموحد، وكذا التسجيل في نظام «أمو-تضامن»، وتتبع استفادة الأسر المعنية من برنامج الدعم الاجتماعي المباشر.
وأفاد بلاغ لرئاسة الحكومة بأن أخنوش جدد التأكيد على حرص الحكومة على التنزيل الأمثل للورش الوطني التضامني لتعميم الحماية الاجتماعية، وفق تصور واضح ومتكامل، وفي احترام تام للأجندة الملكية، مبرزا أن الحكومة تواصل جهودها الرامية لإرساء دعائم سياسة اجتماعية وطنية أكثر إنصافا واستدامة، كما يريدها الملك محمد السادس.
وأوضح البلاغ أن اللجنة تتبعت، خلال هذا الاجتماع، سير عملية التسجيل في السجل الوطني للسكان، والسجل الاجتماعي الموحد التي تتواصل بوتيرة مستقرة، لافتا إلى أن عدد المسجلين في السجل الوطني للسكان بلغ حوالي 22,5 مليون شخص، في حين بلغ عدد الأسر المسجلة في السجل الاجتماعي الموحد 5,3 ملايين أسرة.
كما تم الوقوف على ارتفاع عدد المستفيدين من أنظمة التغطية الصحية (أمو تضامن، وأمو الأجراء، وأمو غير الأجراء، وأمو الشامل) من 8,6 ملايين إلى 24,3 مليون مستفيد من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وذلك في الفترة الممتدة بين سنة 2021 ومتم سنة 2024، وفي هذا السياق، أبرزت اللجنة أن ورش تعميم التغطية الصحية يتطور بشكل ملحوظ، مؤكدة أهمية رفع مختلف التحديات التي تواجه استدامة هذا الورش، على غرار استخلاص واجبات الاشتراكات.
وفي ما يتعلق بالشق المتعلق بنظام «أمو- تضامن»، أشارت اللجنة إلى استفادة حوالي 4 ملايين أسرة (أي ما يقارب 11 مليون شخص)، موضحة أن عدد ملفات «أمو- تضامن» المودعة يوميا لدى الصندوق بلغ أكثر من 102.000 ملف إلى حدود يوليوز 2025، مقابل 93.000 ملف خلال يوليوز 2024.
كما أكدت اللجنة، بحسب البلاغ، أن قيام الحكومة بإحداث نظام المعاشات لفائدة المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا «AMO-TNS»، ساهم في ضمان مظاهر الاستقرار الاجتماعي لهذه الطبقة النشيطة داخل المجتمع، مضيفة أن هذا النظام مكن من فتح باب الولوج في وجه 4,28 ملايين مستفيد من التغطية الصحية، يتوزعون بين المؤمنين الرئيسيين وذوي حقوقهم.
وعلى صعيد برنامج الدعم الاجتماعي المباشر، أفادت اللجنة بأن عدد المستفيدين من البرنامج بلغ في متم شهر غشت 2025 حوالي 4 ملايين أسرة، من بينهم 5,5 ملايين طفل، وأكثر من 1,3 مليون شخص تفوق أعمارهم 60 عاما.
وكشفت اللجنة، خلال هذا الاجتماع، أنه تم صرف 40,5 مليار درهم، على شكل إعانات مباشرة منذ انطلاق برنامج الدعم الاجتماعي المباشر في دجنبر 2023، لافتة إلى أن 60 في المائة من الأسر المستفيدة تنتمي إلى العالم القروي.
وأشار البلاغ إلى أنه تم التذكير، بالمناسبة، بإيجابيات «الدعم الإضافي الاستثنائي» الذي أطلقته الحكومة، لتعزيز فرص التمدرس في صفوف التلاميذ، ومساعدة أكثر من 1,8 مليون أسرة مسجلة في السجل الاجتماعي الموحد على تحمل أعباء التكاليف واللوازم المدرسية، سيما وأن الطاقة الاستهدافية لهذا الدعم بلغت خلال الدخول المدرسي الحالي 3,2 ملايين تلميذ.
