الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

هل يتحمل الأمريكيون مسؤولية أكبر كارثة تسمم جماعي عرفها المغرب؟

وثائق تُنشر مضامينها لأول مرة تفضح طلب ثري مغربي لكميات من الزيت المسموم

 

«في شتنبر 1959 انفجرت ظاهرة غريبة لم يعرفها المغاربة من قبل. سقط آلاف الضحايا أرضا، أصيبوا بالشلل ولم يعودوا قادرين على تحريك أطرافهم. شاع القلق في المغرب، وجاء أطباء من أوروبا، يشتغلون مع منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر، إلى المغرب لتفسير الظاهرة المحيرة.

التحقيقات فسرت الظاهرة، كما سوف نرى في هذا الملف، بأن زيت الطعام هو سر إصابة المرضى بتلك الأعراض الخطيرة والغريبة.

في الخفاء، كان المتورطون يحسبون الساعات والدقائق، قبل افتضاح السر. إذ إن بعض التجار اشتروا زيت محركات الطائرات الذي تخلى عنه الطيارون الأمريكيون في القاعدة الأمريكية الجوية بالنواصر قرب الدار البيضاء، ومزجوا كميات منه بزيت الطعام، بحكم أنهم اشتروه بأثمنة منخفضة جدا. كان هدفهم تحقيق ربح سريع ومضمون، لكنهم لم يفكروا في ما يمكن لذلك الزيت «المغشوش» الذي صنعوه، من أعراض كارثية على الصحة العامة. في هذا الملف يكشف تقرير أمريكي وجود طلب باسم ثري مغربي اسمه محمد بناني، متخصص في استيراد السيارات من الخارج، يطلب فيه من مسؤولي القاعدة الأمريكية بيعه كميات كبيرة من زيت محركات الطائرات. لماذا سمح الأمريكيون ببيع ذلك الزيت إلى تجار مغاربة؟ ألم يكونوا يعرفون مخاطر استعماله؟ في هذا الملف، نعيد تركيب عناصر الكارثة..

+++++++++++++++

 

كواليس سرية للقاءات المسؤولين المغاربة مع الأجانب لتفسير لغز الشلل الجماعي

حسب ما كشفه الباحث الأمريكي «سبنسر سيگالا»، والذي سوف نأتي إلى تفاصيل بحثه في هذا الملف، فإن يوسف بن العباس، وزير الصحة المغربي الأسبق، التقى في شتنبر 1959، مع أطباء مستشفى «ابن سينا» في الرباط، ومع مسؤولي المعهد الوطني للصحة.

هؤلاء كانوا جميعا، حسب هذا الباحث الأمريكي، في حيرة من أمرهم، ولم يفهموا سر سقوط ضحايا مغاربة بالآلاف في نفس الرقعة الجغرافية. ولاحظوا أيضا أن جل الضحايا ينحدرون من أوساط اجتماعية فقيرة، وأغلبهم مياومون يكسبون قوت يومهم من الحرف وأنشطة الأسواق في الأحياء الشعبية والفقيرة.

أحد الأطباء الأجانب الذين اشتغلوا في التحقيقات، هو الدكتور «بايلي»، وهذا الأخير هو الذي انتبه إلى اللون غير الاعتيادي لزيت الطعام الذي كانت تستعمله إحدى الأسر.

إذ إن تناول العائلة لطعام مطهو بذلك الزيت، ورميهم البقايا للكلب المنزلي، جعل الجميع يصابون بأعراض الشلل وتشوه الأطراف والمفاصل، وهي الأعراض التي عانى منها الكلب أيضا.

الوثائق الأمريكية التي اشتغل عليها هذا الباحث تكشف أن المسؤولين المغاربة كانوا يشتبهون في انتشار وباء في مياه الشرب.

وبما أن الظاهرة تزامنت مع اعتزام الملك الراحل محمد الخامس زيارة مكناس، فقد ضوعفت الإجراءات الاحترازية، وتلقى الملك نصائح بضرورة إخلاء المدينة فورا، إلى حين فهم سبب الظاهرة.

