يوميات أول سفير مغربي في التاريخ إلى إسبانيا
الرحلة المنسية لـ«الغساني» من مكناس إلى قلب القصر الملكي في مدريد

الغساني، فنان شاعر وخطاط، ما يربطه بالسياسة أنه اشتغل كاتبا في ديوان السلطان العلوي المولى إسماعيل، فاختاره سنة 1690 لكي يصير أول مغربي يسافر إلى إسبانيا في مهمة دبلوماسية، الغرض منها تبادل الأسرى بين البلدين.
رحلته كانت الأولى من نوعها على الإطلاق. وبما أنه خطاط وكاتب ومحترف في نسخ الكتب وتصفيفها، فقد عكف على كتابة مشاهداته ومذكراته، واختار لها عنوان: «رحلة الوزير في افتكاك الأسير».
بقي مخطوط الرحلة أسير الرفوف إلى أن نفض عنه الغبار الباحث المغربي د. عبد الرحيم بنحادة، وأعاد السفير المغربي إلى الحياة سنة 2005، بإصدار أول تحقيق لنص الرحلة الأصلية.
الرحلة التي لم تخل من غرائبيات ومشاهدات ومغامرات. ولو أنها صُورت بتقنيات اليوم، لنافست أضخم إنتاجات هوليوود التاريخية، لأن بعض وقائعها تستحق فعلا أن تعود إلى الحياة عبر شاشات السينما.
يونس جنوحي
+++++++++++++++++++
وصفه السفير بالطاغية.. 12 يوما في ضيافة ملك إسبانيا
«دخلنا المدينة فإذا هي مدينة كبيرة جدا، مليحة البناء، واسعة الفناء، فسيحة الأرجاء، وبها من الخلق عدد كثير. فلقينا بها من الأسارى وهم فرحون مسرورون. معلنون بلفظ الشهادة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء بالنصر لسيدنا المنصور بالله تعالى، وصبيان النصارى يقولون مثل قولهم. ولقد مررنا حين دخولنا على دار الطاغية، فرأيناه وهو واقف ينظر من وراء الزجاج، فقيل لنا هو ذاك، والأسارى معنا على ما هم عليه. ومر بنا في أزقة واسعة كلها مفروشة بالحجارة، إلى أن وصلنا دارا هي بقرب دار الطاغية، وهي دار كبيرة معدة عنده لنزول من يرد من بلدان بعيدة من غير جنس النصارى، إذ عوائدهم في ذلك أن ينزلوا عنده ثلاثة أيام وينظرون لأنفسهم ديارا يسكنونها، حيث كانوا يردون بقصد المقام والسكنى، فإن عوائد ملوك العجم أن يبعثوا إلى ملوك أمثالهم مراسيل يسمونهم «الأنباشادوريس»، يكونون هنالك وسائط بينهم وبين الملوك في ما يعرض لبعضهم عند بعض المخاطبات وغيرها. ومن ورد من غير هذه الأجناس هو ينزل في تلك الدار إلى أن ينصرف مثل وفود الترك الذين وردوا على إسبانيا في ما قبل منذ أربعين عاما، زعموا أنها من إسطنبول والصحيح أنها كانت من عند بعض السفهاء الذين يريدون التخطيط على ملك القسطنطينية.
وحين دخلنا هذه الدار وجدناها دارا كبيرة وقد شحنت بالفرش والتعاليق وجميع الإقامة، ووجدنا بها في ما كان يعمرها وهو من خدام الطاغية الموكلين بفراشه، فأدى إلينا سلام ملكه بعد ترحيب كثير، وأقمنا هنالك اثني عشر يوما».
الكلام هنا للسفير المغربي محمد بن عبد الوهاب الغساني، الذي أرسله المولى إسماعيل في مهمة دبلوماسية إلى إسبانيا سنة 1690، للنظر مع الإسبان في مشكل الأسرى المغاربة.
هؤلاء الأسرى المغاربة كانوا يستنجدون بالمغرب، واعتبر المولى إسماعيل إطلاق سراحهم وعودتهم إلى المغرب مسألة سيادية ترتبط به شخصيا. وهكذا اختار الفقيه الغساني، لكي يسافر إلى إسبانيا ويبحث موضوع إطلاق سراحهم.