الحكومة والتشغيل.. أرقام البطالة في مواجهة استراتيجية وطنية
يعتبر التشغيل أحد أبرز التحديات التي تواجه الحكومة المغربية، وهو قطاع حيوي مرتبط مباشرة بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. ومع دخول الحكومة سنتها الأخيرة، فإن الرهان على ترك بصمة ملموسة في هذا المجال أصبح أكثر وضوحًا، خاصة بعد أن أعلنت في عدة مناسبات أن السنة الأخيرة من ولايتها ستكون سنة الاشتغال على استراتيجية وطنية شاملة للتشغيل، تهدف إلى معالجة أوجه الاختلال في سوق الشغل، وتقليص نسبة البطالة، وتعزيز القدرة التنافسية للقوى العاملة المغربية. ويتزامن هذا التوجه مع انتظارات شعبية متزايدة، خصوصًا من فئات الشباب والخريجين الذين يعانون من صعوبات في الولوج إلى سوق العمل، فضلاً عن التحديات الاقتصادية الناتجة عن تداعيات الجائحة وتباطؤ النمو الاقتصادي في بعض القطاعات.
وعلى الرغم من كل الخطط والإعلانات السابقة، فإن واقع سوق الشغل يظل يعاني من أزمات متكررة، أبرزها ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب والنساء، وارتفاع التشغيل غير المهيكل، وضعف فرص الإدماج في القطاعات الحديثة والواعدة. ويبدو أن الحكومة تدرك اليوم، في ضوء تقييمات منتصف الولاية، أن الإصلاحات الجزئية التي تم القيام بها لم تحقق النتائج المرجوة بعد، وهو ما يضع المسؤولين أمام تحدٍ مزدوج: ضرورة التسريع في تنزيل الإجراءات العملية وفي الوقت ذاته محاولة تقديم حلول استراتيجية على المدى المتوسط والبعيد. ويتجلى ذلك في سعي الوزارة الوصية إلى وضع خطة وطنية للتشغيل تتضمن إصلاح التكوين المهني، وربط التعليم بسوق الشغل، وتشجيع الاستثمار في المشاريع الصغرى والمتوسطة التي يمكن أن تكون محركًا لخلق مناصب عمل جديدة.
ومن بين الإجراءات التي تعكف الحكومة على تفعيلها في هذه المرحلة، العمل على تحسين مؤشرات التوظيف العمومي، عبر فتح مباريات منتظمة وشفافة لمختلف الوظائف، وتوسيع برامج الإدماج المهني للشباب الحاصلين على شواهد جامعية وتقنية، مع التركيز على المناطق الجهوية الأكثر هشاشة من حيث فرص التشغيل. ويرتبط هذا التوجه أيضًا بمحاولة تحفيز القطاع الخاص على توظيف الشباب، من خلال حوافز ضريبية وتمويلية، إضافة إلى دعم المقاولات الناشئة، وإرساء شراكات مع الفاعلين الاقتصاديين لتوفير فرص تدريبية عملية تتلاءم مع احتياجات السوق.
إلا أن تنفيذ هذه الاستراتيجية يواجه عدة تحديات، أبرزها ضعف القدرة التنبؤية لسوق العمل، وتقلبات الاقتصاد الوطني وتأثيرها على القطاعات الواعدة، إلى جانب الخصاص البنيوي في المعلومات والبيانات المتعلقة بالتشغيل والتي تعيق القدرة على التخطيط الفعّال. كما أن الفجوة بين المؤهلات المتوفرة لدى الشباب ومتطلبات سوق الشغل الحديثة ما زالت تمثل أحد العوائق الكبرى، وهو ما يتطلب نهجًا تكامليًا بين وزارات التعليم والتكوين المهني والتشغيل والاقتصاد لتفادي استمرار فجوات البطالة المزمنة.
وعلى المستوى السياسي، يكتسب موضوع التشغيل بعدًا خاصًا في السنة الأخيرة من الولاية، إذ يمثل مؤشراً على مدى جدية الحكومة في الوفاء بتعهداتها، كما أنه مرتبط مباشرة بمصداقية البرامج الاجتماعية التي تعتمد عليها الأحزاب الحاكمة لتعزيز شعبيتها في أفق الانتخابات القادمة. ويبدو أن الحكومة، مدركة لحساسية الوضع، تراهن على إنجاز مخرجات استراتيجية تشغيلية قابلة للتنفيذ خلال الأشهر المتبقية، لتقديمها كإنجاز ملموس أمام الرأي العام، وهو ما قد يسهم في إعادة الثقة إلى المؤسسات وإظهار قدرة الدولة على الاستجابة لاحتياجات المواطنين في مجال محوري كالعمل.
