
لا أعرف ما الذي دفعني للبدء في الكتابة. لقد كتبتُ منذ أن كنتُ صغيرةً جدًّا. أعتقد أنني أحببتُ أغاني الأطفال، واعتقدت حينها أنَّ بإمكاني فعل الشيء نفسه، فكتبت أول قصيدة لي عما أراه وأسمعه في ليالي الصيف الحارَّة، وكنتُ في الثامنة والنصف من عمري ونُشرت في صحيفة «ذا بوسطن ترافيلر». ومنذ ذلك الحين أصبحت، إلى حدٍّ ما، محترفة في هذا المجال. وهذه هي القصيدة الموجزة والسَّاحرة التي حملت عنوانًا بسيطًا: «قصيدة»:

أَسمعُ صريرَ الجَداجدِ
في العُشبِ النَّدِيِّ
يرقصُ اليراعُ المُتوهَّجُ
مُتلأْلئًا أثناء مرورهِ.
أعتقد أنني كنت سعيدةً حتى سن التاسعة تقريبًا، كنتُ خالية البال وأؤمن بالسِّحر، مما أثَّر عليَّ بشكلٍ كبيرٍ. ثم شعرتُ بخيبة الأمل في سن التاسعة، فتوقفتُ عن الإيمان بالجنيات وسانتا كلوز وكل هذه القوى الطيبة الصغيرة، وأصبحتُ أكثر واقعيةً واكتئابًا. بدأت أتأقلمُ تدريجيًّا بشكلٍ أفضل وأنا في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة. لكنني بالتأكيد لم أعش مراهقة سعيدة، وربما كان ذلك جزءًا من السبب الذي جعلني أتجه بشكلٍ خاص نحو الكتابة.
كنت أكتب اليوميات، والقصص، وما إلى ذلك. كنتُ منطويةً إلى حد كبير خلال تلك السنوات الأولى.
الحب الأول
عندما بدأت الكتابة، كنت أكتب عن الطبيعة: الطيور والنحل، والربيع والخريف. وعن كل تلك الموضوعات التي تُعتبر عطايا للشخص الذي ليست لديه أي خبرةٍ داخليةٍ للكتابة عنها. أعتقد أن قدوم الربيع، والنجوم في السماء، وأول تساقط للثلج وما إلى ذلك هي عطايا الله لطفلٍ، شاعرٍ صغيرٍ. فالكتابةُ هي الحبُّ الأول في حياتي. عليَّ أن أعيشَ حياة جيدةً، وغنيةً ومُنفتحةً ومليئةً بالتجارب، لأتمكَّن من الكتابة، فلا يُمكنني أن أكون تلك الكاتبة الانطوائيَّة ضيِّقة الأفق، كما هو حال الكثيرين، لأن كتابتي تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على حياتي وتجربتي فيها. فالكتابة بالنسبة إليَّ بمكانة بديلٍ عن ذاتي: إذا لم تحبني، فأحب كتاباتي وأحبني من خلالها. لكنها كانت أكثر من ذلك بكثير أيضًا؛ كانت وسيلتي لتنظيم وإعادة ترتيب فوضى التجربة.
الكتابةُ فعلٌ دينيٌّ، إنَّها ترتيبٌ وإعادة تشكيل، وإعادة تعلُّم وإعادة حب للناس كما هم، وللعالم كما يمكنُ أن يكون.
إنَّها عملية تشكيل لا تتلاشى، كيومٍ نُضيعه في الطباعة أو يومٍ نقضيه في التدريس. فالكتابة تدومُ، فهي تخرجُ إلى العالم بمفردها. يقرؤها الناس، يتفاعلون معها كما يتفاعلون مع شخصٍ، أو فلسفةٍ، أو دينٍ، أو زهرةٍ إما أن تعجبهم أو لا، تساعدهم أو لا. إنَّها تكثِّفُ الحياة، تعطي المزيد، وتستكشفُ، وتسألُ، وتنظرُ، وتعلِّم وتشكِّل .
فإنَّكَ تكتبُ من أجل الكتابة نفسها أولًا، وإذا جلبت المال، فهذا جميل. لكنَّك لا تكتبُ أولًا من أجل المال. فالمال ليس السبب الذي يجعلك تجلسُ أمام الآلة الكاتبة، ولا يعني ذلك أنَّك لا تريدهُ. إنَّه شيءٌ رائعٌ للغاية عندما تدفع لك المهنة ثمنَ خُبزك وزبدتك. مع الكتابة، قد يحدث هذا، وقد لا يحدث. كيف يمكنُ العيشُ مع هذا القدر من انعدام الأمن؟ والأسوأ من ذلك، مع فقدانٍ أو نقصِ الإيمان بالكتابةِ نفسها من حين إلى آخر؟ كيف يمكن العيشُ مع هذه الأمور؟
فالموضوعات التي تجذبني بشكلٍ خاص بوصفي شاعرة، هي تلك التي تنطوي على الاختراق الجديد في التجربة العاطفية الشخصية والجادَّة جدًّا، والتي شعرتُ أنَّها كانت نوعًا ما محظورة لفترةٍ طويلةٍ. على سبيل المثال، قصائد روبرت لويل في كتاب «دراسات الحياة»، وبخاصةً تلك التي تتحدَّثُ عن تجربته في مستشفى للأمراض العقلية، أثارت اهتمامي كثيرًا.
