
منذ أن تدهورت الأوضاع الأمنية في جمهورية السودان، ظل المغرب يتابع مجريات الأحداث آملا في أن يجد الفرقاء السياسيون والعسكريون مخرجا من الأزمة. بل إن الملك محمد السادس أعطى تعليماته السامية لتأمين عودة المواطنين المغاربة من هذا البلد، ودعم استقرار هذا البلد الذي جمعته بالمغرب علاقات موغلة في القدم.
لقد تعرف المغاربة على بلاد السودان منذ أن كانت طريقهم إلى الحج، وتعززت العلاقات حين أصر عدد من الحجاج المغاربة على الاستقرار في السودان بعد أدائهم لمناسك الحج، بعدما لمسوا الترحاب الكبير بهم، لتتطور تلك العلاقات بالمصاهرة ويتمخض عنها تجمع حمل اسم مغاربة السودان، وأصبح مع مرور السنوات جزءا من النسيج الاجتماعي السوداني.
في السودان، تعمل جمعية الأخوة السودانية المغربية على صيانة هذا الموروث العرقي وتثمين عمق العلاقات بين البلدين والشعبين، سيما وأن شعب السودان كان حاضرا في حدث سياسي بارز مثل «المسيرة الخضراء» عبر وفد رسمي وشعبي ترك بصماته في التاريخ المغربي المعاصر، فضلا عن الجسر العلمي بين الخرطوم والرباط والذي جعل الطلاب الدارسين في المغرب يتجاوز الآلاف.
في الملف الأسبوعي لـ «الأخبار»، سفر في عمق العلاقات المغربية السودانية، ونفض لطبقات الغبار التي تغطي هذا الموروث الإنساني.
وفد سوداني في طليعة المشاركين في المسيرة الخضراء
في فاتح نونبر 1975، وصل إلى المغرب على متن طائرة خاصة، وفد من جمهورية السودان مكون من 120 عضوا يمثلون تنظيمات سياسية ونقابية سودانية، وذلك لمشاركة الشعب المغربي في مسيرته التحريرية الظافرة.
يقول الدكتور مصطفى مبارك «إن مشاركة السودانيين وإسنادهم لإخوانهم في المملكة المغربية واستجابتهم لنداء ملك المغرب كانت فورية، مما يوضح عمق وعظمة العلاقة بين الشعبين الشقيقين. ومع إعلان المسيرة الخضراء تم مباشرة فتح مكاتب للتطوع فيها بالسودان في العاصمة الخرطوم والأقاليم، وانطلقت مكاتب لتسجيل المتطوعين السودانيين الراغبين في المشاركة، وقد فتحت في كل أقاليم السودان، «تدافع وقتها السودانيون في حب كامل المشاركة فكانت تظاهرة حب للمغرب، بل إن الملك الحسن الثاني استقبل في مراكش سفير السودان في المغرب وقتها رشيد نور الدين الذي سلم جلالة الملك رسالة شخصية من الرئيس الأسبق جعفر النميري، يؤكد فيها تضامن السودان المطلق مع المغرب ووقوف الشعب السوداني كله إلى جانب المغرب في مسيرته السلمية الخضراء الهادفة إلى استكمال الوحدة الترابية بتحرير الصحراء المغتصبة».
يقول قاسم عثمان نور، وهو سوداني كان من المشاركين في المسيرة الخضراء: «كنت مشاركا فيها ممثلا لجامعة الخرطوم، المسيرة شهدت مشاركة كافة أطياف المجتمع المغربي، بالإضافة إلى مجموعات من الأشقاء العرب، فالسودان كان له شرف المشاركة في هذا الحدث، وكان الوفد يضم حوالي مائتي عضو من ممثلي النقابات والهيئات مثل نقابة الأطباء وغيرها من النقابات برئاسة الدكتور عبد الله على نقيب المعلمين السودانيين». وأكد قاسم أن يوم المسيرة كان ملحمة حقيقية عظيمة تجمعت فيه فئات المجتمع المغربي بأشقائهم من كل العالم ومحبي المغرب والتأكيد على السودانيين الذين كانوا في المقدمة وهم يحملون المصاحف وأغصان الزيتون. وفي التاسعة مساء أذاع الملك بيانا عن تراجع إسبانيا عن الصحراء، وأعلن عودتها إلى المغرب أرضا وشعبا، وفي الوقت نفسه طلب عودة الوفود إلى مناطقها بعد أن شكرهم على تلبية النداء خاصة وفود الأشقاء العرب ومنهم السودان بوفده الكبير، كما قام بمنح ميدالية الصحراء المغربية لكل من شارك في المسيرة من الأشقاء العرب والمغاربة».