ومن جهة أخرى، يلاحظ مراقبون أن الاحتجاجات التي شهدتها بعض المدن والجهات خلال السنوات الماضية، والتي طالبت بفرص عمل عادلة ومساواة في الإدماج، تشير إلى الحاجة الملحة إلى حلول ملموسة، وأن أي استراتيجية وطنية للتشغيل يجب أن تراعي البعد المجالي وتستهدف المناطق الأكثر هشاشة، لضمان العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق الاقتصادية بين الأقاليم. وفي هذا السياق، يمثل التركيز على التشغيل في السنة الأخيرة فرصة لتجاوز التأخر في إنجاز مشاريع الإصلاح السابقة، ولتقديم نموذج فعال يمكن أن يكون مرجعًا للحكومات المستقبلية، بحيث يتحول الرهان إلى واقع ملموس يؤثر إيجابًا على حياة المواطنين ويدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
لعبد الحفيظ ادمينو*
“الحكومة بين تحديات الزمن السياسي ورهانات القطاعات الاجتماعية”
– كيف يمكن للحكومة تدبير ما تبقى من الزمن السياسي للوفاء بوعودها في قطاعات التعليم والصحة والتشغيل؟
تدبير ما تبقى من الزمن السياسي بالنسبة للحكومة يقتضي قراءة دقيقة لمعطيات السياقين السياسي والاقتصادي. فمن الناحية النظرية، الولاية الحكومية تمثل فترة زمنية محددة تُمنح للسلطة التنفيذية من أجل تفعيل برنامجها المعلن عنه أمام البرلمان، وهو برنامج يكتسي صبغة تعاقدية بينها وبين الناخبين. غير أن التجربة المقارنة، وكذا الواقع المغربي، يبرزان أن السنوات الأخيرة من أي ولاية حكومية غالبا ما تتسم بضغط سياسي مضاعف: من جهة تزايد انتظارات المواطنين، ومن جهة أخرى بداية العد التنازلي للاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
في هذا الإطار، يصبح من الصعب تصور أن الحكومة ستتمكن في أقل من سنة من معالجة أعطاب مزمنة في قطاعات معقدة مثل التعليم والصحة والتشغيل، وهي قطاعات ارتبطت تاريخيا بإصلاحات هيكلية طويلة المدى. لذلك، فإن الرهان الأساسي لا يتعلق بقدرة الحكومة على إنجاز تحول جذري، وإنما بقدرتها على إعطاء إشارات سياسية ومؤسساتية واضحة تثبت أنها جادة في الوفاء بوعودها، حتى وإن كانت النتائج الفعلية ستظهر بعد انتهاء ولايتها.
في قطاع التعليم، مثلا، يمكن أن تركز الحكومة على إخراج النصوص التطبيقية المتعلقة بالقانون الإطار للتربية والتكوين، والشروع في تنزيل بعض الأوراش التي لا تحتمل مزيدا من التأجيل، مثل معالجة أزمة الاكتظاظ أو إعادة النظر في المناهج وفق المقاربة بالكفايات. أما في قطاع الصحة، فإن تسريع تنزيل ورش إصلاح المنظومة الصحية، بما في ذلك اعتماد الجهوية الصحية وإعادة هيكلة الموارد البشرية عبر قانون الوظيفة الصحية، يمكن أن يشكل إشارة قوية. وفي قطاع التشغيل، لا بد من إجراءات سريعة لتحفيز الاستثمار ودعم المقاولات الناشئة، عبر تبسيط المساطر وتوسيع قاعدة المستفيدين من برامج التمويل.
و يمكن القول إن الحكومة أمام معادلة “الشرعية والفعالية”. فهي مطالبة باستعادة ثقة المواطنين عبر إنجازات ملموسة، حتى ولو كانت محدودة، لأن الشرعية الانتخابية مرتبطة برصيد المصداقية أكثر مما هي مرتبطة بحجم المشاريع. فالناخب في نهاية المطاف يقيم الحكومة بناءً على ما لمسه بشكل مباشر، وليس بناءً على ما هو موعود أو مستقبلي.