وفعلا لم يقو أحد على شرب مياه النهر الرئيسي الذي يزود المدينة بالماء، وانتقلت الشكوك إلى الخضر التي تُباع في الأسواق، قبل أن يعكف الأطباء الأجانب على فك اللغز.

الخبراء لم يقتنعوا بتلك التفسيرات الأولية، خصوصا الخبير «ألبرت توينز»، وهو بلجيكي متخصص في الأوبئة، كان وقتها يعمل في منظمة الصحة العالمية، وهو الذي أطلق التحقيقات الجادة التي أدت إلى تفسير الظاهرة.

في يوم 21 شتنبر، خصص هذا الطبيب وقته لدراسة حالة 250 مريضا مغربيا دفعة واحدة، واكتشف، حسب الباحث الأمريكي دائما، أن استهلاك زيت الطعام هو السبب المشترك بين كل الحالات التي عكف عليها.

واكتشف أيضا عند اطلاعه على تقرير مسؤولي الصحة المغاربة، أن معظم الحالات سجلت في الأحياء التي يتزود فيها السكان المحليون بزيت الطهي من الباعة المتجولين وليس من الأسواق أو المحلات. وهو ما جعله يتأكد أن الأمر يتعلق بالزيت المستعمل في الطهي. الأكثر من هذا، أنه التقى بمرضى كانوا أصلا يشتبهون في زيت الطعام الذي استعملوه أثناء الطهي، إذ لاحظوا قبل تناول الطعام، أن الزيت يصدر فوارا غريبا أثناء عملية الطهي، لكنهم استهلكوه على كل حال.

في يوم 30 شتنبر، كانت عمليات تحليل مكونات الزيت على أشدها. وإلى حدود ذلك اليوم، لم يكن أحد على الإطلاق يعلم مكونات ذلك الزيت. وحدهم الذين قاموا بمزجه بزيت صيانة محركات الطائرات العسكرية النفاثة، كانوا يعلمون فداحة ما أقدموا عليه من غش في بيع الزيت إلى الضحايا.

 

 

وثائق سرية تكشف كواليس عمل لجنة البحث الجنائي المغربية التي تعقبت المتورطين

حسب الوثائق الأمريكية، فإن الحكومة المغربية بأوامر من الملك الراحل محمد الخامس، وبإشراف من ولي العهد الأمير مولاي الحسن، أطلقت لجنة خاصة للبحث الجنائي، مهمتها تتبع الخيوط لمعرفة مصدر ترويج الزيت المسموم الذي تسبب في الكارثة.

وحسب الوثائق دائما، فإن يوم 9 أكتوبر كان مشهودا.

إذ في هذا التاريخ بدأت اللجنة تتعقب خيوط تجارة الزيت في مدينة مكناس، وبدأت أولى حملات اعتقال الباعة والتحقيق معهم بدقة لمعرفة المزود الرئيسي بمادة الزيت التي تباع في الأسواق الشعبية، وفوق ظهور الحمير بين الأزقة الفقيرة لمدينة مكناس ونواحيها، وصولا إلى تازة، الحسيمة ثم الناظور.

هذه اللجنة، اكتشفت وجود شحنة أخرى مقدارها 6 أطنان معبأة في 31 حاوية كبيرة، جاهزة لكي تُعبأ في القنينات الزجاجية وتوجه إلى السوق الاستهلاكية.

وطبعا، تلك الكميات من الزيت، كانت هي الأخرى ممزوجة بزيت صيانة محركات الطائرات العسكرية الأمريكية.

كيف وصل هذا الزيت، المفترض فيه أنه ملك للأمريكيين وتحت مسؤوليتهم، إلى يد التجار المتورطين الذين مزجوه مع زيت الطعام، بحكم التشابه الكبير بينه وبين زيت الطهي، وثمنه المنخفض جدا، بحكم أنه كان متروكا في مخازن القواعد الأمريكية ولم يبع إلى التجار المغاربة المتورطين بسعره الحقيقي في السوق العالمية.