حدث هذا في وقت كان المغرب بدوره يتوفر على آلاف الأسرى الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين، وكان المولى إسماعيل في أكثر من مناسبة، مستعدا لبدء صفقات تبادل الأسرى مع هذه الدول.
يوميات رحلة السفير الغساني تتضمن وقائع وأحداثا ومشاهدات مثيرة، رواها في كتاباته. وهنا يتحدث عن أول يوم في ضيافة ملك إسبانيا، في قلب العاصمة مدريد:
«ومن الغد ورد علينا في وقت معلوم بعد أن تهيأ عظيمه للملاقاة، وقصد بنا إليه، فوجدنا أهل المدينة وقد اجتمعوا كلهم نساء ورجالا، فلم نصل دار الطاغية إلا بعد جهد وعناء لكثرة ما اجتمع من الخلق. فحين قربنا من الباب، لقينا الوكيل «الميردوم» ومعه من معه من الأعيان. فسلم ورحب ودخل بنا الدار ويسمونها «بلاصيو» بلسانهم، ومعناه المشور. فجعلنا نمر بالجماعات من الأعيان والأكابر فيسلمون، ويقف كل منهم عند حده المعلوم له، إلى أن دخلنا قبة كبيرة لقينا بها كاتب الديوان الكبير، وهو رجل كبير السن جدا بلغ منه الكبر أن انحنى، فلقينا أحسن الملاقاة (..) ودخل بنا قبة أخرى لها باب من هذه القبة، فوجدنا الطاغية واقفا على قدميه وقد جعل في عنقه سلسلة من الذهب وتلك هي عوائد ملوك العجم، إذ هي عندهم بمثابة التاج، وعن يمينه طبلة من ذهب مرصعة أعدها ووضعها أيام مقامنا بعد وصولنا، ليجعل عليها البراءة السلطانية إجلالا وتعظيما لمرسلها أعزه الله تعالى. وعن يمين الطبلة وزير له يسمى «الكونديسطابلي» -هو بمثابة الحاجب، حسب شرح المحقق- وهو وزيره الذي بيده الدخل والخرج في الدار في جميع أمور الطاغية الخاصة به عياله وداره. وهو من أعيان أهل الديوان. وعن يمين الوزير المذكور زوجة الطاغية، ومعها من السيدات وبنات الأكابر عدد كثير. وعن يسار الطاغية وزراء آخرون. فحين دخلنا عليه رحب وهش وبش ولم يقصر في الترحيب والإكرام، وسأل عن سيدنا المنصور بالله تعالى سؤالا كثيرا، وحين ذكره أزال شمرير من على رأسه إجلالا وتكريما، فقلنا له بخير بحمد الله تعالى. وناولناه الكتاب السلطاني بعد تقبيله ووضعه على الرأس، وتناوله بيد فقبله وجعله على الطبلة المعدة له، بعد أن رفع أيضا ما على رأسه. ثم بدأ يستفهمنا عن أحوالنا في الطريق وما لقيناه من تعبها ومشتقتها فقلنا له خيرا وجازيناه على فعله وعلى فعل خدامه الذين تلقونا في طريقنا، ففرح بذلك وأعجبه. وبعد أن مر بنا الكلام قال الحمد لله على سلامتكم، وسنعيد الكلام في ما أتيتم إليه وقتا آخر، وخرجنا من عنده وخرج معنا من كان معه للتشييع قاصدين محل نزولنا وموضع مقامنا».
عندما كان السفراء يتمشون فوق الألغام
لم يكن سهلا أن يبعث ملك علوي، خصوصا المولى إسماعيل، سفيرا إلى دولة أوروبية.
أشهر سفراء ذلك العهد، كان بن حدو العطار، ابن عائشة، وهما الاسمان اللذان ارتبطا بعلاقة المغرب وبريطانيا، وملك فرنسا أيضا.
أما السفير الغساني الذي نتناول يوميات رحلته، التي كانت محفوفة أيضا بالمخاطر، فتدخل في سياق آخر كان الغرض منه إطلاق سراح الأسرى المغاربة لدى ملك إسبانيا.
هذه المهمة لم تكن سهلة أيضا، لكنها جاءت في عهد كان قد حل فيه نوع من الاستقرار والهدوء في العلاقات بين السلطان المولى إسماعيل وملك إسبانيا، بعد فترة من الاحتقان والمواجهات التي حدث بعضها قبل عهد العلويين.
المثير في رحلة الغساني، حسب محققها، الدكتور محمد بن عبد الرحيم بنحادة، الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، أنها تتميز بنوع من التفرد، بفضل السياق التاريخي الذي جاءت فيه، وذلك ظاهر في طريقة سرد السفير لمغامرته وطريقة استرساله في الحكي.
يقول ذ. بنحادة في مقدمة تحقيق مخطوط يوميات رحلة السفير الغساني: «بالرغم من كثرة الوافدين المغاربة على إسبانيا، فإن قلة منهم هي التي اهتمت بتدوين رحلة سفارية، وإن كانت الكتابة عن السفر تقليدا مغربيا راسخا منذ القدم، وإن كان الوافدون على قدر كبير من الثقافة والمعرفة.
الرحلة التي نقدم اليوم هي أولى الرحلات، أي أنها الرحلة الأولى من نوعها لمغربي إلى الديار الإسبانية، وتشكل المرجع الأساس الذي نهلت منه سائر السفريات الأخرى».
يقول د. بنحادة إن ما يتوفر عن السفير الغساني لا يعدو أن يكون معلومات قليلة فقط، وكل من ترجموا سيرته أكدوا أن أصوله تنحدر من الأندلس لأسرة نزحت من هناك واستقرت في مراكش، وأنه كان يعمل كاتبا في البلاط السلطاني بمدينة مكناس في أيام المولى إسماعيل.
وحسب ما أورده المؤرخ المغربي عبد الرحمن بن زيدان، فإن الغساني كان مولوعا بالمخطوطات وجمع الكتب ونسخها، وأنه كان أيضا خطاطا قبل أن يكون كاتبا. وكانت هذه الموهبة هي سبب استدعاء السلطان المولى إسماعيل له، لكي يخوض مغامرة الرحلة الدبلوماسية إلى إسبانيا. إذ قيل وقتها للمولى إسماعيل إن الإسبان يحتفظون بمخطوطات نادرة من زمن وجود المغاربة المسلمين في الأندلس، وإن المكتبة الزيدانية المسروقة منذ أيام السعديين توجد في حوزة الإسبان ويرفضون دائما تسليمها إلى المغرب، فوجه الغساني بهدف نسخ ما يمكن أن يصل إليه من كتب ومخطوطات مغربية إسلامية.
لكن الهدف السياسي، الأكثر وضوحا، أن الرحلة سنة 1690 تزامنت مع استعادة المغرب أيام المولى إسماعيل للعرائش، ووقع بين يدي المغاربة أسرى من الإسبان، ففكر المولى إسماعيل في إنشاء اتصال مع إسبانيا لتبادل الأسرى بين البلدين.
«شاعر» في مهمة دبلوماسية بأمر من السلطان
من يكون هذا السفير المغربي الذي أرسله المولى إسماعيل إلى إسبانيا سنة 1690؟ لقد كانت مغامرة فعلا من القصر الملكي في مكناس، أن أرسل رجلا كان في زمنه معروفا بإنشاد الشعر والتغني بالأندلس «السليبة». سفير كان موقفه من إسبانيا معروفا، حتى قبل أن يزورها لأول مرة في حياته.
والمثير للاستغراب أن المولى إسماعيل عهد إليه بمهمة تدبير أزمات سياسية خانقة بينه وبين ملك إسبانيا.
هذه الرحلة، حسب ما جاء في دراسات مؤرخين مغاربة، جاءت في سياق إعداد المولى إسماعيل لاستعادة الشواطئ المغربية من قبضة الإسبان والبرتغال، وهي المهمة التي لم تكن سهلة أبدا. فالمولى إسماعيل كان مدركا أنه يلزمه وقت طويل لكي يستعد عسكريا لحرب بحرية ضد البرتغال وإسبانيا، وقد لا تكون نتيجتها لصالح المغرب. لذلك فضل خوض معارك دبلوماسية، بالاعتماد على رجال ثقات على رأسهم السفير محمد الغساني.