أشعرُ أنَّ تلك الموضوعات الغريبة، الخاصَّة والمحظورة، اُستُكشِفت في الشِّعر الأمريكيِّ الحديث. أعتقدُ بشكلٍ خاص أن الشاعرة آن سيكستون، التي تكتبُ عن تجاربها بوصفها أمًّا، مرَّت بانهيارٍ عصبيٍّ، وهي امرأةٌ شديدة العاطفة والإحساس، وقصائدها مكتوبة بحرفيةٍ عاليةٍ، ومع ذلك تمتلكُ نوعًا من العمقِ العاطفيِّ والنفسيِّ، وهذا ربما شيء جديد تمامًا وشديد الإثارة.
لستُ شخصًا متكلَّفًا
بوصفي شاعرة وشخصًا يعيشُ بين ضِفتي الأطلسي، وكوني أمريكية الأصل، أعتقد أنُّه في ما يتعلقُ بالُّلغة فأنا أمريكية، ولهجتي أمريكية، وطريقتي في الحديث هي الطريقة الأمريكية في الحديث، كما أنَّني أمريكية قديمة الطراز. وهذا ربما أحد الأسباب التي تجعلني في إنجلترا الآن وأيضًا سبب بقائي دائمًا في إنجلترا. أنا متأخرةٌ بحوالي خمسين عامًا في ما يتعلق بتفضيلاتي، ويجب أن أقول إنَّ الشعراء الذين يثيرون حماستي أكثر هم أمريكيون، وهناك عدد قليل جدًّا من الشعراء الإنجليز المعاصرين الذين أعجب بهم.
أمَّا عن أن الشعر الإنجليزي متأخر عن نظيره الأمريكي أم لا، فأعتقد أنُّه ليس مُقيدًا نوعًا ما. كان هناك مقال لألفاريز، النَّاقد البريطاني، حيث كانت آراؤه حول مخاطر التكلُّف الزَّائد في إنجلترا في غاية الأهميَّة والصِّحة. أنا لستُ شخصًا متكلَّفًا للغاية، وأشعرُ أن التكلُّف يفرض سيطرته بشكلٍ خانقٍ: التنظيم، والترتيب المُتقن، الذي يبدو واضحًا في كل مكانٍ في إنجلترا، قد يكون أكثر خطورةً مما يظهرُ على السَّطح.
أتذكَّرُ عندما كنتُ في كامبريدج، كانت تأتي الشابَّات إليَّ ويقلن «كيف تجرئين على الكتابة وعلى نشر قصيدة، بسبب النقد الرهيب، الذي يقع على عاتق أي شخص ينشر؟». والنقد لا يكون موجهًا للقصيدة بوصفها قصيدة. أتذكَّرُ أنني شعرتُ بالدهشة عندما انتقدني أحدهم لأنني بدأت مثل چون دون، ولكن لم أتمكن تمامًا من إنهاء القصيدة مثله، وشعرتُ حينها أن الأدب الإنجليزي ما هو إلَّا عبء نفسيِّ عليَّ.. أعتقدُ أن التركيز الأساسي في إنجلترا، على الجامعات، والنَّقد العملي (ولكن ليس هذا فقط، بل على النَّقد التاريخي أيضًا، مثل معرفة من أي فترة يعود هذا السطر)، هذا كله يُعيق الحركة بالطَّبع. أما في أمريكا، ففي الجامعة، كنا نقرأ – ماذا؟ – ت. س. إليوت، وديلان توماس، وييتس، هذا هو المكان الذي بدأنا منه.
كان شكسبير يظهر كخلفيةٍ. لستُ متأكدة من أنني أتفق مع هذا. ولكن أعتقد أنه بالنسبة للشاعر الشاب الذي يكتب، فإن الذهاب إلى الجامعة في أمريكا ليس مخيفًا تمامًا كما هي الحال في إنجلترا، لهذه الأسباب.
أنت تتحدث إليَّ بوصفي أمريكية عامةً. خلفيتي، على وجه الخصوص، إذا جاز لي القول، ألمانية ونمساوية. من جهة، أنا أمريكية من الجيل الأول، ومن جهة أخرى، أنا أمريكية من الجيل الثاني، وبالتالي فإنَّ اهتمامي بمعسكرات الاعتقال وما إلى ذلك هو اهتمام مكثَّف وفريد من نوعه. وأيضًا، أنا شخصٌ سياسيٌّ إلى حدٍّ ما، لذلك أفترضُ أنَّ هذا جزءٌ من مصدر الإلهام.
أنا لست مؤرِّخة، لكنني أجدُ نفسي أكثر انجذابًا للتاريخ بشكلٍ متزايدٍ، والآن أجدُ نفسي أقرأ عن التَّاريخ أكثر فأكثر، كما أنَّني مهتمةٌ جدًّا بنابليون ؛ ومهتمة أيضًا جدًّا بالمعارك، والحروب، بجاليبولي، الحرب العالمية الأولى، وما إلى ذلك. وأعتقد أنه مع تقدُّمي في العمر، أصبحتُ أكثر ارتباطًا بالتاريخ. بالتأكيد لم أكُن كذلك على الإطلاق في أوائل العشرينيات من عمري.
لا أعتقد أن قصائدي تميلُ الآن إلى أن تأتي من الكُتب بدلا من حياتي الشخصية. أعتقد أن قصائدي تأتي مباشرةً من التجارب الحِسيَّة والعاطفيَّة التي أعيشها، ولكن يجب أن أقول إنني لا أتعاطف مع تلك الصرخات من القلب التي لا تستند إلى أي شيءٍ سوى إبرةٍ أو سكينٍ، أو أيًّا كان الأمر. أؤمنُ بأنَّه يجب أن يكون المرء قادرًا على التحكُّم في التجارب والتلاعب بها، حتى الأكثر فظاعةً، مثل الجنون، أو التعذيب، أو هذا النوع من التجارب، ويجب أن يكون المرء قادرًا على التعامل مع هذه التجارب بعقليةٍ واعيةٍ ومتعلِّمةٍ.
وأعتقدُ أنَّ التجربة الشخصية شديدة الأهمية، ولكنها بالتأكيد لا ينبغي أن تكون نوعًا من الصندوق المغلق أو تجربة نرجسية تتمحور حول الذَّات فقط. أؤمن بأنَّها يجب أن تكون ذات صلةٍ، بالأشياء الأكبر، وبالأمور الأعظم مثل هيروشيما وداخاو وما شابه ذلك.
يُمكن للقصيدة أن تحل محل ثمرة برقوق أو تفاح، ولكن بالخديعةِ والوهمِ، يُمكن للوحة فنيَّةٍ أن تُعيدُ تشكيل البُعد الذي تفقده عندما تكونُ محصورة في إطار قماش، كما يُمكن للقصيدة أن تخلق عالمًا حيويًّا داخل حُدودها. القصائد التي سأعرضها تحاولُ بطريقتها أن تستحضر مشاهد أو مواقف محددة، وهي بشكلٍ واضحٍ تتناولُ تفاصيل هذا العالم. وعندما أقولُ «هذا العالم”، فإنَّني أعني أيضًا مشاعر مثل: الخوفُ واليأسُ والفراغُ، إلى جانب حبِّ العائلة وفرحة التأمل في الطبيعة، وغالبًا ما ترتدي تلك المشاعر القاتمة أقنعة تبدو خارجة عن هذا العالم، كالأشباح والكائنات الأسطورية أو الآلهة القديمة.
والأهم في الكتابة لا يكمن في الحديث عنها، بل القيام بها بغضِّ النَّظر عن مدى سوئها أو حتى كونها متوسطة الجودة، فإن الكتابة والإنتاج هما الشيء الأساسي، وليس الجلوس والتنظير حول الطريقة المثالية للكتابة، أو مدى جودة الكتابة إذا أراد المرء حقًّا أو كان لديه الوقت. كما قال لي السيد كازين: «أنتَ لا تكتبُ لتُعيل نفسك؛ بل تعملُ لتُعيل كتاباتك».
بعض الأشياء تصعبُ الكتابة عنها. عندما تُحاول كتابة شيء ما قد حدث لك، فإما أنك ستُبالغ في دراميتهِ أو ستقلِّلُ من شأنه، تضخِّمُ الأجزاء الخاطئة أو تتجاهلُ الأجزاء المهمة. وفي كل الأحوال، لا تكتبه أبدًا بالطريقةِ التي تريدها تمامًا.
أشعر بالغيرةِ من أولئك الذين يفكرون بعمقٍ أكبر، والذين يكتبون بشكلٍ أفضل، والذين يرسمون بشكلٍ أجمل، والذين يتزلجون بإتقانٍ أكبر، والذين يظهرون بمظهرٍ أجمل، والذين يعيشون بشكل أفضل، والذين يحبون بطريقةٍ أعمق منّي.