بفضل تدخل هذه اللجنة، صادرت السلطات المغربية 190 طنا من الزيت المشتبه في تلوثه بزيت المحركات، بالإضافة إلى حمولة تزن 600 كيلوغرام، تحتوي على الزيت الصناعي.

إفشال هذه العملية جنب المغرب وقوع كارثة أسوأ من كارثة مكناس، إذ لو أن هذه الكميات وُجهت إلى السوق لسقط عشرات آلاف الضحايا في أماكن أخرى من المغرب، وليس في مكناس ونواحيها فقط.

المثير أن المسؤولين المغاربة كانوا أمام تحد يتمثل في إيصال خبر الزيت المسموم إلى المناطق النائية التي انبته المحققون إلى أنها كانت تعيش عزلة كبيرة، ولا تصل إليها الطرق ولا أمواج الإذاعة. التقرير الأمريكي يقول إن التحدي الأكبر كان مسابقة الزمن للوصول إلى سكان تلك القرى المعزولة تماما عن الحضارة، وإخطارهم بخبر الزيت المسموم وإتلاف أي كميات مشتبه فيها قد يكون سكان تلك القرى قد اقتنوها، سواء من الباعة المتجولين في القرى، أو من الأسواق الأسبوعية.

++++++++++++++++++

باحث أمريكي يفسر طريقة تسرب الزيت المسموم من القاعدة إلى السوق

باحث أمريكي اسمه «سبنسر د. سيگالا»، أخرج بحثا باللغة الإنجليزية، اختار له عنوان «المملكة والكارثة».

في فصل خصصه لـ«السم، الشلل، والولايات المتحدة الأمريكية في المغرب، 1959»، نُترجم منه حصريا ما يلي: «إن أصول وأسباب الوباء بقيت غامضة لأسابيع، لكن المحققين حددوا زيت الطهي سببا لحدوث الشلل. في يوم 13 أبريل 1959، طلب محمد بناني، وهو مستورد سيارات بالجملة، شراء كمية كبيرة من الزيت المستعمل في تشحيم محركات الطائرات، من القاعدة الأمريكية الجوية الموجودة في منطقة النواصر، بالقرب من الدار البيضاء. هذا الزيت يحتوي على كميات من الفوسفاط ومادة «الكريزول فوسفاط». الشحنة التي طلبها بناني، كانت واحدة فقط من خمسين شحنة من مختلف الأنواع من الزيوت القديمة أو منتهية الصلاحية التي بيعت من القواعد الأمريكية في المغرب، خلال تلك السنة».

هذا الكلام مصدره باحث أمريكي، اطلع على آلاف الوثائق التي توثق للكارثة.

ومع ذلك يُسجل صمت أمريكي رهيب عندما انفجرت الكارثة، وانشغل بها العالم، خصوصا الدول الأوروبية التي كانت تحقق في الموضوع بدقة لتحديد أسباب سقوط أزيد من عشرة آلاف ضحية، مخافة أن يكون الأمر متعلقا بوباء من نوع آخر. ولم يهدأ لها بال، إلا عندما تم تحديد السبب في كميات الزيت المتداولة في سوق الاستهلاك الغذائي، والتي اتضح أنها زيت يستعمل في مجال صيانة محركات الطائرات العسكرية النفاثة.

هل كان الأمريكيون يعرفون السر، قبل أن يحدده الأطباء الألمان والسويسريون؟ أم أنهم لم يتخيلوا أن يتم استعمال كميات الزيت التي خرجت من القواعد قبل جلاء القوات الأمريكية من المغرب، لتُمزج بزيت الطعام؟

في كل الحالات، يبقى لغز عدم تدخل الأمريكيين بعد الكارثة، سببا في تناسل أسئلة كثيرة عن مسؤولية الأمريكيين في ما وقع.