جاء في دراسة نشرتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في نشرتها «دعوة الحق»، لسنة 1967، ما يلي: «إن المولى إسماعيل تيقن أن حكمه للمغرب لا يستقر له قرار، ما دامت بعض الشواطئ المغربية تحت قبضة الأجانب الذين كانوا قد استولوا عليها، وحاولوا بذلك أن يتغلبوا على البلاد وأن يستغلوا هذه الشواطئ لمصالحهم، سواء في ما يتعلق بازدهار اقتصادهم وتأمين أسطولهم، أو لاستغلالها لصيد الأسماك ولتهديد المواطنين ولقطع المواصلات بين المغرب والخارج، حتى يصير المغرب منعزلا عن الجهاز الدولي فيتحكموا فيه متى شاؤوا.
وإذا كان المسلمون في أواخر الدولة السعدية قد شعروا بهذا الخطر، فكانوا يعملون ما أمكنهم لتحرير الشواطئ المغربية، فإن المولى إسماعيل رأى أن هذا الأمر لم يعد هينا، ولا يمكن أن يبقى في أيدي جماعات لا تستند إلى قوة أو عصبية أو نظام، إذ لا بد من أن يدخل أمر التحرير في تصميم الدولة العام، وأن تتحمل الدولة جميع مسؤولياتها في ذلك، وأن تعد له المال والرجال لتحقق النصر وتيسر لنفسها الغلبة على أعدائها».
هذه الدراسة تناولت جوانب من شخصية هذا السفير المغربي، وتفسر إلى حد كبير ما جاء في «مذكراته» المنسية التي جُمعت في مخطوط الرحلة. حرص هذا السفير على تدوين مشاهداته، لا تفسير له سوى أنه كان ينظر إلى إسبانيا، في زيارته الأولى لها، سنة 1690 -الزمن الذي حدثت فيه الرحلة الدبلوماسية- بعيني الشاعر المفتون بالأندلس وتاريخ المسلمين فيها.
بالعودة إلى الدراسة التي تناولت حياة هذا السفير، نجد: «وهكذا نرى أن سفير المولى إسماعيل هاجت نفسه لرؤية البلاد الأندلسية بيد الإسبان، وتذكر حكم المسلمين هناك، وتمنى أن تعود إلى حكم المسلمين من جديد على يد المولى إسماعيل رحمه الله.
وهذه الأمنية كان يرددها شعراء المولى إسماعيل كثيرا، لأن فتوحاته أحيت أملهم وجعلتهم يتذكرون أيام الزلاقة والأرك.
إن الغساني إذن يمثل الظاهرة التي كانت في عصره ويعبر عن الخواطر التي كان يكنها المغاربة، ثم أبدوها للمولى إسماعيل صادقين، حين رأوا فيه الأمل المنتظر وشخصوا فيه الشجاعة المثلى والقدرة على تحقيق الأمل الضائع واسترجاع الحق السليب.
وأغلب الظن أن المولى إسماعيل لو لم تضع كثير من قواه في تهدئة الحروب الداخلية، لاستطاع تحقيق هذه الأماني التي كان يرددها الشعراء في عصره ويعبرون بها عن آمال المسلمين عامة.
ولم يكتف الغساني بتسجيل خواطره الأدبية وإظهار لوعته الروحية، بل صار يسجل تلك الحفاوة الكبرى التي لقيها الوفد المغربي في بلاد الأندلس مدة إقامته هناك، سواء من الشعب الإسباني، أو من الملك كارلوس الثاني وحاشيته، كما يصور ذلك التعلق الذي أبداه الأسارى المسلمون الذين كانوا يستقبلون الوفد بالترحيب والتعليل، ويعلنون بلفظ الشهادة وبالدعوة بالنصر للمولى إسماعيل المنصور بالله.
ويظهر في رحلة الغساني أنه كان يرى أن الاعتزاز بالشخصية المغربية والإسلامية ضروري لتحقيق الغاية من سفارته، لأنه كان يخشى إذا ما استهان بمقومات الشخصية المغربية في البلاد الأجنبية، أن تتلاشى سطوته وتزول هيبته وتضيع الأغراض التي يهدف إليها من سفارته».