قبيلة المغاربة في السودان تنجب وزراء ومفكرين وسياسيين
لا تخلو إدارة أو قطاع عسكري أو مدني في السودان من وجود شخصيات مغربية، بسبب تداعيات انتشار جذور قبيلة المغاربة الضاربة في عمق التاريخ السوداني. هناك العديد من القواسم المشتركة التي مهدت للتوغل في النسيج المجتمعي بالسودان الشقيق، أبرزها المذهب المالكي واللباس والتصوف ناهيك عن اللغة وروابط أخرى جعلت قبيلة المغاربة منجما لكثير من أعلام السودان يضيق المجال للوقوف عند سيرهم الذاتية ودورهم في الالتقاء بمجتمع كان سباقا لاستضافة الحجاج المغاربة وهم في طريقهم لأداء مناسك الحج، في حين اختار كثير منهم الاستقرار بعد انتهاء المناسك في السودان.
وعلى الرغم من قلة المراجع التي تسلط الضوء على الوجود المغربي في السودان، إلا أن عددا من القبائل كانت لها أصول مغربية، على غرار قبيلة الشناقيط والأدارسة والمحاميد وابن مشيش وهوارة وغيرها من القبائل ذات الجذور المغربية.
وحسب كتابات إعلامية، فقد سبق لكامل عبد الماجد، المستشار في المجلس الوطني السوداني، (وكان محافظا سابقا في عدد من محافظات السودان)، وأحد المنتسبين لقبيلة المغاربة بالسودان، أن صرح لوكالة الأنباء المغربية، قائلا: «أسلافنا المغاربة أتوا منذ حوالي 500 أو 550 عاما إلى السودان لنشر الإسلام، قادمين من عدة مناطق بالمغرب، خاصة من فاس، ولعل ذلك ما يفسر القول المأثور عند أهل السودان «فاس اللي ما وراها ناس».
وبحسب هذا السوداني ذي الأصول المغربية، فإن أغلب هؤلاء الوافدين كانوا من علماء الدين ورجالات التصوف، وعندما دخلوا إلى أرض السودان استقر بعضهم قرب شواطئ النيل الأبيض في منطقة تسمى حريدانة، في حين استقر الكثير منهم بمنطقة شرق النيل، لكن سيدي أحمد زروق يعد أب المغاربة السودانيين، وهو دفين مدينة مصراتة على الحدود الليبية المصرية.
لم يكتف أقطاب قبيلة المغرب الكبرى في السودان على لعب الأدوار الثانوية، بل كان لهم حضور وازن في الحياة السياسية والدينية والفكرية، بل إن محمد صالح الشنقيطي رئيس الجمعية التشريعية (البرلمان) كان يفخر بهذا الانتماء على غرار عضو مجلس السيادة عبد الفتاح المغربي، ثم يأتي مبارك زروق أول وزير للخارجية السودانية بعد الاستقلال، كما شارك أقطاب قبيلة المغاربة في تدبير قطاعات وزارية هامة وشاركوا في التربية والتعليم والإعلام والقضاء والفن، بالإضافة إلى كل أطياف الخدمة المدنية والقوات النظامية والعمل الاقتصادي.
الحسن الثاني يساند جعفر النميري في منفاه الاضطراري بمصر
رافق سامي سنادة الرئيس السوداني الراحل جعفر محمد النميري، لأزيد من 15 سنة كمصور، ووثق مرحلة مهمة من مراحل الحكم في السودان، فتحول إلى شاهد على العصر السوداني بالصوت والصورة، كما شغل مهمة مدير للأرشيف الرئاسي.
في حوار أجراه سامي مع صحيفة «الراكوبة» السودانية، تحدث عن رحلاته مع جعفر إلى عدد من الدول العربية كمصر والسعودية وسوريا ودول الخليج ومعظم الدول الأوربية وأمريكا الشمالية وكثيرا من دول إفريقيا.
يقول سامي: «صورت الملك فهد، والرئيس الفرنسي والإيطالي ومارجريت تاتشر والرئيس الأمريكي جورج بوش والرئيس الصيني دينغ سياو بينغ والرئيس الكوري، والملك الحسن الثاني، والرئيس النيجيري والسنغالي وآخرين».
وأورد أنه خلال زيارته للمغرب رفقة النميري، أعجبت بثينة زوجة الرئيس بالأزياء المغربية فوفر لها الحسن الثاني نماذج من الألبسة المغربية التقليدية، مشيرا إلى حرص ملك المغرب على الإشادة بالقفطان المغربي.
وأوضح مصور الرئيس أن حرس الديوان الملكي كان يطلع على الصور ويبدي ملاحظاته عنها، على غرار الرئيس النميري الذي كان يعلق على الصور التي تعجبه، ولا يمانع في تمكين الخفر الملكي من مراقبة عمل مصوره وتحركاته خاصة في لقاءات جعفر بالحسن الثاني.
وكانت «سودان النميري» من بين مدعمي قرار الحسن الثاني حين أطلق فكرة المسيرة الخضراء. وساهم وفد سوداني في عبور الحدود، وكان يصف المغرب بـ «البلاد التي صانت الإسلام واللسان العربي في وجه اعتداءات تهاوت عليها عبر القرون»، كما ظل سندا للمغرب في قضية الصحراء، وكان يقول للملك: «كعهدك بي يا صديقي العزيز ستجدني بجانبك في مسألة الصحراء، لا منا عليك، حاشا لله، بل اعترافا بجميلك على قضايا العرب وإيمان بالحق والعدل»
يذكر سامي محنة الرئيس جعفر النميري، حين علم بالانقلاب العسكري الذي أطاح به وهو في الولايات المتحدة الأمريكية، واللحظات العصيبة التي قضاها في مصر ضيفا على الرئيس المصري حسني مبارك، وكيف اتصل الملك الحسن الثاني هاتفيا بجعفر وظل يطلق عليه اسم «فخامة الرئيس».
على امتداد 14 سنة قضاها جعفر في منفاه الإجباري بمنزله في شارع العروبة وسط مصر الجديدة غير بعيد عن المطار، كان النميري يتلقى مكالمات من الحسن الثاني، وعاش الرئيس السوداني المخلوع حالة حزن حين علم بوفاته، لأن ظروفه الصحية لم تكن تسعفه للسفر إلى الرباط وحضور مراسيم الدفن.
حين قضى رئيس وزراء السودان فترة نقاهة في ضيافة الملك
كان أول لقاء جمع محمد أحمد المحجوب، رئيس وزراء السودان، بالحسن الثاني في الرباط، ورغم فارق السن بين الرجلين إذ يرجع تاريخ ميلاد الوزير السوداني لسنة 1908، إلا أن تيار المودة مر سريعا بينهما خاصة حين علم الملك وكان وليا للعهد، أن الرجل يقضي عمره في كتابة الشعر وملء خزينة العرفان العالمية بالكتب القيمة التي تتضمن آراءه السياسية والأدبية، لكن ما شد الملك إليه أكثر هي كتاباته التاريخية، ومعالجته الفلسفية لحركة التاريخ.
كان محمد أحمد المحجوب وزيرا للخارجية ثم رئيسا للوزراء وله انشغالاته السياسية مع الزعماء العرب أقربهم إلى قلبه جمال عبد الناصر في مصر والحسن الثاني في المغرب الذي زاره في إجازاته للقاء أصدقائه من الأدباء والفنانين.