 

 

لماذا لم يُتلف الأمريكيون كميات الزيوت وفق البروتوكول؟

لماذا لم يسلط الضوء الكافي على مسؤولية العاملين السابقين في القواعد الأمريكية بالمغرب، عن تسرب كميات من زيت المحركات المستعملة في القاعدة الجوية؟

إذ مباشرة بعد تحديد الخبراء التابعين لمنظمات الأطباء ومؤسسة الصليب الأحمر، للمادة التي تسببت في سقوط آلاف الضحايا، خلال شهر شتنبر 1959، نواحي منطقة مكناس وصولا إلى الحسيمة ثم الناظور، حتى بدأت أصابع الاتهام محليا تشير إلى القاعدة الأمريكية. بحكم أنها كانت المصدر الوحيد لتسرب تلك الزيوت إلى سوق الاستهلاك.

وقال الخبراء في تقارير موثقة إن التسمم وتشوه أطراف الضحايا سببهما مكونات زيت تستعمل في العادة لصيانة أجزاء من محركات الطائرات العسكرية، وأدى مزجها بزيت الطعام الموجه إلى الاستهلاك البشري، إلى وقوع ضحايا مباشرة.

هذه المكونات تسببت في تشوهات على مستوى الأطراف والمفاصل، وفقدان الضحايا للقدرة على الحركة والتحكم في أطرافهم.

وعندما بدأت أولى عمليات التحقيق لتحديد المسؤوليات، اتضح مباشرة بعد إيقاف المتهمين واعترافهم بالحصول على زيت المحركات وإقدامهم على مزجه بزيت الطعام، أنهم حصلوا على الزيت موضوع التحقيق من موظفين بالقاعدة الأمريكية، في الأسابيع الأخيرة خلال ترتيب عملية الإجلاء.

كان الجو العام بالمغرب وقتها، مشغولا بنقاش عملية إخلاء القواعد العسكرية الأجنبية في المغرب، وبالضبط القواعد الفرنسية والأمريكية. إذ إن المطلب الذي رفعته حكومة عبد الله إبراهيم وقتها، كان يقضي بتكريس السيادة المغربية وإجلاء القوات الأجنبية الموجودة في المغرب، وتسليم قواعدها إلى المغاربة.

المخزن الذي كان يستعمله الأمريكيون في القنيطرة وغيرها من مواقع القواعد الأمريكية، كان يتوفر على مواد خطيرة يستعملها الخبراء الأمريكيون لصيانة الطائرات. وكان هناك بروتوكول، حسب ما تنص عليه الوثائق الأمريكية، يُلزم موظفي القواعد الأمريكية بإجراء عمليات إتلاف، باحتراف، للزيوت والمواد الكيماوية المستعملة في صيانة محركات الطائرات والمعدات العسكرية الثقيلة.

من بين هذه الإجراءات، ترتيب إتلاف الزيوت بطمرها وفق بروتوكول صارم وواضح. وإعداد مطامر صناعية خاصة بهذا الغرض، يستحيل معها أن تصل تلك الزيوت إلى أياد غير آمنة. حيث تُمكن عملية الطمر من إتلاف الزيت تدريجيا، رغم المخاطر البيئية التي ينطوي عليها الموضوع، إلا أنها تضمن على الأقل ألا تصل تلك المواد السامة إلى متناول المدنيين.

عملية الإتلاف، على المدى البعيد، لذلك الزيت، تجعل استعماله مستحيلا، إذ يتم طمره باستعمال مواد كيماوية تغير تركيبته، ثم تُصب في حفر عميقة تُصمم لهذا الغرض، وتُطمر وفق طريقة علمية مدروسة.

الفرضية الثانية، تقوم على ضرورة توجيه ذلك الزيت إلى الاستهلاك الصناعي، وتعد محاضر تسليم رسمية خاصة به، تُوجه إلى الجهات التي سوف تستفيد مستقبلا من تلك الزيوت في صيانة الطائرات.

في هذه النقطة، هناك مشكل سببه الاتفاق المغربي السوفياتي بشأن صفقة تسلم طائرات مقاتلة من الاتحاد السوفياتي، وهو ما كان يعني عدم وجود صفقة طائرات، وقتها على الأقل، بين المغرب والولايات المتحدة. وهو ما كان يعني انسحاب القوات الأمريكية كليا. وهذا الأمر جعل مهمة تفويت زيت صيانة المحركات للمغاربة أمرا غير مطروح، سنة 1959 على الأقل.

