
بقلم: خالص جلبي
كان عام 1837 حاسما عند داروين، حينما اطلع على مقالة لقس بريطاني هو (توماس مالتوس) ذكر فيها أن ما يحكم تكاثر الغذاء والسكان سلاسل حسابية مختلفة، فالناس يتكاثرون وفق سلسلة هندسية (2 ـ 4 ـ 8 ـ 16 ـ 32 ـ 64 ـ 128 ـ 256)، مما أوصل الرقم عام 2020 إلى 7,8 مليارات، في حين أن الغذاء يتكاثر وفق سلسلة حسابية (2 ـ 4 ـ 6 ـ 8 ـ 10 ـ 12 ـ 14 ـ 16). أي أن أعداد البشر حين تصل إلى 256 يكون الغذاء مراوحا مكانه عند 16، مما يقود إلى مجاعة طاحنة، أو حروب على الغذاء. وهذه الفكرة أيقظت عند داروين عين الغفلة، والانتباه إلى أن آلية التطور تخضع لقانون الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح. ولكن الكارثة جاءت من نقل هذه الفكرة من (البيولوجيا) إلى (علم الاجتماع) كما يقول مالك بن نبي، حيث يصبح الأصلح هنا هو الأفسد والأشر.
وما يصح في التاريخ لا يصح في الفيزياء، كما هو الحال مع القانون الثالث في الميكانيك، فالتاريخ لا يعطي ردة الفعل على شكل معكوس متكافئ، بل قد يكون مدمرا ماحقا، فردة فعل الإسكندر على حملة كزركسيس، في القرن الخامس قبل الميلاد على بلاد اليونان، تجلت في معركة غوغميلا عام 331 قبل الميلاد التي أنهت مصير الشرق الأدنى برمته، لحين مجيء الفتوحات الإسلامية.
والمهم فقد تردد داروين في عرض نظريته على الجمهور العام، حتى أرسل إليه عالم بريطاني هو (ألفرد راسل والاس) بالأفكار نفسها؛ فطرحت المقالتان في مجلة علمية، ولكن لم ينتبه إليهما أحد.
وعندما تقدم بكتابه «أصل الأنواع» عام 1859، ثم «أصل الإنسان» عام 1871 ارتجت الأرض وما زالت الضجة قائمة حتى اليوم حول أفكار داروين في التطور. ومن الغريب أن أفكار داروين في التطور لا علاقة لها بإيمان وكفر. والله يمكن أن يخلق الكون في لحظة، ولكنه جل جلاله خلقه في ستة أيام. والقرآن يقول إنه يزيد في الخلق ما يشاء، وإنه يخلق ما لا تعلمون.
و(ابن خلدون) في المقدمة أشار إلى الفكرة بالطريقة نفسها من التحول العجيب بين عتبات الخلق. من المادة إلى النبات، ثم الحيوان ثم الإنسان. وعندما هاج الناس على داروين كان الرجل مريضا من أثر لسعة سامة في رحلته (بيجل)، ومات من أثرها عام 1882.
وتولى الدفاع عنه (توماس هكسلي) وحاول نقل الفكرة البيولوجية إلى علم الاجتماع والفلسفة، وما زال الجدل حتى اليوم ثائرا حول ما جاء به داروين. ولذا يعتبر كتابه ثورة من ثورات الفكر في التاريخ، كما كان الأمر مع (كوبرنيكوس) في الفلك؛ فكما نقض (كوبرنيكوس) (الأكوان) فقد هدم داروين عالم (الأبدان)، فاستبدل فكرة الخلق الثابت بالخلق أطوارا. وأنه ليس هناك من شيء (ثابت) في الوجود، إلا (عدم الثبات) و(الصيرورة)، والتغير هو القانون الذي يحكم الوجود خلقا من بعد خلق. وهي (أي الصيرورة) العمود الفقري في البوذية. ولا شيء ثابت إلا وجهه الكريم.
بعد ظهور كتاب (داروين) عن «أصل الأنواع» عام 1859، توجهت زوجة أسقف كنيسة وركستر (BISHOP OF WORCESTER) مذعورة إلى السماء بالدعاء قائلة: «يا رب أدعوك أن لا يكون ما يدعيه داروين حقيقة، وإن صح ذلك فأبتهل إليك أن لا ينتشر خبره بين الناس فيضلوا عن سبيلك ويفتنون… إن داروين لفي ضلال مبين». ويبدو أن الدعاء لم ينفع، فقد عم الخبر كالزلزال واعترفت الكنيسة، بعد مرور مائة عام، بنظريته في التطور كـ(موديل محتمل) لنشوء الأنواع.
لم يكتب داروين أكثر من كتابين، ولكن البركان الذي فجره لم تكف حممه عن قذف اللافا حتى اليوم. والخالدون في الفكر عادة لم يكتبوا الكثير؛ فسقراط لم يكتب شيئا، وترك ديكارت مقالة يتيمة في المقال على المنهج، ويعلق المؤرخ (ديورانت) في «قصة الفلسفة» أن نابليون كان أجدى له لمسيرة التقدم الإنساني من كل فتوحاته، لو فعل مثل (سبينوزا) فكتب أربعة كتب.
لسنا بصدد تقييم نظرية داروين في هذه الأسطر، ولكن من الأهمية بمكان بناء فكرة (السير في الأرض – علم الجينيالوجيا GENIALOGY)، لمعرفة كيف تبدأ الأفكار بوزن ميليغرام لتصل إلى ميجاطن، فالمجرات هي تجمع فلكي للذرات، والإمبراطوريات هي احتشاد طاقة ملايين الأفراد في إنجاز إنساني، والراسخون في العلم يبدؤون من تلامذة متواضعين، والجبل العظيم تراكم هائل للحصى والأحجار، والانتصارات العظمى هي محصلة تراكمية لإنجازات صغيرة من حجم النانو.
ما فعله (داروين) بدورانه حول الأرض على ظهر سفينة (البيجل) لسنوات يسير في الأرض؛ فينظر كيف بدأت عملية الخلق، يستنطق طبقات الأرض، كان في الواقع يمارس تطبيقا عمليا للآية المفتاحية: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق».
وحتى الآن لا تناقش نظريته عندنا بدون تشنج، وفي تركيا قبل فترة تم إلغاء تدريس النظرية في المدارس، وربما كان الشيخ (نديم الجسر) الوحيد الذي تناولها بهدوء في كتابه «قصة الإيمان»، ولا علاقة لنظرية داروين بكفر وإيمان؛ فهي لا تزيد على رؤية جديدة للخلق المبرمج… يزيد في الخلق ما يشاء.