لعب الحسن الثاني دورا كبيرا في تقريب وجهات النظر بين مصر والسودان، حين زار المحجوب الرباط في بداية الاستقلال وتحديدا سنة 1958، حين نشب خلاف حدودي بين البلدين وحشدت الحكومة المصرية قوات من جيشها على طول الحدود في المنطقتين. وكرد فعل حشدت الحكومة السودانية قوات من الجيش لحماية تلك الحدود مع أوامر صريحة بإطلاق النار على أي قوات تعبر الحدود. في ذلك الوقت كان المحجوب وزبرا للخارجية حيث استجاب لمقترح الحسن الثاني الذي دعاه للسفر إلى مصر وإجراء محادثات مع الرئيس جمال عبد الناصر على انفراد دون وساطة وهو ما حصل حيث تراجعت الحكومة المصرية عن موقفها وسحبت جيوشها.
أصيب المحجوب بنوبة في الدماغ سنة 1968 وكان حينها رئيسا للوزراء، تم نقله للعلاج في لندن. عندما سمع الرئيس الأمريكي ليندون جونسن بالخبر بعث بطبيب اختصاصي إلي المصحة للإشراف على علاجه، وبعد تلقي العلاج تلقى المحجوب دعوة من صديقه الحسن الثاني الذي طلب منه قضاء فترة النقاهة في ضيافته.
وكان سفير السودان في الجزائر أبو بكر عثمان محمد صالح وسفراؤها في تونس والمغرب وروما قد تقاطروا على المغرب لزيارة المحجوب، وقال أبو بكر في مذكراته: «وجدنا أن الملك يزوره في الصباح والمساء، وأنه يجد رعاية كاملة، وأن الملك يجمع له الشعراء كل مساء وكان المحجوب سعيدا بإقامته هناك، وبعدها عاد للخرطوم لمزاولة عمله».
من الخرطوم وجه رئيس الوزراء السوداني رسالة شكر إلى الملك الحسن، تضمنت أبياتا شعرية تشيد بروح الأخوة وبحفاوة الاستقبال، بينما ظل الرجل يتوقف في الرباط كلما زار لندن لاستكمال العلاج. في شهر يونيو 1976 توفي المحجوب صديق المغرب، وقام الحسن الثاني بإيفاد ممثل عنه لحضور مراسيم دفنه وتقديم العزاء، لشاعر حكم السودان بحكمة الفلاسفة.
وصية الفيتوري شاعر السودان: ادفنوني في تربة المغرب
قضت رجات أرماز ربع قرن من الارتباط بالشاعر السوداني محمد الفيتوري. في نهاية الثمانينات كان اللقاء وقبل أن تنسحب الثمانينات كانت رجات تتأبط ذراع محمد أمام سفارة السودان في المغرب لاستكمال إجراءات الزواج بتزكية من مأذون دبلوماسي.
لم تصغ رجات لتحذيرات صديقاتها ولم تعر اهتماما لـ «فيتو» العائلة، التي لم تعترض على قرار الزواج بأحد رواد الشعر في الوطن العربي، لكنها أبدت مخاوفها من فارق الزمن الذي يقارب ربع قرن، فقد ولد الفيتوري سنة 1936 بدارفور جنوب السودان، بينما ولدت رجات في العاصمة الرباط سنة 1961، وتابعت دراستها الجامعية في كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس.
كانت الرجل قد عاش محنا حقيقية دون أن يجف قلمه لكتابة شعر النقائض، فمنذ أن تخرج من جامع الأزهر بالقاهرة، وهو يتأبط القلم، إذ عمل محررا بالصحف المصرية والسودانية، وعين خبيرا للإعلام بالجامعة العربية، ثم عمل مستشارا ثقافيا في السفارة الليبية بإيطاليا، وبعدها مستشارا بالسفارة الليبية ببيروت، ثم مستشارا سياسيا وإعلاميا بسفارة ليبيا بالمغرب، وظل يتوصل براتب شهري من ليبيا قبل أن يسقط نظام القذافي ويسقط الراتب وتضيع العلاوات. انتبهت الحكومة السودانية إلى إغفالها لشاعر العرب المغترب، فاستخرجت له جواز سفر دبلوماسيا، وحضرت مكونات السفارة إلى بيته في سيدي عابد لتسليم الجواز للشاعر الدبلوماسي.
في الرابع والعشرين من أبريل 2015، انتقل الفيتوري إلى دار البقاء، لفظ الشاعر أنفاسه الأخيرة في مستشفى الشيخ زايد، حيث كان يعالج على نفقة محسن إماراتي. وقبل أن يسلم الروح لبارئها قبل يد زوجته المغربية وطلب منها الصفح. وحين كان الجثمان في ثلاجة مخزن الأموات، دار سجال قوي بين أعضاء سفارة السودان وزوجته المغربية، التي اعترضت على دفنه في السودان، وأصرت على أن يوارى جثمانه في الرباط وتحديدا بمقبرة الشهداء. لقيت الزوجة مساندة من بعض أفراد الجالية السودانية وعلى رأسهم الصحافي طلحة جبريل.
صاحت أرماز في وجه موظفي السفارة: «سيدفن الفيتوري حيث فاضت روحه لأن وصيته كانت واضحة «أرض الله واسعة.. أدفن حيث أموت»، سيما بعدما استفزها السفير في المستشفى بعبارة لاذعة «أنت مهمتك انتهت»، وكأن زوجته كانت مجرد ممرضة. اصطف في خندق الزوجة المغربية أبناء الفيتوري الأربعة من زوجته الفلسطينية، إضافة إلى ابنته «أشرقت»، علما أن للراحل ثلاث «سوابق» في عالم الزواج، حيث ارتبط بفلسطينية ورزق منها بأربعة أبناء (ولدان وبنتان)، وسودانية وله منها ابن وبنت، ثم المغربية رجات ورزق منها بابنته «أشرقت».
قائد سفينة السلاح «دينا» يخضع للعلاج بالمغرب
ولد المناضل إبراهيم محمد النيال في حي الأمراء بمدينة أم درمان السودانية عام 1920، وحين اشتد عوده هاجر إلى مصر من أجل ممارسة التجارة، وفي القاهرة تمكن من ربط علاقات صداقة مع كبار الشخصيات بفضل إخلاصه في تجارته ومعاملاته. ومع مرور الوقت أصبح شريكا لأحد الضباط المصريين الأحرار في مشروع تجاري.
كان شريكه العسكري صديقا للرئيس المصري جمال عبد الناصر، فاقترح هذا الأخير القيام بمهمة لمساعدة الثوار الجزائريين والمغاربة، وتتمثل في نقل السلاح من مصر إلى المغرب والجزائر. وافق الضابط على الملتمس وقرر إشراك السوداني إبراهيم محمد النيال في ترجمة المشروع.
تفاعل إبراهيم مع الفكرة «القومية» وتمكن من مخالطة سياسيين مغاربة وجزائريين في القاهرة، خاصة قيادة مكتب المغرب العربي، كما وافق على المشاركة في أول عملية نقل سلاح للثوار الجزائريين والمغاربة عبر البحر، في رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر دامت شهرا، وانطلقت من مصر مرورا بإيطاليا وليبيا وانتهاء بشمال المملكة المغربية. كما أن إبراهيم، بعد تمرس، تمكن من قيادة عملية الباخرة «أتوس» التي انتهت بالقبض عليه من طرف الفرنسيين يوم 16 أكتوبر سنة 1956، وهو على ظهر الباخرة التي كانت مسجلة باسمه وقد اشتراها في حقيقة الأمر الزعيم أحمد بن بلا. وفي مذكراته تحدث إبراهيم عن فترة اعتقاله والتعذيب الذي طاله مدة عشر سنوات قضى منها فعليا أربعة أعوام.
التقى إبراهيم السوداني بالدكتور المغربي عبد الكريم الخطيب الذي ظل يشرف على وضعه الصحي، خاصة بعد أن تعرض لنوبات قلبية نتيجة الضغط الذي مورس عليه في أكثر من معتقل بين الجزائر وفرنسا.
