القصة المنسية لميلاد «العملة» المغربية
من «الموزونة».. «المْثقال» و«الحَسني» إلى «الفرنك» والدرهم

«العملات التي عرفها المغرب في تاريخه، كانت محلية. بسيطة، غير دقيقة، إلا أنها تحمل نقشا موحدا يحيل على تاريخ سكها، وشعارا يذكر حاملها برعاية السلطان لأموال الدولة..
إلى أن جاءت سنة 1881، ويقرر المولى الحسن الأول أن المغرب يحتاج فعلا إلى عملة عصرية قوية تنافس العملات الأجنبية، التي بدأت تظهر في السوق المغربية مع انتقال الأجانب، بريطانيين وفرنسيين وألمان، إلى العيش في المغرب، فظهر «الحَسني»..
نجحت العملة المغربية الحسنية في مواكبة حاجة السوق المحلية، لكن ظروف الحماية عجلت بإعدام «الحسني»، وحل محلها الفرنك.. وفي دجنبر 1959 انتهى رسميا التعامل بالفرنك، وأصبح «الدرهم» المغربي عملة المغاربة المعروفة.. كان وقتها وزير الاقتصاد هو عبد الرحيم بوعبيد.. ومع ظهور الفئات المالية التي تحمل صورة الملك الراحل محمد الخامس، بدأ المغاربة يتعرفون على الأوراق المالية المحلية المحدودة، قبل أن تأتي سنة 1965 ويصدر الملك الحسن الثاني أول ورقة قوية من فئة 50 درهما، نجحت في الإحاطة بحاجة السوق المغربي وثروات أثرياء المغرب من رجال أعمال وتجار وأعيان.. إلى أن صار المغرب يطبع أوراقه محليا، بعد تأسيس دار السكة سنة 1987.. هي إذن رحلة طويلة عريضة قطعتها الأوراق والعملات المعدنية لتصل إلى شكلها الحالي.
+++++++++++++++++++++++++++++++
كيف انتقل المغاربة من «سك» القطع المعدنية إلى طباعة المال
أول ورقة مالية عرفها المغرب في تاريخه لم تصدر إلا في يوم 2 دجنبر 1911، وكانت الأوراق الصادرة من فئة «عشرين ريالا». ثم بعد ذلك ظهرت أوراق الفرنك المغربي، المشتق من الفرنك الفرنسي، سنة 1920.. لتقطع «الأموال المغربية»، النقدية والورقية تاريخا طويلا، إلى أن حل يوم 28 دجنبر 1958، وتقرر الحكومة المغربية إنهاء التعامل بالفرنك المغربي، ويولد الدرهم المغربي الذي مر بمراحل، أبرزها محطة شهر مارس 1987، عندما أشرف الملك الراحل الحسن الثاني على تدشين دار السكة المغربية العصرية، والتي أوكل إليها سك النقود وطبع الأوراق النقدية العصرية، ليبدأ عهد مالي مغربي آخر.
كان المغاربة قبل خمسة قرون تقريبا، يعرفون العملة المعدنية التي كانت تُضرب من طرف الصاغة المعتمدين، وتحمل نقوشا متفقا عليها. ورغم اجتهادات الدولة المغربية لتوحيدها، سواء في عهد العلويين أو قبله مع السعديين، إلا أن العملية كانت تشوبها الكثير من الاختلالات.
إلى أن حلت سنة 1881، عندما قرر السلطان المولى الحسن الأول ضرب عملة «الحَسني»، ليعلن عنها باعتبارها منافسا قويا للعملة الإسبانية التي ظهرت بقوة في وسط المغرب، خلال ذلك التاريخ.
في طنجة الدولية، كان المغاربة يعرفون عملات معدنية وورقية متقدمة مملوكة لدول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وحتى من شرق آسيا.. لذلك كان يتعين على المغرب أن يواجه هذا المد المالي، بتأسيس عملة مغربية عصرية.
ورغم أن «دار الماكينة»، كانت تضرب بعض العملات، إلا أن الأمر كان يحتاج إلى إنتاج قوي ينافس العملات الأجنبية. وهكذا فقد وقع الاختيار على «دار السكة» في فرنسا، لكي تضرب عملة «الحسني»، وتوجهها إلى المغرب.
