
حسن بولهويشات
أريد أن أقول إن أكثر الناس دفاعا عن الوطن هم أكثرهم استعدادا لخيانته مع أول فرصة، أو على الأصح أول نكسة شخصية. وتصح هذه الحقيقة التي حسمنا فيها منذ البداية مع الذين يروجون لوطنيتهم المغشوشة بكل الوسائل المتاحة، كأن يلصقوا صور الملك على زجاج السيارة، ويغرسوا العلم الوطني في لوحة القيادة. أو حين يُطيلوا عُمر الملك بأصواتهم بمناسبة أو بدونها. وربما اعتمروا طرابيشَ حُمر في المناسبات الدينية، مازجين بين الله والمخزن في كأس واحدة.
إدريس البصري، وزير الداخلية طوال ربع قرن في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، أنموذج حقيقي لهذه الوطنية المغشوشة. فبمجرد أن تم التخلي عنه وإبعاده عن محيط الملك الجديد محمد السادس، حتى خرج إلى فرنسا وجلس يصرخ كأي أسد جريح، بل أول ما فعله هو حذف حرف الميم من الصحراء المغربية، وهو الذي ظل يتنقل بين مطارات العالم ويفاوض من أجلها بالغالي والنفيس. وبدل أن يتفهم شروط المرحلة وأن لكل عهد رجالاته، أخذ يهدد الخصوم بكرة حامية في يده على حد قوله. وقد سارعت حينها قناة «الجزيرة» وطرقت باب الرجل عسى أن يقول شيئا، لكنه ظل متراوحا بين لهجة شاوية المغرب وعربية من يجلس في الصف الأول ابتدائي، دون أن يفلح في الإجابة ولو عن سؤال واحد من أسئلة الصحفي.
كدنا ننسى الراحل البصري ووطنيته الغامضة إلى أن طلعت علينا هذه الأيام فيديوهات وطني آخر اسمه محمد راضي الليلي، مُقدِّم نشرة الأخبار الرئيسية بالقناة الأولى طوال سنوات، والذي وجد نفسه مُبعدًا من الميكروفون، بعدما انتقد المؤسسة الإعلامية التي يشتغل معها. لم يرض راضي بحياته الجديدة التي خيم عليها «الليل» والظلام، فطلع هو الآخر إلى فرنسا، وكأن هذه الأخيرة هي الجبل الذي يحتمي الجميع بقمته حين يطفح الماء في السفح، وفتح قناة على «اليوتيوب» وجلس يستزيد بنخيل الجنوب على الوطن، في كلام أستبعد أن يؤثر مضمونه على أي جهة، وبالأحرى على مفاوضات الصحراء، لأن الذي يغير معطفه مرة مستعد أن يفعلها مرة أخرى بل مرات.
وغير بعيد عن السياق، نتذكر الشاعر المتنبي من بين كل هؤلاء الذين غيروا معاطفهم إن أدت العبارة معناها، فبالرغم من أن وطن المتنبي واحد هو القصيدة، فلا أحد كان يعرف أين تهيم روحه وأين تركن أحلامه العظيمة ومتى يستدير ظهره ويغادر بلا أسف. فمن وطنه الأم العراق إلى حلب سيف الدولة الحمداني إلى مصر كافور الإخشيدي والبيت الشعري الشهير: «لا تشتر العبد إلا والعصا معه/ إن العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ»، والذي جر عليه الويلات، وصولا إلى إيران أيام حكم البويهيين، ثم رجوعا إلى الكوفة بالعراق..
عودة إلى إدريس البصري وراضي الليلي، وجب القول إن مسألة خيانة الوطن ليست مرتبطة دوما بالوحدة الترابية، غير أن ما يثير في قضية الرجلين هو هذا المشهد المقرف، حيث هناك من يمسك عنق الرهينة بيد ويشهر المسدس بيد أخرى، طالبا التفاوض بمسائل محددة في رأسه. أما الذين يخونون أوطانهم من تجار أزمات، ومقاولين يسبقهم الجشع، ومنتخبين مرتشين، ومسؤولين لصوص بجنسيات مزدوجة مستعدين للطيران بعيدا في أي لحظة، فهؤلاء جميعا يصعب تحديدهم في جردة حساب إلى درجة يُخيل لنا أنه في كل مواطن ينام خائن حقيقي. لكن إلى متى سنداري بالقناعات الراسخة وبعض القهوة هذا النائم في ثيابنا وبين أغراضنا؟ ومتى نستسلم لأهواء وأرياح هذا الغريب ونتأهب كي ننطلق كأجلاف؟
إنها مسألة وقت!