وحسب البشير الهسكوري، نقلا عن شهادة لوالده أحمد، الرجل الثاني في قصر الخليفة مولاي الحسن بن المهدي، فإن إبراهيم النيال السوداني، قائد السفينة «دينا» عاش بقية حياته في المغرب وكان مرافقا للدكتور عبد الكريم الخطيب. لكن كتابات سودانية تجمع على أن الربان اختار الاستقرار بين لندن والرباط، وفي عام 1983 دخل المستشفى في المغرب للعلاج بعد إصابته بنوبة قلبية، وقد ووري جثمانه الثرى بمقابر أم درمان بالسودان، وكان قد تجاوز عندها الستين من عمره.
وتضيف المصادر السودانية ذاتها أنه بالرغم من الدور الكبير الذي لعبه النيال في صنع تاريخ المغرب والجزائر، «إلا أن تجربته المتفردة لم تجد حظا وافرا من الانتشار عبر وسائل الإعلام السودانية، بل إن المغرب هو البلد الذي أنصفه وأسرته كما كرمته الجزائر».
وحسب شهادة رمضان بوستة، وهو مالك مقهى في القرية التي رست فيها باخرة «دينا»، فإن إبراهيم السوداني ظل يتنقل بين المغرب ومصر لجلب المال للمجاهدين، مضيفا أن الرجل كان يساعد قبطان الباخرة اليوغسلافي اتشولا باكاي.
وبمناسبة تخليد الشعب المغربي ومعه أسرة المقاومة وجيش التحرير للذكرى 58 لانطلاق عمليات جيش التحرير بشمال المملكة، تم يوم الجمعة 4 أكتوبر 2013، بمبادرة من المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، تدشين النصب التذكاري للباخرة «دينا» بجماعة رأس الماء بإقليم الناظور، اعترافا للرجل بفضله على الحركة الوطنية في المغرب العربي.
التازي: رسائل من مهدي السودان إلى السلطان مولاي الحسن
ألقى الدبلوماسي المغربي عبد الهادي التازي، محاضرة في القاهرة حول تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والسودان، وأشار إلى أن أولى خيوط هذه العلاقات بدأت بتبادل سفراء صوفيين. وجاء في مجلة «دعوة الحق» المغربية، إن مسار الدعوة المهدية الصوفية خارج السودان قد بلغ فاس.
عهد لمحمد الغالي بن عبد السلام بالقيام بنشر الدعوة المهدية في المغرب، وحرر رسالة إلى السلطان مولاي الحسن الأول. «وقد أجمل المهدي في هذه الرسالة الظروف التي أدت إلى ترشيح السيد محمد الغالي مندوبا للطريقة المهدية في فاس». وجاء في الرسالة: «من العبد المعتصم بالله محمد أحمد المهدي بن عبد الله إلى حبيبه في الله السيد الحسن بن عبد الرحمن عاهل فاس والضواحي، المسموع عن أهل جهتكم أنكم أهل خير وإلى الآن متمسكون بشريعة خير الأنام، وحيث إنكم كذلك فقد جاءكم الهدى والرشاد ودعاكم داعي الله إلى طريق السداد، إذ طوقني الله بالخلافة المهدية وأمرني بدعاية الخلق إلى إحياء السنة المرضية، وقد لبى دعوتي من أسعده الله ببلاد السودان واعرض عنها من أشقاه فأهلكه واشتعلت فيه النيران. وقد وفق الله جماعتكم الذين بمصر وألهمهم رشادهم، فخاطبوني بالتسليم التام لأمر المهدية والرغبة الكاملة في نشرها في الأقطار».
لكن المهدي، يقول الباحث السوداني يوسف فضل حسن، استدرك الأمر خشية من الولوج في خضم السياسة الداخلية لتلك المنطقة فقال في رسالة له ثانية، مخاطبا محمد الغالي ابن عبد السلام: «إنه لا يخفى عليك أن جهات فاس فيها أكابر من أهل الخير الذين يقتدى بهم في الدين، فلهذا ولمحبتي اتفاق أئمة المسلمين في الله جعلت تفويض الأمر إليهم».