ولم يكد عصر المولى الحسن الأول ينتهي سنة 1894، حتى كان «الحسني» قد وجد طريقه فعلا إلى السوق المغربية، وتعزز دوره، حتى أن أثرياء المغرب عززوا ثرواتهم بامتلاك مبالغ مهمة من الحَسني.
لكن مع مجيء الحماية المغربية سنة 1912، توقف رسميا إصدار الحسني، وأصبحنا أمام عملة جديدة هي الفرنك. إذ إن فرنسا عملت على إصدار عملة مغربية جديدة اكتسحت بها السوق.. وبقي «الحَسني» مملوكا لدى القبائل المغربية وكبار الأعيان المحليين الذين تأخروا لفترة في مواكبة الاقتصاد الجديد لمغرب الحماية.
هناك دراسة مهمة أصدرها الباحث المغربي عمر السعدي المنجرة، في يونيو سنة 1959، وتطرق فيها إلى وضع الأثرياء ورجال الأعمال المغاربة، قبل الحماية وخلالها، وملامح تأثر الاقتصاد المغربي بفترة الحماية عموما.
يقول متحدثا عن تأثر اقتصاد المغرب بالحماية الفرنسية، خصوصا في مجال التصنيع، الذي انحصر 70 بالمئة منه في مدينة الدار البيضاء وحدها ما بين 1912 و1956: «إن العمليات التجارية داخل السوق الداخلية التي تشتمل على طائفتين، تتوفر أولاهما (وهي الطائفة الحضرية) على دخل مرتفع نسبيا، والثانية (وهي الطائفة القروية التي تكون في غالب الأحيان، موزعة توزيعها حسنا) على مستوى جد منخفض في المعيشة، هي عمليات هامة بالنسبة إلى المنتوجات الأساسية (كالدقيق، والسكر، والزيت) وبالنسبة كذلك إلى المنتوجات الفلاحية المحولة (كالسميد، والكسكس، ومريبات الخضر، والفواكه إلخ).
ويجب أن نذكر أن الجالية الأوروبية كانت في الماضي وما زالت حتى الآن تستهلك قسطا كبيرا من المنتوجات المستوردة ومن المنتوجات الجيدة المصنوعة بالمغرب، فبقدر ما يرتفع مستوى معيشة السكان المغاربة، يزداد طلب مواد الاستهلاك، بل إن هذه الزيادة تفوق ارتفاع مستوى المعيشة. وهذه ظاهرة يجب مراعاتها: ذلك أن الزيادة في الدخل بالنسبة إلى المغربي تنتج عنها ــ ولو لأجل ما ــ زيادة أهم من سابقتها تطرأ على الاستهلاك، لأن التوفير لا يتيسر، إلا بعد فترة طويلة من الاستهلاك.
ولنتعرض بصفة موجزة لعدد التجار المغاربة (المقيدين بالسجل التجاري)، ففي 1956 بلغ عدد التجار الفرنسيين 26400 تاجر، كما أن عدد التجار الأجانب بلغ 10800، وأما عدد التجار المغاربة فقد وصل إلى 23000».
بدا واضحا أن الفرنك الذي فرضته فرنسا، قد أجهض فرصة لازدهار «الحَسني»، لو تم الإبقاء عليه بعد فرض الحماية.. علما أن إشارات المؤرخين، تؤكد أن «الحَسني» كانت أمامه فرصة كبيرة لإنماء السوق المغربية.
من «دار ماكينة» السلاطين.. إلى «دار السكة» مع الحسن الثاني
لم تكن دار السكة المغربية معروفة، ولم تظهر «دار سكة» حقيقية في المغرب إلا في سنة 1987، عندما أسسها الملك الراحل الحسن الثاني وأشرف بنفسه على عملية سك الدرهم المغربي بالمواصفات العالمية المتعارف عليها.. وقطعت «دار السكة» أشواطا طويلة في تطوير طرق سك النقود، ثم طباعة الأوراق المالية بمعايير دولية تجعل تزويرها معقدا، وصولا إلى إنتاج جواز السفر المغربي الحديث..
لكن قبل دار السكة العصرية، كان المغرب يتوفر على «دار الماكينة» بفاس، وهي مصنع كبير اشتهر بصناعة السلاح.. لكن إلى جانب هذا النشاط، كانت تجري خلف أسواره أيضا عملية سك القطع النقدية، بمراقبة صارمة من السلطان، سواء خلال عهد المولى الحسن الأول، أو قبله مع المولى محمد بن عبد الله، حتى لا يطول العملية أي غش.
عملية طبع العملات المغربية كانت أمرا لا مفر منه، خصوصا مع ظهور الجاليات الأجنبية في المغرب، وازدياد «حملات» التنقيب عن الذهب في نواحي فاس، والدار البيضاء ومراكش..
إذ إن عمليات التنقيب وإنشاء المناجم، والتي عرفت تطورا كبيرا بعد 1914، كشفت أن المغرب بلد غني بالثروات.. وكان لا بد أن ينعكس هذا الوضع على سوق العملات المعدنية والمالية. ولهذا السبب تحديدا، كانت فرنسا قد أجهزت على العملة المغربية، وأسست «الفرنك» الذي بقي متداولا في المغرب ما بين 1912 إلى حدود 1959، عندما انتهى تداوله رسميا بأمر من حكومة بلافريج، الذي كان يقود فيها عبد الرحيم بوعبيد وزارة الاقتصاد، وأشرف بنفسه على عودة العملة المحلية، بعد عقود طويلة من الاختفاء.. وظهر «الدرهم» المغربي أخيرا.
في سنة 1965، ظهرت لأول مرة ورقة نقدية من فئة 50 درهما. وقد كانت هذه العملة مطلوبة، خصوصا وأن أثرياء المغرب قد حولوا ثروتهم إلى فئات مالية من هذه الورقة «السحرية»، بعد سن قانون يمنع تداول العملات الأقدم، خصوصا «الفرنك».. وأصبحت ثروات رجال الأعمال وكبار التجار التقليديين مهددة بفقدان قيمتها إن لم يحولوها إلى الدرهم المغربي، وحفظها في أوراق مالية من فئة 50 درهما الجديدة.
طُبعت هذه الورقة المالية في فرنسا، وهو ما أعاد إلى الأذهان قصة ظهور «الحَسني» في زمن المولى الحسن الأول. ومع الملك الراحل الحسن الثاني، تطور الدرهم المغربي، إلا أن عملية إصدار الطباعة المحلية للورقة النقدية الأكثر طلبا في المغرب، لم تتم إلا في سنة 1987 عندما أسس الملك الراحل الحسن الثاني دار السكة، وأطلعه المتخصصون -أغلبهم درسوا وتكونوا في فرنسا- على أحدث آلات طباعة الأوراق المالية، وطرق تعقيد طباعتها حتى يصعب تزويرها.. وهكذا، ازدهرت عملية الطباعة، وظهرت الفئات المالية الورقية الأقل قيمة، وانتشرت بكثرة في السوق المغربية.
«تزويد المغرب بوحدة إنتاج عملة محلية»، نقل سوق المال المغربي نقلة نوعية، حيث إن الطباعة خارج المغرب، كرست اقتصار تداول الأوراق المالية على فئات بعينها.. قبل أن يتم تعميم تداول الأوراق المالية، وتُطبع بشكل واسع تلبية لحاجة السوق، وموازاة مع الاحتياطي المغربي.
+++++++++++++++++++++++++++++++++
عُملة المغرب ضُربت في باريس والحسن الأول صحح أخطاء الوزن سنة 1881
في البداية، لم يكن وزن العملة المغربية موحدا. فإلى حدود القرن 18، كان يتم العمل بوحدتي وزن مختلفتين على عهد المولى محمد الرابع. وهذا السلطان بدوره ورث أوزانا أخرى، منها ما يعود إلى عهد السلطان المولى إسماعيل. لكن أهم إصلاح مالي عرفه المغرب، يعود بالفعل إلى سنة 1881، أي في عهد السلطان المولى الحسن الأول.
يقول الباحث المغربي عمر أفا، في بحث مهم عن تاريخ النقود المغربية، عنوانه: «النقود المغربية في القرن الثامن عشر»، خصوصا في منطقة سوس، اعتمادا على مخطوطين في النقود والأوزان..
«ولأن الأمر يتعلق بالنقود المغربية، فقد عمدنا إلى ترجيح وزن الدرهم الشرعي الحسني الوازن 2،9116 غراما، والذي حققه السلطان مولاي الحسن أثناء إصلاحه النقدي سنة 1881. وقد حققه بناء على مبدأ الاستناد متسلسلا عن وزن درهم السلطان محمد بن عبد الله عن وزن السلطان مولاي إسماعيل عن وزن درهم الشرفاء السعديين عن وزن السلاطين المرينيين وغيرهم من ملوك دول المغرب. وأكد ذلك في ظهير صادر لمحمد بركاش.
وقد صمم المهندسون والصَّاغة المغاربة بناء على هذا الإسناد «أمثلة» الوزن المحققة، وما أن بدأت دار السكة في باريس بضرب القطع الأولى من النقود المغربية وبدأ ورودها، حتى اكتشف الأمناء خطا تقنيا يتعلق بفساد وزن النماذج الأولى، لأسباب لم تفصح عنها الوثائق، فتوقف الإصدار وجمع السلطان الفقهاء والقضاة والأمناء والصَّاغة لتصحيح الوزن الشرعي وإصلاح النماذج الفاسدة، فصنعوا الدرهم الشرعي المحقق بكميات كبيرة أرسل منها السلطان 120 نموذجا لمحمد بركّاش بطنجة، وعلى أساسه ضبط وزن الدرهم المغربي بدار السكة بباريس بما توفر له من وسائل ضبط الوزن الحقيقي البالغ 2،9116 غراما. وقد تتبعنا مدى اعتماد هذا الوزن والالتزام به واستمراريته من خلال مراقبة الأمناء للسكك التي ترد من باريس، فوقفنا على ضبط هذا الوزن بفحص لوائح المراقبة، وكذلك من خلال بعض القطع المضروبة في دار السكة بفاس والتي تدعى (ماكينة فاس)».
اكتشاف أمناء المولى الحسن الأول لأخطاء وزن العملة المغربية التي كانت تضرب في باريس لم يمنع من العودة إلى ضرب العملة في فرنسا، فقد كان الأمر معمولا به لسنوات، كما أن المغرب كان وقتها قد جرب عملات محلية لم تكن بدورها تخلو من الأخطاء. بل إن عملة فرنسا نفسها، كانت تحدث بها أخطاء أثناء قياس الوحدات المعدنية.. ففي ذلك التاريخ، لم تكن عملية ضرب العملة المعدنية تخلو من الأخطاء، نظرا إلى اعتماد طرق يدوية في عملية السك.
كان بعض العلماء المغاربة على عهد المولى الحسن الأول يشددون على ضرورة مراعاة عملية قياس الأوزان بدقة، قبل ضرب النقود المغربية، خصوصا «الحسني»، الذي يعتبر إلى الآن أحد أهم الإصلاحات المالية في تاريخ المغرب. فقد تعرف المغاربة مع «الحسني»، العملة المغربية المحلية التي أطلقها السلطان الحسن الأول أثناء الإصلاح المالي، على أول نسخة مغربية من العملة المعدنية الحديثة، بعد أن النقود المعتمدة في تاريخ المغرب لا تعدو أن تكون قطعا معدنية موزونة ومنقوشة بطريقة بدائية. لكن «الحسني» كان يصدر في إصدار عصري، بحكم أنه ضُرب بالاستعانة بخبراء النقد في أوروبا.. حتى أن عددا من الكتاب والرحالة الأجانب الذين زاروا المغرب في عهد المولى الحسن الأول، كانوا قد أشادوا بعملة «الحسني»، ومدى نقاء معدنها ونقوشها.
«الحسني».. محاولات تزوير أشهر عملة عرفها المغرب قبل الحماية
عندما باشر المولى الحسن الأول إصلاحه المالي، أطلق عملة «الحسني»، وكان يريد تعزيزها في السوق وتوسيع نطاق تداولها، لكي تصبح بقوة العملات الأوروبية التي يتم تداولها في ذلك التاريخ بقوة في طنجة الدولية.
في سنة 1881، توصل المولى الحسن الأول بشكايات من بعض موظفي المخزن مفادها أن قياس العملة مقارنة مع مخازن الحبوب والذهب والنحاس، تشوبه الكثير من الخروقات. وأنزل السلطان وقتها عقوبات مشددة على المتلاعبين الذين كان أغلبهم من التجار.
وهكذا، فقد كان السلطان – بعد نصائح من علماء القرويين- أمام خيار وحيد وهو تقوية العملة المحلية.
كان السلطان قد توصل سابقا، عن طريف «باحماد»، رجل ثقته والوسيط بينه وبين القناصلة الأجانب، بنصائح من قناصلة الدول الأجنبية المقيمين في طنجة، بخصوص تطوير العملة المغربية. وهكذا فقد كان الحسني يُضرب في دار السكة في باريس، وتقرر في محطات كثيرة أن تضرب العملة في المغرب، خصوصا في «دار الماكينة» بفاس.
لكن الحسني، بغض النظر عن الروايات التاريخية التي تطرقت إلى ميلاده وتطوره، يبقى أشهر عملة مغربية جرى تداولها في المغرب قبل الحماية، ومجيء الفرنك الفرنسي.
حَوَّلَ الأعيان والأثرياء المغاربة عملتهم إلى «الحسني»، وسرعان ما أصبحت هذه العملة متداولة بقوة في السوق المغربي.. لكنها كانت أيضا وسيلة لكنز المال في أوساط الأثرياء والأعيان المغاربة. حتى أن ثروة المدني الكلاوي، قبل وفاة المولى الحسن الأول، كانت تقاس بمقدار حمولة البغال من عملة «الحسني»..
ويشهد القنصل الأمريكي في طنجة الدولية، السيد إدموند هولت، والذي اشتغل في المغرب سنة 1909، أن عملة «الحسني» كان لا يزال معمولا بها في المغرب، بل وفي طنجة الدولية أيضا. أي أنها صمدت بعد وفاة المولى الحسن الأول سنة 1894، وبقيت متداولة إلى أن فرضت الحماية على المغرب سنة 1912. فالكتاب صدر لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1914، وكان صاحبه قد أشار إلى عملة «الحسني» على أنها العملة المغربية الرسمية.
يقول في شهادته ضمن مذكراته، أرض المغرب العجيب:
«بإمكان المرء دفع ثمن مشترياته بأي عُملة معترف بها في طنجة الدولية. لكن من الواجب معرفة كيفية تحويل العملة الإنجليزية إلى الفرنسية، والفرنسية إلى الإسبانية، والإسبانية إلى عملة المغاربة، وإذا كان المرء أمريكيا، فإنه يتوجب عليه أيضا أن يعرف قيمة الدولار الأمريكي وكم تساوي مقارنة مع كل هذه العملات الأخرى.
علاوة على هذا، فإن «سعر الصرف» غير المعروف، يتقلب من يوم لآخر، وأحيانا يتغير من ساعة إلى أخرى. وتصبح الشلنات الأربعة بالعملة الإنجليزية التي كانت تساوي في الساعة التاسعة صباحا أربع بسيطات وخمسة بنسات بالعملة الإسبانية، أربع بسيطات وستة بنسات وقت الظهيرة. ويمتد هذا التقلب إلى حد كبير، ليشمل العملة المغربية «الحسني».
أربع شلنات إنجليزية قد تساوي خمس قطع من العملة الحسنية وثمانية بنسات، وفي المساء تساوي ستة شلنات أو أكثر. وهكذا نرى في كثير من الأحيان، الصيارفة اليهود يركضون بكل حماس ذهابا وإيابا في الشوارع، يتحكمون ويقررون في حساباتهم المودعة لدى البنوك الإسبانية والفرنسية والألمانية في طنجة».
المثير أن القنصل الأمريكي تطرق أيضا إلى واقعة مهمة تتعلق بعملية «تزوير» لعملة الحسني المعدنية، على يد بعض الحرفيين. بل إنه تعامل مع صائغ يهودي مغربي، كان مُتهما بتزوير عملة الحَسني:
«سألنا الحِرفي بن طويل عندما لاحظنا أن بعض مصوغاته الفضية تحمل نقوشا على الطراز المراكشي:
-«ألستَ مراكشيا؟»
صرّح ابن الطويل إن المدينة التي ولد فيها هي الصويرة وليس مراكش. وأضاف:
-«أنا من يهود الصويرة. كما تعلم، نحن نُتقن التقليد بذكاء وبراعة».
-«نعم، وقد سمعتُ بهذه المعلومة من قبلُ، خصوصا قصة تقليد العملة المعدنية لمولاي الحسن».
وابتسمنا بلطف، لأن الشائعات تقول إن هذا الحِرفي، إسرائيل بن الطويل، يقضي ساعات طويلة، ومُربحة أيضا، في تحويل الفضة الخام التي تُستخرج من منطقة الأنجرة، إلى قطع نقدية يتم تمريرها باعتبارها عملات مالية حقيقية.
وجاء رد إسرائيل، وهو يهز كتفيه في لا مبالاة، مشيرا إلى منتوجاته الفضية التي وضعها أمامنا:
-«ولكن هذا الأمر لم يتم إثباته نهائيا.. هل وجدت معاليك ما يُرضيك؟».
هذه عائلات مغربية كانت تضرب العُملة قبل خمسة قرون
في بحثه «النقود المغربية في القرن الثامن عشر أنظمتها وأوزانها في منطقة سوس، الصادر سنة 1993، يقول الباحث عمر أفا، إن هناك عائلات مغربية، يهودية، في منطقة سوس تحديدا..
وهذا ما يفسر وجود بقايا عملات مغربية قديمة، قبل عهد العلويين – خصوصا في عهد الموحدين والسعديين- كانت تحمل نقش النجمة السداسية.. ولا يزال يتم العثور على عينات منها في المواقع الأثرية والقصور والقصبات التاريخية، في منطقة سوس.
وقد أورد د. عمر أفا أسماء بعض هذه العائلات التي عاشت في سوس، قبل 1473 ميلادية، ومن أبرزها:
سكة ابن سبعين، وسكة ابن سلمون، وسكة ابن ميمون، وسكة ابن سوسان.
هذه كانت أبرز العائلات التي نشطت في سك العملة المحلية في منطقة سوس، ووصل مداها إلى فاس ومراكش، قطب التجارة والاقتصاد المغربي في ذلك الوقت.
وبعد هذه الفترة، ظهرت عائلات أخرى اشتهرت بسك العملة المحلية، إلا أن سكتين فقط كانتا معترفا بهما، وهما: سكة ابن التويجر، وسكة أبو الخيط. وكانت السكة الأخيرة معروفة بأن ثلثي وزنها من الفضة النقية، وثلث آخر من النحاس، وهو ما جعل قيمتها مرتفعة مع بقية العملات المحلية الأخرى.
لم يكن هذا يعني أن العملات المضروبة وقتها في المغرب كانت متضاربة، إذ رغم أن العائلات التي تنشط في سك العملات المغربية كانت متفرقة، إلا أن النقش كان موحدا، وحتى الشكل كان كذلك، مع اختلافات طفيفة فقط.
بقي اليهود المغاربة يحتكرون سوق العملات المحلية، بحكم أنهم كانوا من أهل حرف الصاغة. ففي مدن تارودانت ومراكش والصويرة وصولا إلى فاس، كانت الأسر اليهودية تحتكر هذه الحرف، وقلما تجد غيرها في سوق صياغة الحلي والمجوهرات.
وكان طبيعيا أن تحتكر هذه الأسر احتياطي الذهب «الوطني» في ذلك الوقت. بل كان الأمر يتم بترتيب من السلطان. إذ إن سلاطين المغرب عهدوا إلى أسر يهودية مغربية موثوقة، بأمانة الحفاظ على مخزون الذهب والفضة وضبط أسعارهما، في عز الأزمات التي مرت بها البلاد..
وهذا ما أدى إلى ظهور عائلات مغربية يهودية ثرية، بعد سنة 1700، سيما وأن مدينة الصويرة، التي أرسل إليها السلطان أسرا يهودية لكي تشتغل في التجارة واستيراد بعض السلع بشكل حصري من أوروبا، كانت تضم وحدها أكثر من ثلث احتياطي العملة المحلية التي كان يسكها اليهود المغاربة، برعاية من السلطان شخصيا. فقبل عهد المولى الحسن الأول الذي وصل إلى الحكم سنة 1873، كان بعض التجار اليهود قد ارتكبوا مخالفات بخصوص تخزين الذهب ومقايضته في السوق، وأنزل السلطان عقوبة بإعطاء أوامره إلى مراقبي الأسواق من قضاة وخلفاء للسلطان، لمنع سلوكات مشابهة. وهذا يعني أن القصر كان دائما يراقب سلامة القطع النقدية والعملات التي كانت تضرب في المغرب، قبل زمن «الحَسني»، والفرنك الفرنسي.. ثم الدرهم المغربي المعروف.
قصة «الدرهم الشرعي».. أول عملة مغربية قدرت قيمتها بأوزان الحبوب
في السابق، كانت النقود المضروبة في عهد الملوك المغاربة، من الدولة الموحدية، ثم السعدية، ثم مع العلويين عندما أطلق المولى إسماعيل، قبل وفاته سنة 1727، عملته المحلية، تشترك جميعا في أنها تفتقر إلى الشكل الذي يليق بعملة وطنية موحدة. إذ رغم اتحادها في الشكل المنقوش على ظهرها، إلا أن قُطرها لم يكن دقيقا، وأحيانا كانت تصدر منها أشكال غير مُكتملة، لكنها اعتمدت في السوق المغربي لقرون متواصلة.
حتى أن أغلب ما بقي منها اليوم لا يزال شاهدا على أجواء وظروف عملية ضرب العملة في تاريخ المغرب.
لكن هذا لم يكن يعني أن عملية ضرب العملة في المغرب كانت عشوائية أو مرتجلة، بل كان تعين لها لجان من الأمناء والعلماء والحرفيين، يتولون قياسها عملة بعملة، وهكذا فإن أخطاء إصدار العملات المغربية لم تكن واردة، وقلما سُجلت أخطاء من هذا النوع.
حتى أن العالم المغربي عمر بن عبد العزيز الكرسيفي، وهو أحد أشهر العلماء المغاربة خلال القرن 18، كتب رسالة يشرح فيها عملية ضرب العملة المغربية وقتها، وطرق المراقبة والتدقيق في الأوزان. وهذا المخطوط الذي تركه الكرسيفي في وصف العملة المغربية، وجمعه العالم المغربي المختار السوسي قبل وفاته، بداية الستينيات من القرن الماضي، يشرح العملية بالتفصيل. بل ويسجل القاعدة المغربية المعتمدة في تحديد قيمة العملة الواحدة من حبوب الشعير أو القمح.. بحكم أن المغاربة في ذلك التاريخ -أي خلال القرن 18- كانوا يتعاملون بالمقايضة.. وكان لا بد من تحديد قيمة العملة الواحدة، وكانت تسمى الدرهم الشرعي، استنادا إلى وزن محدد من الحبوب:
«واعلم أن السنبلة لها وجهان، في كل وجه ثلاثة صفوف من الحبوب طولا، فالصف التوسط من الثلاثة أبدا هو الأعلى – وزنا – والمتطرفان دونه، وبينهما يكون الوسط المطلوب، هذا إذا صلح الزرع ولم تصبه آفة من عطش أو ربع أو غيرهما. وأما الأدنى فهو الضامر الذي قل دقيقه لجائحة أصابته، أو الصغير جدا في أصل الخِلقة، وإن امتلأ أينما وقع في السنبلة. فالصفان المتطرفان حينئذ هما اللذان يطلب الوسط من حبوبهما؛ وعلامة الحبة التي تكون منهما بعد الانتثار بالفرك أو الدراس اعوجاج الشق الذي بباطنها. فالحبوب التي كانت كذلك هي التي تلتقط حتى يجتمع منها في الكف جملة نحو المئة، فأكثر. ثم يقصد أيضا من تلك الجملة وسطها، لأنه لا بد أن يكون فيها ما يقرب إلى الأعلى وزنا وما يقرب إلى الأدنى كما ذكرنا أولا. فإذا اجتمع من وسط الملقوط خمسون حبة مع جزأين آخرين من حبة أخرى مقسومة على خمسة أجزاء، فقد حصل مراده الذي هو معرفة قدر درهم الكيل… رأي الدرهم الشرعي».