إذ المعروف أن الأمريكيين أبقوا على قاعدة القنيطرة، وظلوا يشتغلون بها لسنوات بعد إجلاء 1959.

لماذا إذن لم يعلن الأمريكيون مسؤوليتهم عن التهاون في التخلص من زيت المحركات السامة، عند إجلاء قواتهم من المغرب؟ رغم أن أطباء الإغاثة من مختلف الجنسيات، أعلنوا في تقاريرهم أن مصدر تلك الزيوت هو القاعدة الأمريكية.

 

 

 

 

لعنة الزيت التي لاحقت كبار التجار المغاربة.. هل كان بينهم أبرياء؟

كان لا بد أن يصدر حكم بالإعدام في حق المتورطين، حيث إن الغضب الشعبي كان عارما جدا. منذ شتنبر 1959 إلى حدود 1961، والمغاربة ومعهم مهتمون حول العالم، يتابعون تفاصيل العملية الأكثر فظاعة خلال نهاية عقد الخمسينيات وبداية الستينيات.

نُشرت صور المتورطين في الصحافة الوطنية، وكان الرأي العام مُؤلبا ضدهم، رغم أن ظروف التحقيق مع الموقوفين ما زالت غامضة إلى اليوم.

كانت هناك أوامر عليا بطي الملف سريعا وتحديد المسؤوليات ومعاقبة التجار المتورطين، سيما وأن الأطباء الأجانب الذين فكوا لغز سقوط المصابين بالآلاف في وقت قياسي، أكدوا للسلطات المغربية، وعلى رأسها الملك الراحل محمد الخامس، أن الزيت الذي يباع في سوق مكناس، خصوصا في السوق الشعبي، ممزوج بنسبة تتجاوز 70 بالمائة، بزيت محركات الطائرات الذي يحتوي على مكونات خطيرة على الصحة العامة، تتسبب في تشوهات بالغة للجسم البشري، في حال تسربه إليه عبر الجهاز الهضمي. وهذا ما يعني أن المغرب كان أمام جريمة كاملة الأركان، وهو ما جعل الرأي العام، ممثلا في الصحافة الوطنية وقتها، يطالب بإعدام المتهمين.

أحد أشهر ضحايا الحملة ضد كبار التجار في المنطقة هو التاجر المغربي أكوزال، الذي تضرر كثيرا من الحملة المطالبة بإعدام التجار. وبحكم أنه كان يحظى بأسهم كبرى في سوق تجارة المواد الغذائية في منطقة مكناس، فقد كان رأسه على القائمة. بالإضافة إلى سبعة تجار آخرين، أدين أغلبهم في المحكمة وحُكم عليهم بالإعدام، قبل أن يُطوى الملف بعد ذلك بإصدار عفو، سيما أن بعض التقارير الأمنية التي رُفعت إلى الملك الراحل محمد الخامس، أكدت وجود حسابات وانتقام بين بعض الأطراف والتجار، لتوريط بعض الأسماء عنوة، مستغلين ظرفية التعاطف الكبير مع الضحايا داخل المغرب وخارجه أيضا. بدأ مسار التاجر المغربي أكوزال، عندما أطلق شركته «مولاي»، إذ كان يعانق المراتب الأولى في صفوف الاقتصاد الوطني، ليصل اسمه لأول مرة إلى ديوان الملك الراحل محمد الخامس بصفته واحدا من الذين حفروا أسماءهم داخل مجتمع مكناس، المدينة التي أحبها الملك الراحل أكثر من غيرها.

كان أكوزال معروفا في أوساط قدماء المقاومة كداعم في الخفاء، ثم في العلن، للأنشطة السرية والعمل المسلح. وجرب حظه هو الآخر من المتاعب والحوادث، خصوصا في فترة الاحتقان، عندما كان التظاهر ضد قرار نفي الملك الراحل محمد الخامس سنة 1953، كافيا للتعفن في سجون فرنسا بالمغرب.

