شوف تشوف

الرأي

هل باع الأمير عبد القادر الجزائر لفرنسا

توفيق رباحي

يتداول الجزائريون تسجيلا مصورا للسياسي نور الدين آيت حمودة، يتضمن كلاما خطيرا عن الأمير عبد القادر الجزائري.
آيت حمودة هو نجل العقيد عميروش، أحد أبرز القادة الميدانيين أثناء ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي. توفي عميروش خلال معركة ضارية مع جنود الاحتلال، برفقة قائد الولاية السادسة سي الحواس، في منطقة بوسعادة بالهضاب العليا الوسطى، شهر مارس 1959. وعرف في حياته قائدا فذا للولاية الثالثة (منطقة القبائل التي ينحدر منها) مقداما يفضل القتال عن السياسة.
يستمد نور الدين آيت حمودة شجاعته ومواقفه السياسية المثيرة للجدل، من تاريخ والده المغمور بكثير من الإيجابية والاحترام والتمجيد. ويستمدها أيضا من ثقته بأن السلطات لن تؤذيه، لأنه ينتمي إلى منطقة سريعة الاشتعال.
التسجيل عبارة عن مقابلة مع مذيع أثبت أنه لم يقرأ عن الأمير عبد القادر أكثر مما علموه في المقررات الدراسية، ويفتقر للقدرة على إدارة الحوارات، خصوصا مع سياسيين من أمثال آيت حمودة. طيلة عشرين دقيقة كال آيت حمودة اتهامات خطيرة للأمير عبد القادر، منها أنه «سلم الجزائر لفرنسا (في اتفاقية التافنة)، بينما كان عليه أن يقاتل حتى الموت مثل عميروش». وكال اتهامات لا تقل خطورة، سياسية وإنسانية، لأولاده وبناته وكل سلالته، مدعيا أن بحوزته وثائق تاريخية من مصادرها الأصلية وأن «من لم يعجبه الأمر أمامه المحاكم».
للأمانة، قال آيت حمودة بصوت مرتفع ما يردده بعض الجزائريين في صمت، لأن التاريخ الرسمي يصنف الأمير عبد القادر «بطلا قوميا»، فيعتبره «مؤسس الدولة الجزائرية»، ويرفعه إلى مقام أقرب إلى التقديس. بينما يتردد في المجالس الخاصة والتاريخ غير الرسمي، أن الأمير كان ماسونيا، وأنه اختار فرنسا على الجزائر عندما كان عليه أن يختار، وغير ذلك من الاتهامات.
للأمانة (مرة أخرى) ما قاله آيت حمودة عن الأمير عبد القادر يقول مثله جزائريون آخرون، عن بقية قادة الحركة الوطنية والثورة. لا أدري كيف اتفق الجزائريون على أنه لا يوجد قائد طاهر وفوق الشبهات، بما في ذلك العقيد عميروش الذي يقال إنه، في ذروة سطوته، بلع طعما زرعته المخابرات الفرنسية زُعم فيه أن كثيرا من القياديين المحيطين به (عميروش) جواسيس وعملاء للاستعمار. شن عميروش، على ضوء تلك المعلومات المضللة، حملة تصفية وصفت بالإبادة، وحاول تحريض بقية قادة الولايات على أن يفعلوا مثله. اشتهرت العملية المعقدة باسم «الطائر الأزرق». بدأت في 1957، بُعيد «معركة الجزائر» العاصمة، وانتهت بمذبحة أودت بمئات القياديين الأبرياء، خصوصا المتعلمين، ما كانت فرنسا أن تنفذ مثلها لو أرادت. التاريخ الجزائري الرسمي لا يخوض في هذه «المذبحة»، حفاظا على سمعة عميروش ونقاء الثورة وقدسيتها، مثلما يرفض الخوض في جزء من تاريخ الأمير عبد القادر.
توقيت التصريحات مشبوه، ونور الدين آيت حمودة سياسي مغمور يستمد شرعيته من والده. هذه الشرعية، على أهميتها، لا تمنحه الحق لينصب نفسه مؤرخا. في المقابل، لا يملك الآخرون حق التكتم على التاريخ أو تزويره كما حدث في كثير من الحالات. تاريخ الجزائر، خصوصا تاريخ الفترة الاستعمارية وثورة التحرير، ملغوم ومخيف. وقبل ذلك فيه كثير من النفخ في المشاعر القومية التي قد تُفهَم في سياقها، لكنها لا تبرر طمس الحقائق.
لكي تتجه الجزائر إلى المستقبل يتحتم عليها أولا أن تتوقف عن تمجيد التاريخ إلى حد لي عنقه. هذا يعني، ببساطة، التصالح مع تاريخها. التصالح مع التاريخ، تاريخ الثورة خصوصا، يعني وضع حقائق آنذاك في سياقها، والبدء بالتعامل معها بالقدر الممكن من الموضوعية والتجرد. وكذلك حصرها في كون أبطالها بشر يخطئون ويصيبون، لهم نزوات وكانوا تحت ضغوط هائلة من بين ظهرانيهم ومن العدو الفرنسي. لا أحد يستطيع نزع صفة القائد الوطني عن الزعيم مصالي الحاج. لا أحد يحق له اتهام «المركزيين» بالجبن أو التخاذل، لمجرد أنهم اقترحوا تأخير موعد إطلاق الثورة. لا أحد يستطيع أن يلوم العقيد عميروش على وقوعه في فخ «الطائر الأزرق». لا أحد يحق له القول إن فريق مفاوضات الاستقلال تخاذل أو تنازل.. إلخ إلخ.
لو أن الجزائر الرسمية لم تتورط في إصباغ التاريخ بقدسية مفرطة، لأمكنها اليوم التعاطي معه بقيود أقل وموضوعية أكثر. هذه القدسية التي سارعت إليها الجزائر الرسمية منذ بداية كتابة التاريخ هي التي تشل اليوم التفكير الحر، وتجعل كلاما مثل الذي قاله آيت حمودة يبدو كفرا كفيلا بإشعال حرب أهلية.
كنت محظوظا أن جلست مرارا مع الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد (رحمه الله). استمعت منه بشغف كبير لقصص عن تاريخ الثورة، بعضها مأسوي وآخر مضحك. كان يتكلم عن محمد بلوزداد والعربي بن مهيدي ومصطفى بن بولعيد ومحمد يزيد عن دراية، كما يتحدث أي شاب عن رفاقه في المدرسة الابتدائية. أذكر أنني بذلت مجهودا ذهنيا كبيرا لأضع كل واقعة أو موقف في سياقه وظروفه.
النتيجة التي تخرج بها هي ما قلت آنفا: شباب من كل الفئات والطبقات والاتجاهات قاموا بمغامرة جريئة كانت في بعض المواقف أكبر منهم، وكادت في بعض الأحيان أن تفلت منهم. لهذا يجب أن يعي الجزائريون أن ترك تاريخ ملغوم ومعقد في أيدي هواة مثل آيت حمودة، مثل ترك مسدس بذخيرته في يد طفل أهوج، وأن عليهم أن يستعدوا لمذبحة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى