
جهاد بريكي
تتغير الأشياء فينا والأحاسيس وحتى الملامح، بتغير الأماكن والأزمنة والناس من حولنا، وبتعاقب التجارب التي تبتلعنا ثم تلفظنا نسخا مختلفة قد نجد أحيانا صعوبة بالغة في التعرف على ذواتنا بعدها. والتغير سنة الكون والخلق وهو مصيرنا الذي مهما عاندناه وتجنبناه كان لا بد له من تعقبنا. إلا أن هناك أشياء خفية بسيطة تبقى عصية على رحى التغيير الدائرة، متماسكة رغم هشاشتها كأنها جيش غجري متشوق للموت والفناء. لا تهتز مهما اهتزت أفكارنا ومعتقداتنا ومهما انسلخنا من عباءاتنا القديمة. تماما كفرحة الطفل فينا باليوم الذي نسميه عيدا رغم أنه يوم يشبه كل أيام السنة، نعود فيه أدراجنا إلى الغابر من أعمارنا لنلامس دهشة البراءة المنبهرة بلباسها الجديد وحلويات العسل واللوز.
صباح على غير عادته تغشاه لمسة سلام وتصالح تجعلك على استعداد لمعانقة ألد أعدائك وخصومك. شعور بأن الكون يتراقص من حولك وأنك اليوم عبارة عن كائن خلق ليحتفل، ليقيم البهجة وينصب خيمة الفرح. هو صباح العيد الذي نستيقظ فيه مصممين على السعادة. أغادر فراشي بحماس جندي يتوجه نحو حفل تتويجه بنياشين الفخر. أتلصص على ملابسي الجديدة فأرمقها بنظرة مودة بالغة، بعد أن أتأكد من وجودها في مكانها، ثم أهرع إلى وسط بيتنا محدثة ضجة خفيفة مفتعلة لتوقظ النوام دون إزعاجهم. تختلط العطور بعضها ببعض، عطر أمي الدافئ كبلدة من ياسمين ناضج ومسك أبي وعطور أخواتي المائلة لطعم الفاكهة والغنج. أراقب الملامح فأرى الفرح وأتعرف عليه، هو ذاك السلام الحار الذي نتبادله رغم أننا لم نفترق، وهو تلك الضحكات التي تنفلت لأي سبب، هو التلبية التي نكررها ونحن نشد الرحال للمصلى الكبير، هو لهفة أبي لمعانقة أصحابه وحماس أخواتي لرؤية صديقاتهن والتباهي بجلابيبهن. هو الصمت الذي يعم مدينة بأكملها لحظة سجود فتهدأ إلى أن يكبر الإمام للسلام. هو ركض الأطفال المندفعين بين الصفوف، هو البياض الذي يغشى الشوارع فيراها الناظر كنهر سعيد من لؤلؤ خالص.
أجلس كتاجر من بلاد النفط والإبل أعد ثروة العيد وغنيمته، والتي ما كانت سوى جنيهات لا أدري ماذا أفعل بها، تنتهي غالبا وديعة في حقيبة أمي تنساها دائما غير مبالية بغضبي. يهدأ غضبي وأكتفي فقط بسؤالها إن كنت أنا أعز أبنائها. فلا تجيب. يتنافس أخوالي وخالاتي في أيهم أكرم وأيهم صاحب العيدية الأضخم، ونستمتع نحن بهذه المنافسة الشريفة. ثم يقررون اصطحابنا إلى مصور الحي لتوثيق المناسبة وتخزين الحجة والدليل على أنهم كانوا آباء جيدين، حتى إذا ما كبرنا أرونا صور العيد ونحن بألبسة ملونة ومزركشة متفاخرين بذوقهم الرائع في الاعتناء بمظهرنا الصغير. يلتقط المصور الصورة بعد عدة توجيهات لنا، نصفنا يبتسم والنصف الثاني يسخر من الأول. نركض نحو البيت منتشين بإنجازنا الصغير، نتبادل الحلوى والأسرار، نشارك النكت والكذب، نتفاخر بنقطنا ونتائجنا الصفراء وسيارات آبائنا وحلي أمهاتنا. نلعب بفرح مختلف، لا يشبه ذلك الذي اعتدناه في أيامنا العادية، لعب يوم العيد له فخامة الندرة وبهجة الاحتفال.
ندخل عالم البالغين ونقتحم قلعة الكبار فلا يبقى لنا سوى صور العيد وذاكرة الحنين لأزمنة خلت. ونجد شعور الغبطة الطفولي بكل عيد حل علينا أينما كنا وكيفما كنا ما زال على حاله، أبيا على معول الهدم الذي نحتنا خلقا آخر، نلامس الوريد السري الممتد بيننا وبين الكائن الصغير المتباهي بزيه الجديد المحتاج دائما للعيد وليد أمه تختار له أشهى رغيف. نطمئن على الوريد المتدفق دمه بغزارة ونقبل الذاكرة الصامتة إلى حين موعد العيد.