هكذا وصف السفير مُستقبليه الإسبان بـ«الكفرة»
«مرسى جبل طارق هي مرسى كبيرة واسعة، وعلى بابها حصن منيع مبني أحسن بناء وبه من العدة والمدافع ما شحنه، إذ هو موضوع مبيت العسس وأهل الحرس، وهو مطل على المرسى جميعها. (..) والذي يقابل طريفة، هو القصر الصغير في حدود بلاد أنجرة، وهو أقرب من غيره إلى جميع البوغاز لكون مقدار ما بينهما ثمانية أميال. ومع هذا فالعمران من هذه النواحي ليس هو على قدر توقع الكفرة وتخوفهم. إذ ما بين مدينة جبل الفتح ومدينة طريفة هو خلاء لا عمارة به، وفي ما بينهما بلاد فسيحة متسعة الأرجاء.
وقد كان وصولنا إلى هذه المرسى، عشية يوم الأربعاء، أواسط محرم فاتح اثنين بعد مائة وألف. وهو يوم ركوبنا البحر من قصبة أفراك المطلة على سبتة. فوجدنا بالمرسى مركبا مهيبا مشحونا بالإقامة وما يستحقه من الآلات، كان وجه به الدوق القاطن بمدينة سان لوكار بأمر عظيمه، وهو الذي ينتهي إليه أمر تلك «الكوشطة» (أي كوسطا بالإسبانية وهي كلمة تعني الساحل) كلها، وهو من أعيان أكابرهم، إذ لا يتولى الكوشطة الموالية لبرنا إلا من له أصالة في الكبيرة ومن له لقب الدوق أو الكونط، لا غيره. وكان هذا المركب الكبير لما أن وجه به الدوق المذكور على يد حاكم كالص، أرسى به على سبتة، أعادها الله لدار الإسلام.
فلما أن تحرك الريح الشرقية التي لا يمكنهم معها بقاؤهم في قرب سبتة ولا في حوزها، رجعوا به إلى مرسى جبل الفتح وأقاموا هناك ينتظرون الريح التي يمكنهم فيها الرجوع إلى مرسى سبتة. والمقام هنالك إلى أن يحملونا. وحين حللنا نحن بفحص سبتة خرج أهل سبتة لملاقاتنا، وخرج معهم ولد القبطان وأعلمونا بانتظارهم لورود الموكب الذي في جبل الفتح، قلنا لهم إما أن توجهوا إليها وإما أن نعبر نحن البوغاز في مراكب صغيرة، لسرعتها في العبور وخفتها وشدة جريها. فأعدوا لنا ثلاثة مراكب هيؤوها وشحنوها بالمدافع التي تحميها. وركبنا وسرنا في حفظ الله نصف يوم إلى أن حللنا بالمرسى المذكورة. وانتقلنا من المراكب الصغيرة إلى المركب المعد لنا هنالك. وتقدمنا إلى قرب مدينة جبل الفتح وبتنا بالمركب. ولما انتصف الليل، هاج البحر علينا واشتد هيجانه وتلاطمت أمواجه والمركب يتقلب بنا يمينا وشمالا، ويتمرغ كما تتمرغ الدابة، حتى دخلنا الفزع والرجف إلى أن طلع الفجر».
مع حالة هيجان البحر، يقول السفير الغساني إنهم اضطروا إلى المكوث في مكانهم لأيام، كان خلالها «قائد البلد» مكلفا بإطعام الوفد المغربي وضيافته إلى أن صار استمرار الرحلة نحو إسبانيا ممكنا. وهكذا، رغم العراقيل الأولية التي صادفت رحلة الغساني، إلا أنه تجول في إسبانيا برا وبحرا، ولم يمنعه دوار البحر من إبقاء ذهنه متيقظا لتسجيل الملاحظات.