– هل يمكن اعتبار الاحتجاجات المجالية التي شهدتها عدة مناطق والمرتبطة بهذه القطاعات، دليلا على فشل الحكومة في الوفاء بوعودها؟
الاحتجاجات المجالية التي عرفتها بعض المناطق المغربية خلال السنوات الأخيرة تمثل ظاهرة مركبة، يصعب تفسيرها في بعد واحد ويمكن القول إنها تعبير عن ما يسمى عدم الرضى الأوضاع الاجتماعية في بعض المناطق ومثال واقعي لما كان جلالة الملك قد أشار إليه في خطاب العرش الأخير حين أشار إلى أنه لم يعد مقبولا أن يسير المغرب بسرعتين، أي أن المواطن المغربي بات يتوقع تحسنا سريعا في مستوى الخدمات العمومية، خاصة بعد إطلاق برامج كبرى مثل تعميم الحماية الاجتماعية أو ورش إصلاح الصحة والتعليم، غير أن تأخر الأثر الملموس لهذه البرامج على الواقع اليومي دفع العديد من الفئات إلى اللجوء إلى الاحتجاج كآلية للتعبير عن مطالبها.
لكن من منظور آخر، لا يمكن اختزال هذه الاحتجاجات في كونها دليلا قاطعا على فشل الحكومة، بقدر ما تعكس خللا في آليات الوساطة المؤسساتية. فالأحزاب السياسية والنقابات، التي يفترض أن تقوم بدور الوسيط بين الدولة والمجتمع، لم تعد تؤدي هذا الدور بالنجاعة المطلوبة، مما جعل الشارع يحتل مكانة متقدمة في التعبير عن المطالب. هذا الوضع يضع الحكومة في مواجهة مباشرة مع المواطنين، دون وسائط قادرة على امتصاص الغضب أو إعادة توجيهه في قنوات مؤسساتية.
مع ذلك، من الخطأ إنكار أن هذه الاحتجاجات تحمل رسائل سياسية قوية، فهي تكشف محدودية أثر السياسات الحكومية في القطاعات الاجتماعية. ففي قطاع الصحة، لا يزال الولوج إلى الخدمات متعثرا في المناطق القروية والنائية. وفي التعليم، ما تزال مظاهر الاكتظاظ وضعف البنية التحتية بارزة. أما التشغيل، فلا يزال يعاني من ضعف التنسيق بين السياسات القطاعية، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة خصوصا لدى الشباب.
إذن، لا يمكن القول إن الحكومة فشلت بالكامل، لكنها لم تنجح بعد في جعل سياساتها تترجم إلى نتائج ملموسة على المستوى المحلي والجهوي. إن الاحتجاجات تمثل، في هذا السياق، آلية للمساءلة المجتمعية خارج الإطار البرلماني، وهي مؤشر على أن الرهان على القطاعات الاجتماعية لم يعد فقط رهانا تنمويا، بل أصبح رهانا سياسيا يمس شرعية الفاعل الحكومي نفسه.
– ما الذي يمكن أن يشكل نقطة تحول للحكومة قبل نهاية ولايتها؟
في السنة الأخيرة من الولاية، يصبح الزمن السياسي محددا للغاية، وتتحول الأولويات من التفكير في الإصلاحات البنيوية طويلة المدى إلى التركيز على ما يمكن أن يُنجز بشكل ملموس وقابل للقياس. أي تلك الإجراءات التي قد لا تغير الواقع جذريا، لكنها تحمل قيمة رمزية قوية لأنها تعطي للمواطن إحساسا بأن الحكومة استمعت له واستجابت لبعض مطالبه الأساسية.
لكن، وبالعودة إلى التحليل الأكاديمي، فإن نقطة التحول الحقيقية قد لا تكون في مضمون السياسات وحده، بل في طريقة تواصل الحكومة مع المجتمع. فالمواطن اليوم لا يطالب فقط بالخدمات، بل أيضا بالشفافية وبخطاب واقعي يشرح له حدود الإمكانيات المالية واللوجستية، وإذا تمكنت الحكومة من اعتماد خطاب جديد يقوم على الصراحة وتوضيح الأجندة المتبقية، فإنها ستعزز رصيدها السياسي حتى لو لم تنجز كل ما وعدت به.
بمعنى آخر، نقطة التحول تكمن في استعادة الثقة، فإذا نجحت الحكومة في جعل المواطن يشعر بأن مسار الإصلاحات بدأ فعلا، وأن هناك التزاما مؤسسيا يتجاوز ولاية انتخابية واحدة، فإنها ستضمن انتقالا سلسا نحو الاستحقاقات المقبلة. أما إذا واصلت سياسة الوعود الفضفاضة، فإنها ستخسر رصيدها السياسي وستفتح الباب أمام منافسين جدد لتوظيف فشلها في الحملات الانتخابية.
*أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بالرباط