عندما عاد الملك الراحل من المنفى، كان أكوزال من بين رجال الاعمال العصاميين الأوائل الذين يملكون حيزا كبيرا من أسهم السوق المغربية الجديدة.

لكن كل هذا لم يشفع له عندما أثير اسمه في فضيحة زيوت مكناس المسمومة في شتنبر 1959، إذ إن أكوزال نال النصيب الأوفر من اللوم و«الشبهة». حتى أن الذين دافعوا عن براءته حينها، كانوا يلقبونه بـ«مظلوم فضيحة الزيت». كادت تجارة أكوزال أن تنهار، لولا أن التحقيقات التي باشرها أطباء ينتمون إلى منظمة الصليب الأحمر الدولية، كشفوا سبب تسمم الزيت الذي لم يكن مرتبطا بالتخزين، وإنما بعملية غش اقتيد كل المتورطين فيها إلى المحكمة.

انتهت محنة أكوزال في تلك السنة، بعد أشهر من المعاناة، ووجد صعوبة كبيرة في العودة إلى سابق عهده خلال الأسابيع الأولى. لكن عندما صدرت أحكام الإعدام ضد المتورطين السبعة، كان أكوزال قد عاد بقوة ليبتسم له الحظ هذه المرة بشكل غير مسبوق، ليصبح إمبراطورا حقيقيا في اقتصاد الزيت.

في أواسط الستينيات وصولا إلى سبعينيات القرن الماضي، كان أكوزال قد ولج عالم العقار في مدن الدار البيضاء، مكناس وفاس، واشترى نصيبا مهما من أسهم شركات تركها المعمر الفرنسي.

لكن أشهر ما ارتبط بثروة أكوزال وإمبراطوريته المالية، ما تداوله المغاربة بكثير من الدهشة عن حكايات تبرعه بالملايين في عدد من الأحداث. لكن أشهرها التبرعات التي وضعها رهن إشارة الداخلية، خلال الإعداد للمسيرة الخضراء في نونبر 1975. إذ إن مخازن السلع التابعة له وأسطول شاحناته، أصبحت رهن إشارة الداخلية أيام الوزير بنهيمة. والحقيقة أن رجال أعمال مغاربة كثر قاموا بالأمر نفسه، في إطار الاستجابة لدعوة الملك الحسن الثاني الجميع إلى الانخراط فيها كل بطريقته. لكن اسم مسعود أكوزال أحاطت به الكثير من الحكايات، والمبالغات أحيانا، والاستيهامات أيضا غلب فيها الخيال على الحقيقة. لكن دوران اسمه في دوامة فضيحة زيوت مكناس، كان محطة هامة في حياته، خرج منها منكسرا، وبدأ بداية جديدة جعلته يتربع على عرش الاقتصاد الوطني. وأعطى المثل بأن أقوى فضيحة اقتصاد في المغرب، يمكن أن تصنع منه رمزا من رموز هذا الاقتصاد بعد انجلاء الكارثة.

 

 

أسرار برنامج «الترويض» الذي جُمّد بدون إنذار..

آلاف الضحايا ظلوا يستفيدون من عمليات الترويض برعاية منظمة الصليب الأحمر، ووزارة الصحة الألمانية والهولندية والسويسرية. إذ إن هذه الدول فوضت ممرضات وأطباء تابعين لها، جلهم كانوا يعملون في منظمات الإغاثة الدولية، ومكنتهم من قضاء فترات طويلة لتنفيذ برامج الإغاثة والترويض لأزيد من 5000 ضحية، تقرر الاعتناء بهم، بسبب حالة الإصابة المتقدمة التي كانوا يعانون منها.