كنت أُبرِّرُ الفوضى التي صنعتُها في حياتي بقولي إنَّني سأمنحها النظام والشكل والجمال من خلال الكتابة عنها. وكنت أُبرِّرُ كتابتي أيضًا بقولي إنِّها ستُنشر، وستمنحني حياة، بل وستُضْفِي على حياتي قيمةً واعتبارًا.
أريد أن أكتبَ لأن لديَّ رغبةً جامحةً في التفوق في وسيلةٍ واحدةٍ لترجمة الحياة والتعبير عنها. لا يمكنني أن أكتفي بالمهمة الهائلة المتمثلة في مجرَّد العيش. أوه، كلا، يجبُ أن أنُظِّمُ الحياة في السونيتات والسيستينات، وأوفر مرآة لفظية لرأسي المضاء بمصباح قدره 60 وات.
أصبحت الكتابة عبئًا ثقيلًا عليّ
لا أريدُ وظيفة حتى أصلَ إلى الرضا عن الكتابة، ومع ذلك أشعرُ بيأسٍ يدفعُني للبحث عن عملٍ ، شيءٍ يملأُ الفراغ داخلي عبر الاندماج في واقعٍ خارجيٍّ، حيث يقبل الناس فيه أمورًا مثل فواتير الهاتف، وجلب الطعام، وتربية الأطفال، والزواج، كجزءٍ من معنى هذا الكون.
عندما كنتُ صغيرة بعض الشيء كنتُ أقول لنفسي سأكونُ محظوظة إذا كتبتُ صفحةً واحدةً في اليوم، حينها أدركتُ ما مشكلتي، فقد كنتُ بحاجةٍ إلى تجربةٍ.
كيف يمكنني الكتابة عن الحياة وأنا لم أختبرْ علاقة حب أو أنجبُ طفلا أو حتى أشهدَ موت أحد؟ فتاةٌ أعرفها فازت للتو بجائزةِ عن قصة قصيرة كتبتها حول مغامراتها مع الأقزام في أفريقيا.
كيف يمكنني أن أتنافسَ مع شيءٍ من هذا القبيل؟ إذن، أجد نفسي أمام خيار أو اثنين: هل أستطيعُ الكتابة؟ وهل سأتمكَّنُ من الكتابة إذا واصلت المحاولة بما يكفي؟ وإلى أي مدى يجب أن أُضحِّي من أجل الكتابة قبل أن أكتشف ما إذا كنت أمتلكُ الموهبة حقًّا؟
أنا درامية وبطريقةٍ فوضويةٍ، أو بمعنى آخر، نصف ساخرة ونصف عاطفية. كنتُ في سنوات الفراغ يمكنني أن أنمو وأختار طريقي. أما الآن، فأعيشُ على الحافة. كلنا على شفا الهاوية، ويتطلَّبُ الأمرُ الكثير من الشجاعة والطَّاقة لنقف متأرجحين على الحافة، نحدِّقُ إلى الخارج، وننظرُ إلى الأسفل في الظلام العاصف من دون أن نتمكَّن تمامًا من تمييز ما يكمنُ في الأسفل، وسط الضباب الأصفر الكريه، في الوحل المتدفق، الملطَّخ بخطوط القيء؛ وهكذا يمكنني أن أستمر، بأفكاري، وأكتب كثيرًا، محاولةً العثور على الجوهر والمعنى بالنسبة لي.
لا أستطيعُ أن أعيشَ من أجل الحياة بحدِّ ذاتها، بل من أجل الكلمات التي تحفظ معناها في ظلِّ تغيراتها المُستمرَّة. أشعرُ أن حياتي لن تُعاش حقًا إلا بوجود كتبٍ وقصصٍ تعيدُ إحياءها باستمرارٍ عبر الزمن. أنسى بسهولةٍ كيف كانت، وأتقلَّصُ أمام رعبِ الحاضر، من دون ماضٍ أو مستقبل. تكسرُ الكتابة أقفال أقبيَّة الموتى، وتفتحُ السماوات التي تختبئ خلفها الملائكة المُتنبِّئة. يُبدعُ العقل ويبدعُ، ناسجًا شباكه.
تسألني لماذا أقضي حياتي في الكتابة؟ هل أجدُ مُتعة فيها؟ هل تستحقُّ العناء؟ وأهم من ذلك، هل تعودُ عليَّ بفائدةٍ ماديَّةٍ؟ وإن لم يكن الأمر كذلك، فهل هناك سببٌ؟ أكتبُ فقط لأنَّ هناك صوتًا داخلي لا يمكنهُ أن يصمت.
++++
سلڤيا بلاث (1932-1963)
شاعرة وروائية أمريكية حائزة على جائزة بوليتزر في الشعر.
اختيار وترجمة: سارة حامد حواس