هكذا استقبل أول سفير مغربي بـ«سانتا ماريا»
يستمر الغساني في سرد وقائع رحلته المثيرة:
«وحين أرسينا على مدينة سانتا ماريا، وجدنا بساحل بحرها خلقا كثيرا من الرجال والنساء والصبيان، وقد برز حاكمها وقاضيها للملاقاة، ومعهما كدشان لركوبنا، فحين التقينا بهما عملا من الصواب وحسن الملاقاة ما لا ينكر لهما. فدخلنا المدينة وطافوا بنا جميع أزقتها وديارها وأسواقها، وإذا هي مدينة كبيرة واسعة رحبة الفناء، فسيحة الأرجاء، وأزقتها كلها مفروشة بالحجارة وهي من حواضر مدن العدوة ومن المقصودين في السبب والتجارة، ومع هذا فلا سور حاجز بين المدينة وبين البحر، وكذلك ما يلي البر منها. وبطرفها من جهة البحر دار كبيرة وقد سدوا بابها الذي يدخل إليها، وهي الدار التي كان نزلها السلطان الشيخ ابن السلطان أحمد الذهبي الداخل إلى إسبانيا، فلا يعمرها أحد ولا يسكنها، إذ عوائد النصارى أن يحترموا الدار التي نزل بها ملك من الملوك ويبنوا بابها فلا يسكنها أحد، وبناء بابها علامة ذلك عليها، كما فعلوا بمدريد في دار هي اليوم غير معمورة من عهد كارلوس كينطوا، إذ كان حارب ملك الفرنسيين وغلب عليه وأسره وأتى به إلى تحت ملكه ودار سلطته مدريد، وأنزله بالدار المذكورة وبقي تحت يده زمنا إلى أن سرحه ومنّ عليه. فتركوا الدار التي كان بها على حالها وغلقوا بابها بالبناء، فهي معروفة مشهورة».
كان المرشد الذي أدلى للغساني بهذه المعلومات في وضع لا يحسد عليه، إذ إن بعض الروايات التاريخية وصفت السفير الغساني بأنه كان حاد الطباع، لا يخفي استغرابه من الوقائع التاريخية الأوروبية الدموية التي رُويت على مسامعه، وكان يعلن موقفه منها فورا.
المعلومات التي زوده الإسبان بها عند تجوله بين مدن إسبانيا ومواقعها التاريخية، نقلها إليه المترجم لكي يدونها في مذكراته بحرص شديد على تفاصيلها، رغم أن تحقيق مخطوطه أفضى إلى رصد أخطاء في الأسماء فقط، والسبب أن الغساني لم يكن مستأنسا بالأسماء الإسبانية، حتى أنه كتب سانتا ماريا هكذا: «شنتمرية».
وقال في وصفها:
«ولما حللنا دار النزول بمدينة سانتا ماريا ورد أهلها وأعيانها للسلام والترحيب، وفيهم من البشاشات وحسن الملاقاة والبشر ما ليس في غيرهم، ولم يزل الحاكم والقاضي يختلفان إلينا ويترددان إلى أن مد الليل رواقه وأرخى في عنق الجوزاء أطواقه. ومن الغد حين أصبحنا ورد علينا بعض أعيان الدوك المتولي أمر هذه الكوشطة (يقصد بها الساحل حسب محقق المخطوط)، القاطن بمدينة سان لوكار معتذرا عن حال مشيعه بمرض منعه من القدوم، فقبلنا اعتذاره.
وخرجنا من المدينة بعد أن برز أيضا أهلها للتشييع، وخرج الحاكم والقاضي المذكوران وقبطان الخيل مع سريته وساروا معنا مسافة ثلاثة أميال إلى أن وصلنا حدا معلوما عندهم فاصلا بين عمالتهم وعمالة مدينة شريش، فترجل الأعيان وجميع من برز معنا وشيعونا بعد أن اعتذروا عن التقصير، وقالوا هذا هو الحد الفاصل بيننا وبين حاكم البلاد الأخرى التي تقابلنا، ولو أمكنتنا الزيادة لسرنا معكم اليوم كله إجلالا وإعظاما لمرسلكم، ولفرد عين ألف عين تكرم، فشيعناهم ورجعوا عنا».
اختراع البريد وعجائب السفر في أوروبا
يقول السفير الغساني:
«ولقد كانت ترد علينا من مدينة مدريد، ونحن مقيمون بمدينة سان لوكار على البحر الكبير، رسائل الكاردينال وأهل ديوانة إسبانيا لثلاثة أيام، وتمر من ساعة تاريخها، فنقضي العجب من ذلك مع أن مسافة ما بينهما أكثر من ثلاثمائة ميل. وكذلك يفعلون في سائر بلاد العجم. إلا أن الرقاص (أي ساعي البريد) يحتاج في المسافة الأولى إلى خط يد المتوجه من عنده وأنه مرسل إلى البلاد الفلانية ليعطيه ما يحتاج إليه من مركوب ومرافق، فإذا أعطاه أول موكل من وكلاء البنطات، صار ما يعطيه له بمثابة الكفيل والزعيم الضامن حذرا من أن يكون هاربا من فعلة فعلها، أو شبه ذلك من الأمور التي يحذر منها وتلحق الوكلاء بسببها عقوبة..».
لم يكن اختراع البريد وحده ما أثار انتباه وإعجاب السفير الغساني، بل أيضا مسألة التنظيم الإداري وتقدم الإسبان في صناعة السفن وبناء الأرصفة والمنازل والصروح العمرانية.
المثير أن هذا السفير رأى وزار أكبر عدد ممكن من مدن إسبانيا، إذ لم يكن يقضي في كل مدينة أكثر من يوم أو يومين إلى ثلاثة أيام على أبعد تقدير، لكي يشد الرحال في صباح اليوم الموالي إلى مدينة أخرى.
وهنا يصف لحظة وصوله إلى مدينة «خيتافي» الإسبانية:
«وفيما قبل مدينة مدريد على ستة أميال، مدينة كبيرة تسمى خيتافي، وهي كبيرة جدا، إلا أنها حيث كانت قريبة من حاضرة مدريد، وصادرت مدريد بهذا الزمن هي حاضرة إسبانيا لهذا العهد، انتقلت حضارة خيتافي ومدن حواضر إسبانيا إلى مدينة مدريد. فوصلنا إلى مدينة خيتافي هذه عندما انتصف النهار، فلقينا بها رجلا من أعيان خدام الطاغية يسمى «كارلوس»، (..) فحين لقينا ترجل وسلّم نائبا عن عظيمه، وأركبنا في الكدش الذي أتى به بعد أن رحب وأظهر من البشر ما أظهر، وسار بنا قاصدا مدريد، فحين قربنا منها بقدر ميل رأينا خلقا كثيرا وبرزوا للملاقاة، وكان منهم صاحب الكدش والمترجل والفارس وغيره».
سفارة المولى إسماعيل إلى ملك إسبانيا، والتي كان الغساني على رأسها، تبقى واحدة من أهم السفارات وليس أولها فقط. ورغم أن الغساني لم يحقق نتائج كبيرة من الناحية الدبلوماسية، على الأقل عندما كان لا يزال في إسبانيا، إلا أن رحلته تلك جعلت المولى إسماعيل يدرك جليا ما كان بصدده، خصوصا وأنه فتح جبهات أخرى ضد فرنسا والبرتغال والإنجليز أيضا.
السفير الغساني لم يكن يخفي عداءه للإسبان، رغم الكياسة التي تعامل بها مع مستقبليه.
لم يكن ممكنا اختصار بداية العلاقات الإسبانية المغربية في عهد المولى إسماعيل برحلة الغساني وحده. إذ إن سياق الرحلة وتفاصيلها، لم يسمحا للسفير، ثم للمولى إسماعيل في وقت لاحق، بفهم المشكلة المغربية الإسبانية في ذلك الوقت. واحتاج المولى إسماعيل إلى مفاوضات حامية مع الإسبان، جاءت في وقت لاحق، لكي يعزز موقفه من إسبانيا ويفوز بصفقات تبادل الأسرى. لكن مشاكل أخرى ظلت قائمة، على رأسها مشكلة سبتة ومليلية، وقضية المكتبة الزيدانية التي رفض الإسبان إعادتها إلى المغرب.
فهل كان الغساني مخطئا عندما أبقى فوق رأسه عباءة الفقيه والشاعر الذي تملكه الحنين إلى زمن الأندلس، وهو يتجول في قصور إسبانيا ويستقبله وزراؤها وكبار مسؤوليها؟ لم يكن الغساني معنيا بالبحث عن جواب لسؤاله، لأن العلاقات المغربية الإسبانية دخلت بعد رحيله، ورحيل المولى إسماعيل، محطات أخرى أكثر تطورا، تقارب فيها البلدان أكثر مما تباعدا سابقا في تاريخهما المشترك.