فيما بقي آلاف آخرون – إجمالي الضحايا تحدد حسب إحصاءات 1959 في حوالي عشرة آلاف ضحية من مختلف الأعمار- يتابعون حصص ترويض أسبوعية في مركز وُضع رهن إشارة المصابين، الذين كانوا يتقاطرون على مدينة مكناس حتى بعد مغادرة الطواقم الأجنبية للبلاد وإشراف ممرضين وممرضات مغاربة على العملية، قبل أن يتم توقيف البرنامج كليا.

حسب وثائق أرشيف الخارجية الأمريكية التي تابعت تطورات العملية، في غياب تام لأي طاقم طبي أمريكي، فإن فرق الترويض الأجنبية التابع أعضاؤها لمنظمة الصليب الأحمر، وضعت ميزانية ضخمة وسخرت إمكانيات مهمة لإيصال آلات الترويض إلى الضحايا.

السلطات المغربية، على عهد الملك الراحل محمد الخامس، وضعت رهن إشارة المشاركين الأجانب مقرا عُرف لاحقا في أوساط المكناسيين باسم «سبيطار الزيت».

فيما تتحدث بعض المصادر المحلية عن مشاركة الدولة المغربية في تمويل إقامة هؤلاء الأطباء والممرضات، إلا أنه لا توجد مؤشرات في أرشيف الصليب الأحمر تتعلق بتوفير تمويل للعمليات. لكن في المقابل، شكرت منظمة الصليب الأحمر السلطات المغربية على تعاونها من خلال توفير أعوان السلطة والموظفين لترتيب ووضع لوائح المستفيدين، وتوفير التنقل للقاطنين خارج منطقة مكناس، لكي يستفيدوا من مراكز الترويض التي كان يسيرها أطباء من مختلف الجنسيات، خصوصا الألمان والسويسريين.

لكن اللغز الذي يظل قائما إلى اليوم، دون أن يجيب عنه أرشيف وثائق الخارجية الأمريكية ولا الصليب الأحمر، هو لماذا توقفت عمليات الترويض في قمتها؟

بعض المصادر التي تحدثت إليها «الأخبار»، أكدت أن تحسنا كبيرا سُجل في أغلب حالات المستفيدين. لكن بالمقابل، وحسب ما تمكن معاينته في جمعية ضحايا القضية، والذين لا يزال بعضهم على قيد الحياة، فإن أعراض الإصابة ما زالت ظاهرة عليهم إلى اليوم.

وهذا ما يعني أن حالات الشفاء كانت نسبية جدا، وأن حصص الترويض توقفت عندما كان الضحايا في أمس الحاجة إليها فعلا.

تجدر الإشارة أيضا إلى أن منظمة الصليب الأحمر، والأطباء الأجانب، عندما انسحبوا من برنامج الترويض، تركوا كل شيء في عهدة المنظمين المغاربة، وإلى حدود بداية الستينيات، كانت العمليات مستمرة، قبل أن تتوقف الحصص في وقت كان أغلب الضحايا في حاجة ماسة إليها.

والأكثر من هذا، أن الدعم المنتظم، الذي كان الملك الراحل محمد الخامس قد أمر بصرفه لكل الضحايا تعويضا عما لحقهم، توقف بشكل مفاجئ، قبل أن يصبح في السنوات الأخيرة موضوع مطلب بإعادة صرفه للباقين على قيد الحياة، رغم أنه توقف منذ سنوات طويلة.

وحسب المصادر التي تحدثت إليها «الأخبار»، فإن مطلبا كان قد رُفع سنة 2017 إلى عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الأسبق، باسم جمعية الضحايا، لتسوية ملف التعويضات المجمدة منذ ستينيات القرن الماضي. وأشارت المصادر نفسها إلى أن وزارة المالية أشعرت بالموضوع، لكن مصادر من داخل الوزارة أكدت لممثلي الضحايا أنه لا يمكن البت في التعويضات التي جُمدت بأثر رجعي، لأن ملفات المعنيين تعود إلى فترة ما قبل إدراج ملفات وزارة المالية في الحواسيب، وهي العملية التي لم تُطلق إلا في ثمانينيات القرن الماضي، أي بعد ثلاثة عقود على الفاجعة.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى