حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفنمجتمع

المثـقفـون والشـأن العـام

عبد الإله بلقزيز:

 

في زمن قريب مضى، قد يكون قبل بضعة عقود، كان للمثقفين العرب اتصال وثيق – بل شديدُ الوثاقة – بالشـأن العـام. حينها، كان حمَلـةُ الأقلام من الكتاب الأدباء والباحثين قد دخلوا، على الحقيقة، في زمرة المثـقفين؛ أي في عداد تلك الفئة من الكتاب التي لا تحترف الكتابة فحسب، بل التي تبدي أنواعا من الالتزام بالقضايا العامـة الجامعة، فتَـنْهَـمّ بها فكرا أو تنخرط في شؤونها واقعا.

في جملة هؤلاء المثـقفين من كانت قضايا الأمـة والمجتمع والإنسان من موضوعات تفكيره وإنتاجه الأدبي أو الفني أو الفكري، فيما كان فريق ثان منهم منغمسا في الدفاع عنها في أطر سياسية أو اجتماعية. وليس معنى ذلك أن الحدود فاصلة، هنا، بين فريق اقترن عنده الالتزام بالنظر حصرا، وآخر جاوز حدود النظر إلى العمل، بل القصد إلى التنويه إلى الغالب على مسلك هذا وذاك. وفي ما عدا هذا الفارق – وهو ليس قليلا كما سنلاحظ – فقد جمع بينهما إدراك مشترك لوظيفة أخرى للثقافة والفكر غير الوظيفة المعرفية؛ هي الوظيفة الاجتماعية.

كنتُ انتقدت، قبل ربع قرن، في كتابي «نهاية الداعية»، ظاهرة تغليب الكتاب وظائفهم الاجتماعية والسياسية على وظائفهم المعرفية، وميلهم إلى أداء وظيفة الدعاة بدلا من وظيفة منتجي المعارف والأفكار؛ ونبـهتُ إلى أن التزامهم قضايا الشعب والمجتمع إنما هـم يمارسونه بوصفهم مواطـنين، تُـرتـب عليهم حقوق المواطنة واجبَ ممارسة هذا الحـق في التعبير والممارسة، لا بوصفهم مثـقـفين يحملون رأسمالا معرفيا عليهم استثماره خدمة للفكر والمعرفة؛ التي هي، أيضا، خدمة عمومية. ودعوت، في خاتمة، نقد الداعية إلى اعتماد مفهوم آخر للالتزام مبـناه على التزام المعرفة، أو الالتزام المعرفي، وتزويد المثقفين المجتمع بحاجته من المعارف والرؤى.

لم يتغير موقفي عـما كتبته نقدا للمثقفين، قبل ربع قرن؛ فهو كـان نقدا للإيديولوجيا، في المقام الأول، ولطغيانها على المعرفة في نظام اشتغال المثـقـفين؛ وكان نقدا للأدوار الرسولية والخَلاصية التي انتحلها هؤلاء لأنفسهم أو زعموا بأنهم انتدبوا لها النَّفْس واللسان. ولقد كان ضروريا نقد تلك الأزعـومات قصد إعادة المثـقـفين إلى مكانهم وإلى أحجامهم الطبيعية بوصفهم فـئة حاملة لرأسمال لا يحمله غيرها، هو المعرفة والثقافة، وبوصف الرأسمال هذا ذا قيمة ووظيفة اجتماعيـتين جزيلتي العوائد على المجتمع والشعب والأمة إن أُحْـسِنَ أداؤهـما. لكني ما ذهبت في ذلك النقد إلى وجوب إعراض المثقفين عن الانهمام بالشأن العام والكتابة فيه وتقديم معارف في شأنه؛ إذْ ذلك عندي أدْخَـلُ في معنى الالتزام المعرفي الذي عنه دافعتُ، ناهيك بأن به فقط يكون أهل القلم مثقـفين.

كان ذلك في فترة (نهاية القرن الماضي) ما وَنَـى فيها الطلب على الالتـزام السياسي والحزبي عن الاشتداد في أوساط المثـقفين، إلى الحد الذي كاد فيه معنى التزام المثقف أن يطابق معنى عضويته في حزب شيوعي، أو يساري، أو قومي، أو وطني…إلخ؛ أي في فترة اقترن فيها الالتزام بالمؤسسة لا بالفكرة. ذلك زمن مضى ودَرَسَ رسْـمُه وطُوِيت فيه صفحة مثـقـف الحزب. أما اليوم فاختلف الأمر تماما؛ لم يعـد في أحزابنا العربية مثقـفون؛ باتت قاعا صفصفا بعد أن انطردوا منها وأُبْعِدُوا، أو دُفِـعوا إلى أن يغادروها زرافات ووحدانا، بعد أن ضاقت صدورها بهم وتضجـرت بطول ألسنتهم، فبات شأن السياسة فيها لا يستقيم إلا متى تحررت من أرباق الثقافة المضروبة عليها!

بيْد أن هجرة المثقفين من السياسة ومؤسساتها المهترئة انعكس على بضاعتهم وحرفتهم نكوصا متزايدا عن الشأن العام، وتنـكبا وإعراضا عن ملازمته. لا يُـدْرَى، على الحقيقة، ما إذا كان اختيارهم أن يَـفْرنْـقِعوا عن العمل السياسي الحزبي سيقودُهم، حُكْماً، إلى حُبوطٍ ويَآسة أم لا، لكن انكفاءتهم – اليوم – عن الشأن العام أدعى إلى الفهم – لا التفهـم – من انكفاء مَن لم يعيشوا تجربة التزام في العمل (الحزبي مثلا)، بل اكتفوا طويلا بالالتزام نظرا وتأليفا. هؤلاء أيضا نِيلَ من علاقتهم بقضايا المجتمع والإنسان إلى حد الضرب عنها صفحا؛ ربما لما عاينوه من انكسارات وهزائم تكبدها المجتمع ومنيت بها آمالهم. ولكن الذي عليه تكون المسائـلُ في ميزانها الصحيح أن امتحان القضايا العادلة والمشروعة ليس الرائز الذي به تكون مُـعَايَرةُ عدالتها وشرعيتها؛ فهذه عن امتحانها بمعزل: أنجحت فيه أم انتكبت؛ وهذه لا يجوز في حقها أن تنتقل في الوعي من الشأن المُنْهَمّ به إلى الأمر غير المأبوه إليه!

ما أسوأ من أن يكون مجتمع من غير مثقفين؛ أعني من غير فئة لا يعنيها مجتمعها والإنسان وقضاياهما في شيء. ليس في ذلك تعزيزا لدور المعرفة على حساب الالتزام، لأن المعرفة نفسها لا تكون كذلك (أي معرفة) إلا متى هي التزمت قضايا المجتمع والإنسان. لا أتحدث هنا عن المعرفة الخاصة بعلماء الرياضيات والفلك والطبيعة، بل بعلماء الإنسان والمجتمع وبالأدباء والمبدعين الذين موادهم وموضوعاتهم من هذا المحيط. بل حتى معارف علماء الرياضيات والطبيعة منذورة لخدمة قضايا المجتمع والإنسان.

نافذة:

هجرة المثقفين من السياسة ومؤسساتها المهترئة انعكس على بضاعتهم وحرفتهم نكوصا متزايدا عن الشأن العام وتنـكبا وإعراضا عن ملازمته

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى